يحتل المكان السردي محور اهتمام رواية "بروكلين هايتس"، للروائية المصرية ميرال الطحاوي، والصادرة مؤخرًا عن دار ميريت للنشر والتوزيع، بالقاهرة، والتي يرتكز أغلبها إلي أمكنة تحيط بالمكان الأساسي (بروكلين هايتس)، لتطل بطلة الرواية "هند" من خلال تلك الأمكنة علي فضاء العالم المتنوع، الذي تمتاز به مدينة نيويورك، بما تحتضنه من عشرات الأعراق والأجناس واللغات. كما يتراءي للمتتبع عنصر "الوصف"، الذي يتبدي بكثافة باعتباره رديفًا لهذه الأمكنة.. إذ تتوقف ميرال الطحاوي عن السرد لتتلبث قليلا عند أحد هذه الأمكنة ليبدأ الوصف في استهلال أقسام الرواية.. ويتبدي ذاك خلال السطور الأولي من الرواية والتي ورد فيها: "فلات بوش تراه علي خرائط الإنترنت وهي تبحث عن غرفة واحدة تصلح للإيجار في منطقة بروكلين، تراه في عدسة البحث حارة ضيقة مليئة بالالتواءات.. يتعامد علي بروكلين بريدج، ذاك الجسر الممتد الطويل الذي يربط الجزيرتين.. ليظهر المقطع الوصفي متسمًا بالبساطة والوضوح، لتتجلي عل أثره صورة تشبيه تمثيلي تزينه، بما يفضي مباشرة إلي جمل سردية دون أن يكون هناك فاصل بين الجملتين الوصفية والسردية، وهو الشأن ذاته التي تبدع فيه الطحاوي حتي لا يبدو الوصف جزءًا هامشيا يمكن اقتطاعه دون أن يترك أي أثر في السياق القصصي، ويأتي ذاك نتيجة لولع الطحاوي بإيراد تفاصيل المكان وجزئياته؛ ففي القسم الثالث والمعنون ب "المقبرة الخضراء"، يضيء وصف الوضع النفسي لبطلة الرواية هند، عبر بهجة الموت وسكينة العجائز.. فتتجلي في وصف الطحاوي تقنية التداعي الحر للأمكنة، ودلالاتها، بل وإيحاءاتها عبر تيار الوعي؛ فتذكرها المقبرة الخضراء بأمكنتها الحميمة التي احتضنت طفولتها وصباها وتعلقها بجدتها.. لافتة إلي تَوَثُّق الصلة بين هند وجدتها، والذي يظهر حين تنام هند بحجر الجدة، كلما أرهقتها الوسائد الجافية القاسية التي لا تعطي حنانها لأحد، فتقول لها في الحلم: (لوكان بيت أبويا قريب، كنت أروح وأجيب، صحن زبيب تاكليه وتصلي علي الحبيب، وكل واحد له حبيب) لتنعس بعدها حالمة ببلاد لتتحقق خلال أحلامها النبوءة. إلا أن المراقب للسياق السردي يلاحظ خلال أحايين توقف الوصف في مواجهة السرد، لكنه "توقف تواصلي"؛ بحيث يتوقف أحدهما كي يواصل الآخر وظيفته، في تآزر يمهد خلاله أحدهما الحدث للاحق أو يربطه بحدث سابق، ويظهر ذاك في مدي المعاناة والجهود واللهفة من أجل الوصول للأمكنة الجديدة دون أي أسف علي تلك السابقة، فيما وراء البحار، وما ذلك إلا لأن هذه الأمكنة الجديدة ملاذ لبطلة الرواية "هند" من ذاك الواقع الذي عايشته في الماضي ولم تطق تحمله، الأمر الذي دفعها إلي إما أن ترضخ له أو أن تشد الرحال صوب العالم الجديد بكل ما فيه. كما راعت الطحاوي عبر تتبعها الحدثي، بناء الرواية؛ إذ إن المكان في الفن عامة لابد أن يحمل معني وحقيقة أبعد من حقيقتهما الملموسة، إذ قد يثير المكان ذاته إحساسات متضادة عند شخص آخر، لتضفي الروائية علي "بروكلين هايتس" المعني الذي أرادت توصيله للقارئ، بأن "هند" بطلة الرواية متجذرة في ماضيها، ولا تستطيع الفكاك منه.