بداية تحول حقيقي، تقرير صادم عن سعر الذهب والفضة عام 2026    قوات التحالف تنشر مشاهد استهداف أسلحة وعربات قتالية في اليمن وتفند بيان الإمارات (فيديو)    نصف جيشهم من الجهاديين ولكن، نتنياهو يحدد موقفه من إقامة علاقات واتفاق سلام مع سوريا    ترتيب الدوري الإنجليزي بعد فوز آرسنال وتعثر مانشستر يونايتد وتشيلسي    مصرع طفل دهسه قطار الفيوم الواسطي أثناء عبوره مزلقان قرية العامرية    طقس رأس السنة.. «الأرصاد» تحذر من هذه الظواهر    زيلينسكي يناقش مع ترامب تواجد قوات أمريكية في أوكرانيا    "25يناير."كابوس السيسي الذي لا ينتهي .. طروحات عن معادلة للتغيير و إعلان مبادئ "الثوري المصري" يستبق ذكرى الثورة    «مسار سلام» يجمع شباب المحافظات لنشر ثقافة السلام المجتمعي    محافظ القاهرة: معرض مستلزمات الأسرة مستمر لأسبوع للسيطرة على الأسعار    توتر متصاعد في البحر الأسود بعد هجوم مسيّرات على ميناء توابسه    رئيس جامعة قنا يوضح أسباب حصر استقبال الحالات العادية في 3 أيام بالمستشفى الجامعي    د.حماد عبدالله يكتب: نافذة على الضمير !!    المنتجين العرب يعلن دعمه وإشادته بمبادرة الشركة المتحدة للارتقاء بالمحتوى الإعلامي    «قاطعوهم يرحمكم الله».. رئيس تحرير اليوم السابع يدعو لتوسيع مقاطعة «شياطين السوشيال ميديا»    خالد الصاوي: لا يمكن أن أحكم على فيلم الست ولكن ثقتي كبيرة فيهم    المحامى محمد رشوان: هناك بصيص أمل فى قضية رمضان صبحى    مصدر بالزمالك: سداد مستحقات اللاعبين أولوية وليس فتح القيد    شادي محمد: توروب رفض التعاقد مع حامد حمدان    نتائج الجولة 19 من الدوري الإنجليزي الممتاز.. تعادلات مثيرة وسقوط مفاجئ    "البوابة نيوز" ينضم لمبادرة الشركة المتحدة لوقف تغطية مناسبات من يطلق عليهم مشاهير السوشيال ميديا والتيك توكرز    الأمم المتحدة تحذر من أن أفغانستان ستظل من أكبر الأزمات الإنسانية خلال 2026    قيس سعيّد يمدد حالة الطوارئ في تونس حتى نهاية يناير 2026    مانشستر يونايتد يسقط فى فخ التعادل أمام وولفرهامبتون بالدوري الإنجليزي    من موقع الحادث.. هنا عند ترعة المريوطية بدأت الحكاية وانتهت ببطولة    دعم صحفي واسع لمبادرة المتحدة بوقف تغطية مشاهير السوشيال ميديا والتيك توك    نتنياهو يزعم بوجود قضايا لم تنجز بعد في الشرق الأوسط    تموين القاهرة: نتبنى مبادرات لتوفير منتجات عالية الجودة بأسعار مخفضة    التنمية المحلية: تقليص إجراءات طلبات التصالح من 15 إلى 8 خطوات    طرح البرومو الأول للدراما الكورية "In Our Radiant Season" (فيديو)    رضوى الشربيني عن قرار المتحدة بمقاطعة مشاهير اللايفات: انتصار للمجتهدين ضد صناع الضجيج    الخميس.. صالون فضاءات أم الدنيا يناقش «دوائر التيه» للشاعر محمد سلامة زهر    لهذا السبب... إلهام الفضالة تتصدر تريند جوجل    ظهور نادر يحسم الشائعات... دي كابريو وفيتوريا في مشهد حب علني بلوس أنجلوس    بسبب الفكة، هل يتم زيادة أسعار تذاكر المترو؟ رئيس الهيئة يجيب (فيديو)    قرارات حاسمة من تعليم الجيزة لضبط امتحانات الفصل الدراسي الأول    د هاني أبو العلا يكتب: .. وهل المرجو من البعثات العلمية هو تعلم التوقيع بالانجليزية    غدًا.. محاكمة 3 طالبات في الاعتداء على الطالبة كارما داخل مدرسة    حلويات منزلية بسيطة بدون مجهود تناسب احتفالات رأس السنة    الحالة «ج» للتأمين توفيق: تواجد ميدانى للقيادات ومتابعة تنفيذ الخطط الأمنية    أمين البحوث الإسلامية يلتقي نائب محافظ المنوفية لبحث تعزيز التعاون الدعوي والمجتمعي    ملامح الثورة الصحية فى 2026    هل تبطل الصلاة بسبب خطأ فى تشكيل القرآن؟ الشيخ عويضة عثمان يجيب    هل يجب خلع الساعة والخاتم أثناء الوضوء؟.. أمين الفتوى يجيب    جامعة عين شمس تستضيف لجنة منبثقة من قطاع طب الأسنان بالمجلس الأعلى للجامعات    خالد الجندى: القبر محطة من محطات ما بعد الحياة الدنيا    خالد الجندي: القبر مرحلة في الطريق لا نهاية الرحلة    حقيقة تبكير صرف معاشات يناير 2026 بسبب إجازة البنوك    الأهلي يواجه المقاولون العرب.. معركة حاسمة في كأس عاصمة مصر    السيطرة على انفجار خط المياه بطريق النصر بمدينة الشهداء فى المنوفية    رئيس جامعة قناة السويس يهنئ السيسي بالعام الميلادي الجديد    رئيس جامعة العريش يتابع سير امتحانات الفصل الدراسي الأول بمختلف الكليات    الصحة: تقديم 22.8 مليون خدمة طبية بالشرقية وإقامة وتطوير المنشآت بأكثر من ملياري جنيه خلال 2025    الزراعة: تحصين 1.35 مليون طائر خلال نوفمبر.. ورفع جاهزية القطعان مع بداية الشتاء    معهد الأورام يستقبل وفدا من هيئة الهلال الأحمر الإماراتي لدعم المرضى    تراجع معظم مؤشرات البورصة بمستهل تعاملات الثلاثاء    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 30-12-2025 في محافظة الأقصر    نسور قرطاج أمام اختبار لا يقبل الخطأ.. تفاصيل مواجهة تونس وتنزانيا الحاسمة في كأس أمم إفريقيا 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رحيل التشكيلي العراقي راكان دبدوب.. رسام الطبيعة والتاريخ
نشر في صوت البلد يوم 15 - 02 - 2017

ودّعت مدينة الموصل رائد الفن التشكيلي الحديث فيها؛ الفنان راكان دبدوب، الذي يعد المؤسس الأول للتجربة الجديدة في الرسم، بعد رواد شكّلوا المدارس التقليدية فيها. دبدوب رفض الخروج أو مغادرة مدينته الأم الموصل، على الرغم من كل ما عاشته خلال السنوات الثلاث الأخيرة، وبقي ملتزماً بيته الذي بناه بيديه، وشكّله كما يشكّل لوحاته وهو يعيد رحم مدينته مع كل مرحلة تمر عليها.
دبدوب ولد في الموصل عام 1941 وتخرج في معهد الفنون الجميلة في بغداد عام 1961، ليكمل بعد ذلك دراسته العالية للفن التشكيلي في أكاديمية روما عام 1965.. عمل دبدوب أستاذاً للفن في كلية الهندسة قسم العمارة في جامعة الموصل، واستمر في عمله هذا حتى تقاعده عام 1993.
