جامعة الإسكندرية تتألق في 18 تخصصًا فرعيًا بتصنيف QS العالمي 2024    الحرية المصري يشيد بدور التحالف الوطني للعمل الأهلي في دعم المواطنين بغزة    محافظ القاهرة يعتمد جدول امتحانات الفصل الدراسي الثاني 2024    القاصد يشهد اللقاء التعريفي لبرامج هيئة فولبرايت مصر للباحثين بجامعة المنوفية    وزير الأوقاف: إن كانت الناس لا تراك فيكفيك أن الله يراك    حظر الصرف من الحسابات البنكية لصندوق التأمين الخاص للعاملين بنادي الجزيرة الرياضي عاماً    على مدار 4 أيام.. فصل التيار الكهربائي عن 34 منطقة ببني سويف الأسبوع المقبل    هل يجوز العلاج في درجة تأمينية أعلى؟.. ضوابط علاج المؤمن عليه في التأمينات الاجتماعية    فصل التيار الكهربائي "الأسبوع المقبل" عن بعض المناطق بمدينة بني سويف 4 أيام للصيانة    بعد ال 700 جنيه زيادة.. كم تكلفة تجديد رخصة السيارة الملاكي 3 سنوات؟    «تعليم الأقصر» يحصد المركز الخامس ببطولة الجمهورية للسباحة    توقف العمليات في مطار دبي الدولي مؤقتاً بسبب عاصفة شديدة    الإعلام الحكومي بغزة: الاحتلال يجبر العائلات في بيت حانون على النزوح تحت تهديد السلاح    سلوفاكيا تعارض انضمام أوكرانيا لحلف الناتو    الأهلي يتوج ببرونزية السوبر الإفريقي لسيدات كرة اليد    رئيس ريال مدريد يرد على ماكرون بشأن مبابي    «الأهلي مش بتاعك».. مدحت شلبي يوجه رسالة نارية ل كولر    غدا.. انطلاق بطولة الجمهورية للاسكواش في نادي مدينتي    السجن 10 أعوام لمتهمة بالشروع في قتل ابن زوجها في الإسكندرية    حالة الطقس غدًا.. أجواء حارة ورياح مثيرة للرمال والأتربة تعيق الرؤية    الملابس الداخلية ممنوعة.. شواطئ الغردقة تقر غرامة فورية 100 جنيه للمخالفين    إيرادات الأفلام..«شقو» يواصل صدارة شباك التذاكر.. والحريفة في المركز الأخير    مصطفى كامل يوضح أسباب إقرار الرسوم النسبية الجديدة على الفرق والمطربين    الأوبرا تحيي ذكرى الأبنودي وصلاح جاهين بالإسكندرية    توقعات برج الدلو في النصف الثاني من أبريل 2024: فرص غير متوقعة للحب    ترقية 24 عضوًا بهيئة التدريس وتعيين 7 مُعلمين بجامعة طنطا    فى ذكرى ميلاده.. تعرف على 6 أعمال غنى فيها عمار الشريعي بصوته    وزارة الصحة تطلق البرنامج الإلكتروني المُحدث لترصد العدوى في المنشآت الصحية    هل يحصل على البراءة؟.. فيديو يفجر مفاجأة عن مصير قات ل حبيبة الشماع    "بعد السوبر هاتريك".. بالمر: أشكر تشيلسي على منحي فرصة التألق    توفير 319.1 ألف فرصة عمل.. مدبولي يتابع المشروعات المتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر    الطب البيطرى بالجيزة يشن حملات تفتيشية على أسواق الأسماك    مؤتمر كين: ندرك مدى خطورة أرسنال.. وتعلمنا دروس لقاء الذهاب    ضبط خاطف الهواتف المحمولة من المواطنين بعابدين    مستشار المفتي من سنغافورة: القيادة السياسية واجهت التحديات بحكمة وعقلانية.. ونصدر 1.5 مليون فتوى سنويا ب 12 لغة    يعود بعد غياب.. تفاصيل حفل ماهر زين في مصر    وزارة الأوقاف تنشر بيانا بتحسين أحوال الأئمة المعينين منذ عام 2014    طلبها «سائق أوبر» المتهم في قضية حبيبة الشماع.. ما هي البشعة وما حكمها الشرعي؟    