ارتفاع أسعار النفط بدعم المحادثات التجارية وتراجع المخزونات الأمريكية    التضامن تنفذ أنشطة تثقيفية ورياضية وترفيهية بمؤسسة فتيات العجوزة    جامعة القاهرة تطلق جائزة التميز الداخلي للجامعات 2025 تأهيلًا للمشاركة في جائزة التميز الحكومي    انخفاض سعر الذهب اليوم في مصر ببداية تعاملات الخميس    حالة الطقس في الكويت اليوم الخميس 24 يوليو 2025    «زي النهاردة».. محمد سعيد باشا الذي «كان يحب المصريين ويكره الأتراك والشراكسة» حاكمًا على مصر 24 يوليو 1854    عوائد الإعلانات تقفز10% مع توسع جوجل في الذكاء الاصطناعي رغم مخاوف السوق    أرخص الجامعات الأهلية في مصر 2026.. المصروفات الكاملة وطرق التقديم (القائمة المعتمدة)    إصابة 4 عمال إثر سقوط مظلة بموقف نجع حمادي في قنا.. وتوجيه عاجل من المحافظ- صور    رسميًا بعد القفزة الجديدة.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الخميس 24 يوليو 2025    سيناء في «قلب جهود التنمية»    الرئيس الصيني: نسعى لتعزيز الثقة والتعاون مع الاتحاد الأوروبي رغم الخلافات    قصف إسرائيل ومطار «بن جوريون» خارج الخدمة مؤقتًا    «صفقة قادمة».. شوبير يشوّق جماهير الأهلي حول المهاجم الجديد    تنسيق المرحلة الأولى 2025.. قائمة بالكليات المتاحة علمي وأدبي ومؤشرات الحد الأدنى للقبول    لطلاب البكالوريا 2025.. تعرف علي كليات مسار الآداب والفنون    بعد انتهاء التصحيح.. ترقبوا إعلان نتيجة الثانوية الأزهرية 2025 والتسجيل لاختبارات القدرات    إصابة شخصين إثر انقلاب سيارة بطريق "الإسماعيلية- العاشر من رمضان"    تنسيق الجامعات 2025 علمي علوم.. كليات تقبل من 60% ومؤشرات الحد الأدنى للقبول    أحد الزملاء يخفي معلومات مهمة عنك.. حظ برج الدلو اليوم 24 يوليو    مدنية الأحكام وتفاعلها مجتمعيًّا وسياسيًّا    روسيا: تعليق عمل مطار سوتشي 4 ساعات بسبب هجمات أوكرانية    في ذكرى يوليو.. قيادات حزبية وبرلمانية: خطاب الرئيس يؤكد صلابة الدولة    موت بإرادة الأب.. النيابة تأمر بدفن جثة ضحية شبرا الخيمة    علي أبو جريشة: عصر ابن النادي انتهى    تايلاند تعلن إغلاق المعابر الحدودية مع كمبوديا وتستدعي سفيرها مع تصاعد التوترات    نهاية سعيدة لمسلسل "فات الميعاد".. تفاصيل الحلقة الأخيرة    السفير رياض منصور: البيت الأبيض قادر على وقف النار خلال 24 ساعة    الصحة العالمية: جوع جماعي في غزة بسبب حصار إسرائيل المفروض على القطاع    نجاح فريق طبي بمستشفى الفيوم في إنقاذ مريض مصاب بتهتك وانفجار في المثانة بسبب طلق ناري    رجال غيّروا وجه مصر.. ما تيسر من سيرة ثوار يوليو    رئيس محكمة النقض يستقبل وزير العدل الأسبق لتقديم التهنئة    الاكتتاب في سندات الخزانة العشرينية الأمريكية فوق المتوسط    مخرج «اليد السوداء»: نقدم حكاية عن المقاومة المصرية ضد الاحتلال    أحمد نبيل فنان البانتومايم: اعتزلت عندما شعرت بأن لا مكان حقيقى لفنى    بأغنية «يا رب فرحني».. حكيم يفتتح صيف 2025    أحمد سعد