كانت المشاركة الأولى لدبدوب في معرض الجريدة الإيطالية السنوي وحصل على دبلوم ومدالية فضية لسنتين 1962 و1963، ليحصل بعدها على جائزة دانتي في معرض أقامته العلاقات الثقافية الإيطالية العربية في روما عام 1962، كما حصل على الجائزة الثانية في مسابقة سان رومانو الذي أقامته بلدية روما عام 1962. ربما كانت هذه البدايات سبباً ليشكّل دبدوب رقماً صعباً في التشكيل العراقي والعربي عموماً، حتى أقام أكثر من خمسة وثلاثين معرضاً لأعماله الشخصية في العراق والعالم.
وفضلاً عن الرسم، فإن لدبدوب نتاجات في النحت والتخطيط والتصوير الفوتوغرافي ونحت الخشب والبرونز والمرمر والفخار والموازييك والكرافيك وغيرها الكثير من النتاجات في مختلف الفنون.
الموصل عشقه الدائم
كانت مدينة الموصل محور أغلب لوحات دبدوب، فقد رسم مدينته في لوحات كثيرة معبرة جداً عن إحساس هذه المدينة، كما يقول الكاتب عماد رّمو الذي تناول أربع لوحات عن الموصل في دراسة مطوّلة له، هذه اللوحات تمثّل انتقالاً من هوية وعمق وعمارة المدينة، إلى تجريد كامل لبانوراما رؤيته المثالية لها. من مدينة ضبابية، شتائية بألوان داكنة حزينة وعمق أزقتها يطول ويطول وسماء بلون الأرض، قبب زرقاء ترتفع منها ونوافذ موصلية مغلقة وثلاث أشجار. إنها حزينة حقاً كمدينة شتائية، لينتقل بعدها إلى مدينة ربيعية هادئة في تكوين بديع وانتقالات لطيفة بين المدينة والأفق في تكوين مثالي الشكل، قبب تُرفع منها الصلوات وأبواب مفتوحة للجميع، نوافذ مضاءة بالوان زاهية. مدينة خضراء. الضوء الرباني الذي يشع من خلف المدينة يكَون سماءً ذهبية زاهية في لونها وصفائها. الخطوط المائلة التي احتوت ظلال البيوت والجوامع تحولت إلى سطوح أضافت عمقاً جديداً وحاداً لهذه المدينة.
أما في لوحته (مدينة رقم 3) فنجد الموصل تلبس ثياب العيد، حيث ابتهجت بهذه الألوان الرائعة. ندخل إلى قببها وبيوتها، انتقال رائع من المنظور الخارجي إلى المنظور الداخلي بمقطع معماري التكوين رائع في هندسته. لقد جمع بين تقنية اللون والشكل في جدارية رائعة تشع الفرح والبهجة من خلال نوافذها الملونة. طيارات العيد الورقية مزجت حركة المدينة مع استقرار التكوين وأعاد دبدوب ذكرياته الطفولية عندما كان أطفال الحارة يتسابقون في الطيران بأحلامهم الورقية.
لكن دبدوب يعود في لوحته (مدينة رقم 4) إلى التجريد الكامل والانتقال إلى عمق وإحساس المدينة في جدارية طويلة الشكل. امتزجت السماء بالأرض وانعكس ضوء بيوت مدينته على النهر في لوحة بديعة. الأزرق هنا يشكل أكثر من ثلثي اللوحة، ولكنه تفاعل مع عمارتها وأضاءت الألوان الأخرى الأشكال التي تتراقص في تشكيلة بنائية جميلة.
ويشير رمّو إلى أن دبدوب لا يرسم فقط في هذه اللوحات وإنما يعزف موسيقى رائعة من خلال الإحساس الذي يمزجه ويضعه في التكوين الكلي والأجزاء وأشكالها واللون وتدرجاته مع جدران تتمكن من لمسها بحيث تشعر أحياناً بأنك تتجول في مدينته من خلال ريشته… هذه اللوحات تكون مع بعضها بعضا سمفونية تشكيلية ولونية يعزفها مرة ثانية بريشته على قماش اللوحة. كل لوحة هي جزء ولحن من ألحان مدينته، إنه يعزف من خلال الألوان، وكما الموسيقى نفسها تبث في النفس إحساساً معيناً وتسرد قصة حبه.