ضبط 7 آلاف قضية سرقة تيار كهربائي ومخالفة شروط تعاقد خلال 24 ساعة    المؤبد لمتهم و10 سنوات لآخر بتهمة الإتجار بالمخدرات ومقاومة السلطات بسوهاج    اقتراح برغبة حول تصدير العقارات المصرية لجذب الاستثمارات وتوفير النقد الأجنبي    رئيس جهاز العبور يتفقد مشروع التغذية الكهربائية لعددٍ من الموزعات بالشيخ زايد    موعد مباراة سيدات يد الأهلى أمام بطل الكونغو لحسم برونزية السوبر الأفريقى    "التعليم" تخاطب المديريات بشأن المراجعات المجانية للطلاب.. و4 إجراءات للتنظيم (تفاصيل)    ارتفاع حصيلة ضحايا الأمطار والعواصف وصواعق البرق فى باكستان ل 41 قتيلا    برلماني يطالب بمراجعة اشتراطات مشاركة القطاع الخاص في منظومة التأمين الصحي    ميكنة الصيدليات.. "الرعاية الصحية" تعلن خارطة طريق عملها لعام 2024    بالتزامن مع تغيير الفصول.. طرق الحفاظ على صحة العيون    بعد تصديق الرئيس، 5 حقوق وإعفاءات للمسنين فى القانون الجديد    الصين تؤكد على ضرورة حل القضية الفلسطينية وتنفيذ حل الدولتين    جوتيريش: بعد عام من الحرب يجب ألا ينسى العالم شعب السودان    الرئيس الصيني يدعو إلى تعزيز التعاون مع ألمانيا    ننشر قواعد التقديم للطلاب الجدد في المدارس المصرية اليابانية 2025    «الصحة» تطلق البرنامج الإلكتروني المُحدث لترصد العدوى في المنشآت الصحية    دعاء ليلة الزواج لمنع السحر والحسد.. «حصنوا أنفسكم»    أحمد كريمة: تعاطي المسكرات بكافة أنواعها حرام شرعاً    أيمن دجيش: كريم نيدفيد كان يستحق الطرد بالحصول على إنذار ثانٍ    دعاء السفر قصير: اللهم أنت الصاحبُ في السفرِ    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشمندورة .. رواية مهربة من المعتقل عن عالم النوبيين
نشر في صوت البلد يوم 14 - 12 - 2016

وصفت رواية “الشمندورة” للكاتب النوبي محمد خليل قاسم بأنها أوّل رواية نوبية في الأدب العربي، واعتبرها الباحث شكري عيّاد لا تقل عن رواية الأرض لعبدالرحمن الشرقاوي، وإن كانت الفصول الأخيرة في “الشمندورة” تتفوّق على الأرض بكثير.
وفي الحقيقة لم تكن رواية الشمندورة مجرد رواية يغلب عليها الطابع الحكائي المازج بين الوقائعي والتخييلي، بقدر ما كانت “مانفستو” ضدّ ما حَاق بالنوبة القديمة، ومظلمة وصرخة احتجاج عرّفت العالم أجمع بالقضية النوبية من جراء وقائع التهجير القسري، والشّتات لسُّكان القرى النوبيّة الواقعة في بحيرة ناصر إثر تنشئة خزان أسوان والسّد العالي على مدار حكومات مختلفة.
النيل والتهجير
مثلما كانت الرواية، التي صدرت مؤخّرا ضمن سلسلة “مختارات الكرمة” التي تصدر عن دار الكرمة بالقاهرة 2016، تجسيدا للمأساة النوبيّة في أروع معانيها، منذ بدايات مشروعات التعلية (الأولى لخزان أسوان سنة 1912 وما صحبها من تهجير حتى حدوث الإغراق ببناء السّد العالي والتعلية الثانية سنة 1933، إلى الخروج النهائي في العام 1964)، كانت أيضا شاهدة على فترة مضطربة.