يطلق «حبيبي ياه ياه» بمشاركة عفروتو ومروان موسى    إخماد حريق في محطة وقود بالساحلي غرب الإسكندرية| صور    رياضة ½ الليل| إقالة سريعة.. سقوط المصري.. السعيد فرحان بالزمالك.. وفحص الخطيب بباريس    حسام موافي لطلاب الثانوية: الطب ليست كلية القمة فقط    بمستشفى سوهاج العام.. جراحة دقيقة لطفلة مصابة بكسر انفجاري بالعمود الفقري    طبق الأسبوع| من مطبخ الشيف أحمد الشناوي.. طريقة عمل سلطة التونة بالذرة    سيف جعفر: فيريرا يتعامل معنا بشكل مثالي.. والصفقات الجديدة إضافة قوية    إيران تحذر مدمرة أميركية في خليج عمان.. والبنتاغون يرد    بعد شكوك المؤامرة.. عبدالله السعيد يتدخل للإطاحة بنجم الزمالك.. تقرير يفجر مفاجأة    شوبير يكشف حقيقة اهتمام الأهلي بضم أحمد فتوح    «محدش قالي شكرا حتى».. الصباحي يهاجم لجنة الحكام بعد اعتزاله    سعر الموز والبطيخ والفاكهة بالأسواق اليوم الخميس 24 يوليو 2025    صاحب مغسلة غير مرخصة يعتدي على جاره بسبب ركن سيارة بالإسكندرية    لا ترمِ قشر البطيخ.. قد يحميك من مرضين خطيرين وملئ بالفيتامينات والمعادن    هل انتهت الأزمة؟ خطوة جديدة من وسام أبو علي بعد أيام من غلق حسابه على إنستجرام    5 معلومات عن المايسترو الراحل سامي نصير    حماس تسلم ردها على مقترح وقف إطلاق النار بقطاع غزة إلى الوسطاء    اليوم، تعديلات جديدة في مواعيد تشغيل القطار الكهربائي بمناسبة ذكرى ثورة 23 يوليو    هل يجوز أخذ مكافأة على مال عثر عليه في الشارع؟.. أمين الفتوى يجيب    محفظ قرآن بقنا يهدي طالبة ثانوية عامة رحلة عمرة    الإفتاء توضح كيفية إتمام الصفوف في صلاة الجماعة    دار الإفتاء المصرية توضح حكم تشريح جثة الميت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشمندورة .. رواية مهربة من المعتقل عن عالم النوبيين
نشر في صوت البلد يوم 14 - 12 - 2016

وصفت رواية “الشمندورة” للكاتب النوبي محمد خليل قاسم بأنها أوّل رواية نوبية في الأدب العربي، واعتبرها الباحث شكري عيّاد لا تقل عن رواية الأرض لعبدالرحمن الشرقاوي، وإن كانت الفصول الأخيرة في “الشمندورة” تتفوّق على الأرض بكثير.
وفي الحقيقة لم تكن رواية الشمندورة مجرد رواية يغلب عليها الطابع الحكائي المازج بين الوقائعي والتخييلي، بقدر ما كانت “مانفستو” ضدّ ما حَاق بالنوبة القديمة، ومظلمة وصرخة احتجاج عرّفت العالم أجمع بالقضية النوبية من جراء وقائع التهجير القسري، والشّتات لسُّكان القرى النوبيّة الواقعة في بحيرة ناصر إثر تنشئة خزان أسوان والسّد العالي على مدار حكومات مختلفة.
النيل والتهجير
مثلما كانت الرواية، التي صدرت مؤخّرا ضمن سلسلة “مختارات الكرمة” التي تصدر عن دار الكرمة بالقاهرة 2016، تجسيدا للمأساة النوبيّة في أروع معانيها، منذ بدايات مشروعات التعلية (الأولى لخزان أسوان سنة 1912 وما صحبها من تهجير حتى حدوث الإغراق ببناء السّد العالي والتعلية الثانية سنة 1933، إلى الخروج النهائي في العام 1964)، كانت أيضا شاهدة على فترة مضطربة.