خلّد الفنان مدينته بهذه السمفونية التشكيلية التي ستبقى عالقة في ذاكرة التاريخ دائماً. يبحث دائماً عن التجديد ولا يحب التقليد أبداً وخلق لنفسه ولفنه أسلوباً مميزاً لا يستطيع أي فنان آخر أن ينافسه عليه. لقد درس شكل الفوَهة كثيراً منذ أن كان طالباً في روما، وقام بتطويرها لتصبح الفوهة مفتاح وختم جميع لوحاته، فقلما تجد لوحة له لم يختمها بفوهة أو أكثر، إنها الختم الاسطواني له. لقد رسم الطبيعة كما هي ورسم التاريخ كما هو في الكتب أيضاً. كان يرسم الأشياء ويبسطها إلى درجة الكمال، ثم يهب لها لوناً وملمساً متفرداً، حتى أنه يقول عن نفسه: أنا وجدت نفسي الآن، أرسم الأشياء التي أبحث عن غرابتها وأريد أن يكون رسمي غريباً.
لوحات الانتماء
ويقول الفنان التشكيلي زياد جسّام إن أعمال دبدوب لا تخلو من رمزية‏‎ انتمائه لحضارة عريقة أنجبت العديد من المبدعين، وأهّلته لأن تكون لديه مقدرة على تجاوز نمطية الأساليب التي باتت مستهلة، إذ‎ اختار رموزاً جديدة في محاولة لإدراجها ضمن تشكيل الحداثة، فقد استطاع أن يكون من‎ الفنانين الجماهيريين، إذ انتشرت أعماله بين شريحة كبيرة من‎ العالم. مضيفاً: ربما كان عارفاً بهذا كي يكون خطابه يتبع أثراً مضى. اختار مشغله وتجاربه الذاتية بهدوء، وكان يرسم أعماله وينفذ‏‎ نماذجه بعناية بعيدة عن التكرار.. يراها المتلقي كل حسب زاويته، وإغناء العمل بما يحمل‎ من تقنيات إبداعية هي التي‎ تحدد تعدد الزوايا واختلاف الرؤية من عين لأخرى.. إن الإشارات والرموز ذات‎ اللون الأصيل في تقنياته هي التي ميزت أعمال هذا الفنان الرائد. لقد‎ ترك في ذاكرتنا إرثا فنياً ذا قيمة لا تقل أهمية عن‎ إرث الحضارة الرافدينية، إذ أصبحت أعماله تراثاً تشكيلياً وفكرياً في‎ التأريخ المعاصر، فهو يرسم بطريقة التجريب إذ اشتغل على أكثر من مدرسة‏‎ فنية، واستنبط لوحاته من الواقع بصورة تعبيرية مجردة. إن ما يلفت الانتباه‎ في أعماله خلال مسيرته الفنية تلك الثقوب المرسومة بغرابة، حيث الإثارة‎ والتعتيم والانسياب الذاتي لكتلته التي أصبحت بمثابة بصمة شخصية ميزت كل ما‎ ينتجه، صاغ شخصياته ومفرداته بشكل متراص، إلا أنه ترك بعض الفضاءات لإثراء‎ العمل وإعطائه قيمة دلالية فنية فكرية، توزيعه للألوان النقية والفكرة يجعل‎ اللوحة متحركة بين الشكل والمضمون.