ولئن كان الكثير من المثقفين في المعتقلات قد اتخذوا من هذه الزنازين أبوابا للحرية عبر كتاباتهم، فإن قاسم خيّر كتابة هذه الرواية في محبسه بسجن الواحات على أوراق البفرة وبقلم كوبيا، وقد تمّ تهريب الكثير منها إلى خارج السّجن من خلال زيارات المعتقلين. وكان للسيدة ليلى الشّال زوجة رفعت السّعيد رفيق قاسم في محبسه، الدور الكبير في إظهارها للعلن، كما قام الفنان حسن فؤاد برسم غلافها على قطعة من القماش. وقد صدرت الرواية مُسلسلة في مجلة صباح الخير إلى أنْ صدرت في كتاب مطبوع عام 1968 وهو عام وفاة قاسم، وحوَّلها الكاتب محمود الشوربجي إلى مسلسل إذاعي بُثَّ عبر موجة إذاعة “صوت العرب”.
ورواية “الشمندورة” لم تكن مشروع محمد قاسم الوحيد بل كان يطمح لتحقيق ثلاثية كان تخطيطه لها على هذا النحو “الشمندورة – الطوفان- بعد الهجرة”، مُتتبعا الآثار النفسيّة المدمِّرة للتهجير. وبالفعل فقد شرعَ في كتابة الجزء الثاني “الطوفان” وإن كان على هيئة حلقات مسلسلة للإذاعة وقد أذيعت منه 23 حلقة فقط، ولكنه توفي إثر أزمة قلبية مفاجئة بعد خروجه من السجن في العام 1968 قبل أن ينهيها، فتمّ استكمال السبع حلقات الناقصة بأشعار لزكي مراد، كما ورد في تحقيق لسمر نور عن خليل قاسم كاتب “الشمندورة المظلوم حيا وميتا”.
وتبدأ الرواية بعين السَّارد الطفل حامد وهو يصف قدوم الأفندية أصحاب الطرابيش الحمراء والوجوه البيضاء على ظهر سفينة، لجرد الأراضي والنخيل ومتعلقات أهل القرية لبدء عمليات التعويض. وما بين مظاهر الفضول من الصغار (حامد وبرعي وشلتهما) لرؤية هؤلاء الأفندية ومحاولة النوبيين التمسّك بأرضهم وعدم قبول التعويضات، تدور وتتحرك الرواية عبر فصول مُتعدّدة تَروي مَشاهد عن المأساة والامتثال لأمر الحكومة بقبول التعويضات، وصولا إلى المكان البديل، وما صحب ذلك من حنين للأرض. وتنتهي بالراوي الطفل وقد وصل عمره إلى 13 عاما، وعودته إلى المدرسة في عنيبة تاركا النجع خلفه، ليكون هو الأمل الذي تنتظره القرية بعدما سافر العديد من أبنائها إلى مصر، فانقطعت أخبارهم عنها.
قدَّمَ محمد خليل قاسم في مرويته مأساة الإنسان النوبي ورحلة اقتلاعه من أرضه إلى أرض أخرى لا ينتمي إليها، وكأنّه قُدر له أن يكون تائها، فظلّ دائما مرتبطا بتلك الأرض التي نشأ فيها. ويركّز الراوي/ الأنا على الجانب النفسي مُظهرا واحدة من أنبل علاقات الانصهار بين الإنسان وأرضه، في صورة أُناس النوبة الذين يعشقونها إلى حدِّ التقديس. فالنيل لديهم هو رمز الطهارة والتعميد. ويحتل النيل موقعا مُميِّزا في حياة النوبيّ كمصدر للخير، وأيضا كمصدر للشّر، فمثلما هو مانح للحياة، فهو سالبها.
لوحة فنية
يظهر الكاتب حجم مأساة التهجير التي يتعرض لها الأهالي، من قراهم التي ولدوا فيها إلى قرى أخرى، من خلال تصويره لعلاقة المهاجرين من أبناء النوبة الذين يهجرون الأرض مرغمين للعمل في مصر والإسكندرية، وعند عودتهم “يحتضنون القيراط والقيراطين كما يحتضن الإنسان أطفاله أو معشوقته”، أين يبرز الانتماء للمكان كأحد مقومات إقامة العلاقة حتى لو كانت غير شرعية.