استطاع دبدوب أن ينطلق بعقليته الإبداعية المتوقدة الخاصة باعتماده رموزاً محلية نحو النجومية، إذ أصبح من‎ رواد الحركة التشكيلية العراقية ولم يقتصر على ذلك، إذ إن نجمه يلوح في‎ الكثير من بلدان العالم. إن وعي دبدوب البصري منحه الفرصة الكافية لإنتاج فن‎ عميق وبخياله الواسع راهن على إيقاف المتلقي، وجعله في حوار مشترك يأخذه‎ لعمق اللوحة، حيث التأمل في عالم انفعالي بلغة بصرية توحي بالكتلة والحجم‎ والحركة، هكذا برزت على لوحاته تلك التأملات التي يمكن أن نؤولها أكثر من‎ مرة خلال مشاهدتنا لأي عمل من أعماله، صنعها بتجريد مبسط وحيادية تفصح عن‎ نفسها، خالقاً بذلك تجسيد واقعية الزمكانية، تلك التقنية وفرت له هوية‎ تشكيلية شخصية متفردة، ووحدت أعماله من حيث إمكانية وضعها ضمن إطار تجاور‎ شكل أو مضمون أو الاثنين معاً، دون إحساس بخلل، فكل منهما يكمل الآخر، لوحاته متناغمة في توزيع الفراغ والمساحات اللونية، من هنا تأتي قوة أعماله،‎ حيث المرونة والصلابة في سطوحها، كما أنه أضاف لها نصوصاً ذهنية، حيث اعتمدها‏‎ وارتكز عليها في عمله التشكيلي، ليصل بها إلى أ‎قرب نقطة من الحداثة. حاول راكان دبدوب التركيز على‎ خطاب غير معقد، لكنه غير مبسط أيضاً، هذا سر إبداعه الذي اقتحم به الوسط‎ التشكيلي في بداية الستينيات، إنها تجربة فريدة لها بصمة تعكس ذاته‎ أمام مرآة الفن العراقي المعاصر.
نشاط استثنائي
عرف الفنان بنشاطه الفني المتميز، فقد شارك بمئات المعارض المشتركة، فضلاً عن معارضه الشخصية التي تجاوزت 35 معرضاً منذ منتصف ستينيات القرن الماضي حتى أوائل عام 1990 الذي شهد معرضه الشخصي السادس والثلاثين. كانت معارض راكان دبدوب الشخصية مراحلَ نوعية تؤشر نشاطه في مجال البحث الدؤوب والتجديد المستمر، كان هذا الفنان يهتم بمتانة البنيان للوحاته، التي كانت قوية التأسيس مترابطة ما حدا ببعض المعلقين إلى القول بأنه يرسم كأنه ينحت، وبالفعل فقد كانت أعماله المنفذة بشكل خاص في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القوة والكثافة اللونية ما يوحي للناظر كأنها ذات بعد ثالث. وفي معارضه المتأخرة ومشاركاته في أواخر التسعينيات في العاصمة الأردنية عمان، رأى بعض النقاد أن أعماله فقدت بعض زخمها وكثافتها وربما لعب وضعه الصحي وإصراره على المحافظة على الزخم نفسه السابق دوراً في ذلك.
وفي معرضه الذي أقامه على قاعة نظر، قدم فنان آخر هو الفنان عامر العبيدي أعمالاً عن إنسان مستوحد تستطيل مقاسات جسده ويجلس مستطرقاً ساهماً عديم الملامح تبرز على الخلفية من وراءه تكويناتٌ تكعيبية تشبه الكراسي كأنما صنعت من خشب صلد… إن موضوع الإنسان المستوحد الصامت التي تكررت بطرق مختلفة ومبتكرة في أعمال الكثير من الفنانين العراقيين في تلك الحقبة تعكس الشعور الحاد بالأزمة الوجودية والاغتراب، وهي غالباً ما تكون قناع الفنان.
ودّعت مدينة الموصل رائد الفن التشكيلي الحديث فيها؛ الفنان راكان دبدوب، الذي يعد المؤسس الأول للتجربة الجديدة في الرسم، بعد رواد شكّلوا المدارس التقليدية فيها. دبدوب رفض الخروج أو مغادرة مدينته الأم الموصل، على الرغم من كل ما عاشته خلال السنوات الثلاث الأخيرة، وبقي ملتزماً بيته الذي بناه بيديه، وشكّله كما يشكّل لوحاته وهو يعيد رحم مدينته مع كل مرحلة تمر عليها.
دبدوب ولد في الموصل عام 1941 وتخرج في معهد الفنون الجميلة في بغداد عام 1961، ليكمل بعد ذلك دراسته العالية للفن التشكيلي في أكاديمية روما عام 1965.. عمل دبدوب أستاذاً للفن في كلية الهندسة قسم العمارة في جامعة الموصل، واستمر في عمله هذا حتى تقاعده عام 1993.
كانت المشاركة الأولى لدبدوب في معرض الجريدة الإيطالية السنوي وحصل على دبلوم ومدالية فضية لسنتين 1962 و1963، ليحصل بعدها على جائزة دانتي في معرض أقامته العلاقات الثقافية الإيطالية العربية في روما عام 1962، كما حصل على الجائزة الثانية في مسابقة سان رومانو الذي أقامته بلدية روما عام 1962. ربما كانت هذه البدايات سبباً ليشكّل دبدوب رقماً صعباً في التشكيل العراقي والعربي عموماً، حتى أقام أكثر من خمسة وثلاثين معرضاً لأعماله الشخصية في العراق والعالم.
وفضلاً عن الرسم، فإن لدبدوب نتاجات في النحت والتخطيط والتصوير الفوتوغرافي ونحت الخشب والبرونز والمرمر والفخار والموازييك والكرافيك وغيرها الكثير من النتاجات في مختلف الفنون.
الموصل عشقه الدائم
كانت مدينة الموصل محور أغلب لوحات دبدوب، فقد رسم مدينته في لوحات كثيرة معبرة جداً عن إحساس هذه المدينة، كما يقول الكاتب عماد رّمو الذي تناول أربع لوحات عن الموصل في دراسة مطوّلة له، هذه اللوحات تمثّل انتقالاً من هوية وعمق وعمارة المدينة، إلى تجريد كامل لبانوراما رؤيته المثالية لها. من مدينة ضبابية، شتائية بألوان داكنة حزينة وعمق أزقتها يطول ويطول وسماء بلون الأرض، قبب زرقاء ترتفع منها ونوافذ موصلية مغلقة وثلاث أشجار. إنها حزينة حقاً كمدينة شتائية، لينتقل بعدها إلى مدينة ربيعية هادئة في تكوين بديع وانتقالات لطيفة بين المدينة والأفق في تكوين مثالي الشكل، قبب تُرفع منها الصلوات وأبواب مفتوحة للجميع، نوافذ مضاءة بالوان زاهية. مدينة خضراء. الضوء الرباني الذي يشع من خلف المدينة يكَون سماءً ذهبية زاهية في لونها وصفائها. الخطوط المائلة التي احتوت ظلال البيوت والجوامع تحولت إلى سطوح أضافت عمقاً جديداً وحاداً لهذه المدينة.
أما في لوحته (مدينة رقم 3) فنجد الموصل تلبس ثياب العيد، حيث ابتهجت بهذه الألوان الرائعة. ندخل إلى قببها وبيوتها، انتقال رائع من المنظور الخارجي إلى المنظور الداخلي بمقطع معماري التكوين رائع في هندسته. لقد جمع بين تقنية اللون والشكل في جدارية رائعة تشع الفرح والبهجة من خلال نوافذها الملونة. طيارات العيد الورقية مزجت حركة المدينة مع استقرار التكوين وأعاد دبدوب ذكرياته الطفولية عندما كان أطفال الحارة يتسابقون في الطيران بأحلامهم الورقية.
لكن دبدوب يعود في لوحته (مدينة رقم 4) إلى التجريد الكامل والانتقال إلى عمق وإحساس المدينة في جدارية طويلة الشكل. امتزجت السماء بالأرض وانعكس ضوء بيوت مدينته على النهر في لوحة بديعة. الأزرق هنا يشكل أكثر من ثلثي اللوحة، ولكنه تفاعل مع عمارتها وأضاءت الألوان الأخرى الأشكال التي تتراقص في تشكيلة بنائية جميلة.