لا ينسى الكاتب وهو يتغنّى بعشق المكان أن يصوِّر الحياة داخل المجتمع النوبيّ، كما هي بشخصياتها وأسمائها (داريا سكينة، صالح جلق، أش الله، حجوبة، برعيد ولحظ) وحِرفها وأزيائها المميّزة، كما يُدبِّج النص بأسماء القرى والنجوع الحقيقية: “قتة”، “الدر”، “أبريم”، “كنوز”، “دابور”، “عافية”، “الكلابشة”، و“خور رحمة”، وأطعمتها المميّزة كالخرميد “العيش المخمر”، وغيرها من المفردات المحليّة مثل “أنان هالي” بمعنى (كيف حالك)، “اشري يا” (الحمد لله ).
والرواية بما حوته من أسماء وأوصاف لكلّ شيء وقعت عليه عين الرّاوي في المكان، غدت أشبه بلوحة فنية عن عادات وتقاليد المجتمع النوبي، في أفراحه وأتراحه، لهوه وجده، زواج، موت، ميلاد وسبوع حتى ألعاب الصغار والكبار، وكأنّه يُقدّم وثيقة لكلّ ما يتصل بالإنسان النوبي ومعيشه بما في ذلك العلاقات الاجتماعية وعلاقات العمل والتبادل التجاريّ والحبّ والكُره.
كلّ هذا يورده الكاتب في سياق درامي لا ينفصل عن العمل، وبالمثل علاقات الحبِّ والعلاقات غير المشروعة التي يُقدم عليها الأغراب، ليقول إنّها دخيلة على هذا المجتمع البسيط، الذي يُعلي لقوانين الشرف والكرامة وما يهيمن على بنية العقل من خرافات تَنْحَو مَنْحى الأسطورة والتقديس كالتبرك بالأولياء واللوذ بضاربي الودع كفكيهة ضاربة الرمل والشيخ الشاذلي كاتب الأحجية. وتنتهي الرواية بمشهد وداع حامد أثناء ذهابه إلى المدرسة وكأنّ محمد خليل قاسم يشدّد على التعليم والمعرفة في صورة حامد، ليس للنوبيين فقط بل للمصريين جميعا، كوسيلة من وسائل التحرّر من التخلُّف الذي هيمن على بنية العقل لفترة طويلة وما صاحب ذلك من تغييب للوعي.
وتكشف الرواية عن صراع في العلاقة بين أهل النوبة والشمال، فالنوبيّ يرى أن الشمال مصدر للقلق والاضطراب، لكنه يضطر للهجرة إليه للعمل، وهو ما أحدث مشكلات اجتماعية ونفسية واقتصادية. تأتي الشمندورة في 57 وحدة مختلفة كل وحدة عن الأُخرى في الطول والسمك، وتعالج كل وحدة على حدة حدثا فرعيا، يتراكم هذا الحدث الفرعي مع ما يسبقه وما يليه، فيتكوَّن السَّرد من تتابع هذه الوحدات، وقد أخذت هذه الوحدات نظام التقطيع لا المواصلة السّردية.
وتمثل الرواية سجلا توثيقيا لحياة النوبيين وعاداتهم وأنماط معيشتهم، كنوع من الحفاظ على الهوية من الضياع، وهو ما أعقبه بحركة موسّعة من قبل الجيل الثاني حسن نور ويحيى مختار وحجاّج أدّول، في استكمال لتوثيق المسيرة النضالية. ولا يجب أن يغفل الحسّ الوطني الذي تجاوز النوبة ليشمل مصر كلها، فالرواية أذابت الأنا في خضم النحن، وأبرزت الروح الجماعية في الأحزان قبل الأفراح.
وصفت رواية “الشمندورة” للكاتب النوبي محمد خليل قاسم بأنها أوّل رواية نوبية في الأدب العربي، واعتبرها الباحث شكري عيّاد لا تقل عن رواية الأرض لعبدالرحمن الشرقاوي، وإن كانت الفصول الأخيرة في “الشمندورة” تتفوّق على الأرض بكثير.
وفي الحقيقة لم تكن رواية الشمندورة مجرد رواية يغلب عليها الطابع الحكائي المازج بين الوقائعي والتخييلي، بقدر ما كانت “مانفستو” ضدّ ما حَاق بالنوبة القديمة، ومظلمة وصرخة احتجاج عرّفت العالم أجمع بالقضية النوبية من جراء وقائع التهجير القسري، والشّتات لسُّكان القرى النوبيّة الواقعة في بحيرة ناصر إثر تنشئة خزان أسوان والسّد العالي على مدار حكومات مختلفة.
النيل والتهجير
مثلما كانت الرواية، التي صدرت مؤخّرا ضمن سلسلة “مختارات الكرمة” التي تصدر عن دار الكرمة بالقاهرة 2016، تجسيدا للمأساة النوبيّة في أروع معانيها، منذ بدايات مشروعات التعلية (الأولى لخزان أسوان سنة 1912 وما صحبها من تهجير حتى حدوث الإغراق ببناء السّد العالي والتعلية الثانية سنة 1933، إلى الخروج النهائي في العام 1964)، كانت أيضا شاهدة على فترة مضطربة.
ولئن كان الكثير من المثقفين في المعتقلات قد اتخذوا من هذه الزنازين أبوابا للحرية عبر كتاباتهم، فإن قاسم خيّر كتابة هذه الرواية في محبسه بسجن الواحات على أوراق البفرة وبقلم كوبيا، وقد تمّ تهريب الكثير منها إلى خارج السّجن من خلال زيارات المعتقلين. وكان للسيدة ليلى الشّال زوجة رفعت السّعيد رفيق قاسم في محبسه، الدور الكبير في إظهارها للعلن، كما قام الفنان حسن فؤاد برسم غلافها على قطعة من القماش. وقد صدرت الرواية مُسلسلة في مجلة صباح الخير إلى أنْ صدرت في كتاب مطبوع عام 1968 وهو عام وفاة قاسم، وحوَّلها الكاتب محمود الشوربجي إلى مسلسل إذاعي بُثَّ عبر موجة إذاعة “صوت العرب”.
ورواية “الشمندورة” لم تكن مشروع محمد قاسم الوحيد بل كان يطمح لتحقيق ثلاثية كان تخطيطه لها على هذا النحو “الشمندورة – الطوفان- بعد الهجرة”، مُتتبعا الآثار النفسيّة المدمِّرة للتهجير. وبالفعل فقد شرعَ في كتابة الجزء الثاني “الطوفان” وإن كان على هيئة حلقات مسلسلة للإذاعة وقد أذيعت منه 23 حلقة فقط، ولكنه توفي إثر أزمة قلبية مفاجئة بعد خروجه من السجن في العام 1968 قبل أن ينهيها، فتمّ استكمال السبع حلقات الناقصة بأشعار لزكي مراد، كما ورد في تحقيق لسمر نور عن خليل قاسم كاتب “الشمندورة المظلوم حيا وميتا”.
وتبدأ الرواية بعين السَّارد الطفل حامد وهو يصف قدوم الأفندية أصحاب الطرابيش الحمراء والوجوه البيضاء على ظهر سفينة، لجرد الأراضي والنخيل ومتعلقات أهل القرية لبدء عمليات التعويض. وما بين مظاهر الفضول من الصغار (حامد وبرعي وشلتهما) لرؤية هؤلاء الأفندية ومحاولة النوبيين التمسّك بأرضهم وعدم قبول التعويضات، تدور وتتحرك الرواية عبر فصول مُتعدّدة تَروي مَشاهد عن المأساة والامتثال لأمر الحكومة بقبول التعويضات، وصولا إلى المكان البديل، وما صحب ذلك من حنين للأرض. وتنتهي بالراوي الطفل وقد وصل عمره إلى 13 عاما، وعودته إلى المدرسة في عنيبة تاركا النجع خلفه، ليكون هو الأمل الذي تنتظره القرية بعدما سافر العديد من أبنائها إلى مصر، فانقطعت أخبارهم عنها.
قدَّمَ محمد خليل قاسم في مرويته مأساة الإنسان النوبي ورحلة اقتلاعه من أرضه إلى أرض أخرى لا ينتمي إليها، وكأنّه قُدر له أن يكون تائها، فظلّ دائما مرتبطا بتلك الأرض التي نشأ فيها. ويركّز الراوي/ الأنا على الجانب النفسي مُظهرا واحدة من أنبل علاقات الانصهار بين الإنسان وأرضه، في صورة أُناس النوبة الذين يعشقونها إلى حدِّ التقديس. فالنيل لديهم هو رمز الطهارة والتعميد. ويحتل النيل موقعا مُميِّزا في حياة النوبيّ كمصدر للخير، وأيضا كمصدر للشّر، فمثلما هو مانح للحياة، فهو سالبها.