ويشير رمّو إلى أن دبدوب لا يرسم فقط في هذه اللوحات وإنما يعزف موسيقى رائعة من خلال الإحساس الذي يمزجه ويضعه في التكوين الكلي والأجزاء وأشكالها واللون وتدرجاته مع جدران تتمكن من لمسها بحيث تشعر أحياناً بأنك تتجول في مدينته من خلال ريشته… هذه اللوحات تكون مع بعضها بعضا سمفونية تشكيلية ولونية يعزفها مرة ثانية بريشته على قماش اللوحة. كل لوحة هي جزء ولحن من ألحان مدينته، إنه يعزف من خلال الألوان، وكما الموسيقى نفسها تبث في النفس إحساساً معيناً وتسرد قصة حبه.
خلّد الفنان مدينته بهذه السمفونية التشكيلية التي ستبقى عالقة في ذاكرة التاريخ دائماً. يبحث دائماً عن التجديد ولا يحب التقليد أبداً وخلق لنفسه ولفنه أسلوباً مميزاً لا يستطيع أي فنان آخر أن ينافسه عليه. لقد درس شكل الفوَهة كثيراً منذ أن كان طالباً في روما، وقام بتطويرها لتصبح الفوهة مفتاح وختم جميع لوحاته، فقلما تجد لوحة له لم يختمها بفوهة أو أكثر، إنها الختم الاسطواني له. لقد رسم الطبيعة كما هي ورسم التاريخ كما هو في الكتب أيضاً. كان يرسم الأشياء ويبسطها إلى درجة الكمال، ثم يهب لها لوناً وملمساً متفرداً، حتى أنه يقول عن نفسه: أنا وجدت نفسي الآن، أرسم الأشياء التي أبحث عن غرابتها وأريد أن يكون رسمي غريباً.
لوحات الانتماء
ويقول الفنان التشكيلي زياد جسّام إن أعمال دبدوب لا تخلو من رمزية‏‎ انتمائه لحضارة عريقة أنجبت العديد من المبدعين، وأهّلته لأن تكون لديه مقدرة على تجاوز نمطية الأساليب التي باتت مستهلة، إذ‎ اختار رموزاً جديدة في محاولة لإدراجها ضمن تشكيل الحداثة، فقد استطاع أن يكون من‎ الفنانين الجماهيريين، إذ انتشرت أعماله بين شريحة كبيرة من‎ العالم. مضيفاً: ربما كان عارفاً بهذا كي يكون خطابه يتبع أثراً مضى. اختار مشغله وتجاربه الذاتية بهدوء، وكان يرسم أعماله وينفذ‏‎ نماذجه بعناية بعيدة عن التكرار.. يراها المتلقي كل حسب زاويته، وإغناء العمل بما يحمل‎ من تقنيات إبداعية هي التي‎ تحدد تعدد الزوايا واختلاف الرؤية من عين لأخرى.. إن الإشارات والرموز ذات‎ اللون الأصيل في تقنياته هي التي ميزت أعمال هذا الفنان الرائد. لقد‎ ترك في ذاكرتنا إرثا فنياً ذا قيمة لا تقل أهمية عن‎ إرث الحضارة الرافدينية، إذ أصبحت أعماله تراثاً تشكيلياً وفكرياً في‎ التأريخ المعاصر، فهو يرسم بطريقة التجريب إذ اشتغل على أكثر من مدرسة‏‎ فنية، واستنبط لوحاته من الواقع بصورة تعبيرية مجردة. إن ما يلفت الانتباه‎ في أعماله خلال مسيرته الفنية تلك الثقوب المرسومة بغرابة، حيث الإثارة‎ والتعتيم والانسياب الذاتي لكتلته التي أصبحت بمثابة بصمة شخصية ميزت كل ما‎ ينتجه، صاغ شخصياته ومفرداته بشكل متراص، إلا أنه ترك بعض الفضاءات لإثراء‎ العمل وإعطائه قيمة دلالية فنية فكرية، توزيعه للألوان النقية والفكرة يجعل‎ اللوحة متحركة بين الشكل والمضمون.
استطاع دبدوب أن ينطلق بعقليته الإبداعية المتوقدة الخاصة باعتماده رموزاً محلية نحو النجومية، إذ أصبح من‎ رواد الحركة التشكيلية العراقية ولم يقتصر على ذلك، إذ إن نجمه يلوح في‎ الكثير من بلدان العالم. إن وعي دبدوب البصري منحه الفرصة الكافية لإنتاج فن‎ عميق وبخياله الواسع راهن على إيقاف المتلقي، وجعله في حوار مشترك يأخذه‎ لعمق اللوحة، حيث التأمل في عالم انفعالي بلغة بصرية توحي بالكتلة والحجم‎ والحركة، هكذا برزت على لوحاته تلك التأملات التي يمكن أن نؤولها أكثر من‎ مرة خلال مشاهدتنا لأي عمل من أعماله، صنعها بتجريد مبسط وحيادية تفصح عن‎ نفسها، خالقاً بذلك تجسيد واقعية الزمكانية، تلك التقنية وفرت له هوية‎ تشكيلية شخصية متفردة، ووحدت أعماله من حيث إمكانية وضعها ضمن إطار تجاور‎ شكل أو مضمون أو الاثنين معاً، دون إحساس بخلل، فكل منهما يكمل الآخر، لوحاته متناغمة في توزيع الفراغ والمساحات اللونية، من هنا تأتي قوة أعماله،‎ حيث المرونة والصلابة في سطوحها، كما أنه أضاف لها نصوصاً ذهنية، حيث اعتمدها‏‎ وارتكز عليها في عمله التشكيلي، ليصل بها إلى أ‎قرب نقطة من الحداثة. حاول راكان دبدوب التركيز على‎ خطاب غير معقد، لكنه غير مبسط أيضاً، هذا سر إبداعه الذي اقتحم به الوسط‎ التشكيلي في بداية الستينيات، إنها تجربة فريدة لها بصمة تعكس ذاته‎ أمام مرآة الفن العراقي المعاصر.
نشاط استثنائي
عرف الفنان بنشاطه الفني المتميز، فقد شارك بمئات المعارض المشتركة، فضلاً عن معارضه الشخصية التي تجاوزت 35 معرضاً منذ منتصف ستينيات القرن الماضي حتى أوائل عام 1990 الذي شهد معرضه الشخصي السادس والثلاثين. كانت معارض راكان دبدوب الشخصية مراحلَ نوعية تؤشر نشاطه في مجال البحث الدؤوب والتجديد المستمر، كان هذا الفنان يهتم بمتانة البنيان للوحاته، التي كانت قوية التأسيس مترابطة ما حدا ببعض المعلقين إلى القول بأنه يرسم كأنه ينحت، وبالفعل فقد كانت أعماله المنفذة بشكل خاص في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القوة والكثافة اللونية ما يوحي للناظر كأنها ذات بعد ثالث. وفي معارضه المتأخرة ومشاركاته في أواخر التسعينيات في العاصمة الأردنية عمان، رأى بعض النقاد أن أعماله فقدت بعض زخمها وكثافتها وربما لعب وضعه الصحي وإصراره على المحافظة على الزخم نفسه السابق دوراً في ذلك.
وفي معرضه الذي أقامه على قاعة نظر، قدم فنان آخر هو الفنان عامر العبيدي أعمالاً عن إنسان مستوحد تستطيل مقاسات جسده ويجلس مستطرقاً ساهماً عديم الملامح تبرز على الخلفية من وراءه تكويناتٌ تكعيبية تشبه الكراسي كأنما صنعت من خشب صلد… إن موضوع الإنسان المستوحد الصامت التي تكررت بطرق مختلفة ومبتكرة في أعمال الكثير من الفنانين العراقيين في تلك الحقبة تعكس الشعور الحاد بالأزمة الوجودية والاغتراب، وهي غالباً ما تكون قناع الفنان.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.