لوحة فنية
يظهر الكاتب حجم مأساة التهجير التي يتعرض لها الأهالي، من قراهم التي ولدوا فيها إلى قرى أخرى، من خلال تصويره لعلاقة المهاجرين من أبناء النوبة الذين يهجرون الأرض مرغمين للعمل في مصر والإسكندرية، وعند عودتهم “يحتضنون القيراط والقيراطين كما يحتضن الإنسان أطفاله أو معشوقته”، أين يبرز الانتماء للمكان كأحد مقومات إقامة العلاقة حتى لو كانت غير شرعية.
لا ينسى الكاتب وهو يتغنّى بعشق المكان أن يصوِّر الحياة داخل المجتمع النوبيّ، كما هي بشخصياتها وأسمائها (داريا سكينة، صالح جلق، أش الله، حجوبة، برعيد ولحظ) وحِرفها وأزيائها المميّزة، كما يُدبِّج النص بأسماء القرى والنجوع الحقيقية: “قتة”، “الدر”، “أبريم”، “كنوز”، “دابور”، “عافية”، “الكلابشة”، و“خور رحمة”، وأطعمتها المميّزة كالخرميد “العيش المخمر”، وغيرها من المفردات المحليّة مثل “أنان هالي” بمعنى (كيف حالك)، “اشري يا” (الحمد لله ).
والرواية بما حوته من أسماء وأوصاف لكلّ شيء وقعت عليه عين الرّاوي في المكان، غدت أشبه بلوحة فنية عن عادات وتقاليد المجتمع النوبي، في أفراحه وأتراحه، لهوه وجده، زواج، موت، ميلاد وسبوع حتى ألعاب الصغار والكبار، وكأنّه يُقدّم وثيقة لكلّ ما يتصل بالإنسان النوبي ومعيشه بما في ذلك العلاقات الاجتماعية وعلاقات العمل والتبادل التجاريّ والحبّ والكُره.
كلّ هذا يورده الكاتب في سياق درامي لا ينفصل عن العمل، وبالمثل علاقات الحبِّ والعلاقات غير المشروعة التي يُقدم عليها الأغراب، ليقول إنّها دخيلة على هذا المجتمع البسيط، الذي يُعلي لقوانين الشرف والكرامة وما يهيمن على بنية العقل من خرافات تَنْحَو مَنْحى الأسطورة والتقديس كالتبرك بالأولياء واللوذ بضاربي الودع كفكيهة ضاربة الرمل والشيخ الشاذلي كاتب الأحجية. وتنتهي الرواية بمشهد وداع حامد أثناء ذهابه إلى المدرسة وكأنّ محمد خليل قاسم يشدّد على التعليم والمعرفة في صورة حامد، ليس للنوبيين فقط بل للمصريين جميعا، كوسيلة من وسائل التحرّر من التخلُّف الذي هيمن على بنية العقل لفترة طويلة وما صاحب ذلك من تغييب للوعي.
وتكشف الرواية عن صراع في العلاقة بين أهل النوبة والشمال، فالنوبيّ يرى أن الشمال مصدر للقلق والاضطراب، لكنه يضطر للهجرة إليه للعمل، وهو ما أحدث مشكلات اجتماعية ونفسية واقتصادية. تأتي الشمندورة في 57 وحدة مختلفة كل وحدة عن الأُخرى في الطول والسمك، وتعالج كل وحدة على حدة حدثا فرعيا، يتراكم هذا الحدث الفرعي مع ما يسبقه وما يليه، فيتكوَّن السَّرد من تتابع هذه الوحدات، وقد أخذت هذه الوحدات نظام التقطيع لا المواصلة السّردية.
وتمثل الرواية سجلا توثيقيا لحياة النوبيين وعاداتهم وأنماط معيشتهم، كنوع من الحفاظ على الهوية من الضياع، وهو ما أعقبه بحركة موسّعة من قبل الجيل الثاني حسن نور ويحيى مختار وحجاّج أدّول، في استكمال لتوثيق المسيرة النضالية. ولا يجب أن يغفل الحسّ الوطني الذي تجاوز النوبة ليشمل مصر كلها، فالرواية أذابت الأنا في خضم النحن، وأبرزت الروح الجماعية في الأحزان قبل الأفراح.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.