ولئن كان الكثير من المثقفين في المعتقلات قد اتخذوا من هذه الزنازين أبوابا للحرية عبر كتاباتهم، فإن قاسم خيّر كتابة هذه الرواية في محبسه بسجن الواحات على أوراق البفرة وبقلم كوبيا، وقد تمّ تهريب الكثير منها إلى خارج السّجن من خلال زيارات المعتقلين. وكان للسيدة ليلى الشّال زوجة رفعت السّعيد رفيق قاسم في محبسه، الدور الكبير في إظهارها للعلن، كما قام الفنان حسن فؤاد برسم غلافها على قطعة من القماش. وقد صدرت الرواية مُسلسلة في مجلة صباح الخير إلى أنْ صدرت في كتاب مطبوع عام 1968 وهو عام وفاة قاسم، وحوَّلها الكاتب محمود الشوربجي إلى مسلسل إذاعي بُثَّ عبر موجة إذاعة “صوت العرب”.
ورواية “الشمندورة” لم تكن مشروع محمد قاسم الوحيد بل كان يطمح لتحقيق ثلاثية كان تخطيطه لها على هذا النحو “الشمندورة – الطوفان- بعد الهجرة”، مُتتبعا الآثار النفسيّة المدمِّرة للتهجير. وبالفعل فقد شرعَ في كتابة الجزء الثاني “الطوفان” وإن كان على هيئة حلقات مسلسلة للإذاعة وقد أذيعت منه 23 حلقة فقط، ولكنه توفي إثر أزمة قلبية مفاجئة بعد خروجه من السجن في العام 1968 قبل أن ينهيها، فتمّ استكمال السبع حلقات الناقصة بأشعار لزكي مراد، كما ورد في تحقيق لسمر نور عن خليل قاسم كاتب “الشمندورة المظلوم حيا وميتا”.
وتبدأ الرواية بعين السَّارد الطفل حامد وهو يصف قدوم الأفندية أصحاب الطرابيش الحمراء والوجوه البيضاء على ظهر سفينة، لجرد الأراضي والنخيل ومتعلقات أهل القرية لبدء عمليات التعويض. وما بين مظاهر الفضول من الصغار (حامد وبرعي وشلتهما) لرؤية هؤلاء الأفندية ومحاولة النوبيين التمسّك بأرضهم وعدم قبول التعويضات، تدور وتتحرك الرواية عبر فصول مُتعدّدة تَروي مَشاهد عن المأساة والامتثال لأمر الحكومة بقبول التعويضات، وصولا إلى المكان البديل، وما صحب ذلك من حنين للأرض. وتنتهي بالراوي الطفل وقد وصل عمره إلى 13 عاما، وعودته إلى المدرسة في عنيبة تاركا النجع خلفه، ليكون هو الأمل الذي تنتظره القرية بعدما سافر العديد من أبنائها إلى مصر، فانقطعت أخبارهم عنها.
قدَّمَ محمد خليل قاسم في مرويته مأساة الإنسان النوبي ورحلة اقتلاعه من أرضه إلى أرض أخرى لا ينتمي إليها، وكأنّه قُدر له أن يكون تائها، فظلّ دائما مرتبطا بتلك الأرض التي نشأ فيها. ويركّز الراوي/ الأنا على الجانب النفسي مُظهرا واحدة من أنبل علاقات الانصهار بين الإنسان وأرضه، في صورة أُناس النوبة الذين يعشقونها إلى حدِّ التقديس. فالنيل لديهم هو رمز الطهارة والتعميد. ويحتل النيل موقعا مُميِّزا في حياة النوبيّ كمصدر للخير، وأيضا كمصدر للشّر، فمثلما هو مانح للحياة، فهو سالبها.
لوحة فنية
يظهر الكاتب حجم مأساة التهجير التي يتعرض لها الأهالي، من قراهم التي ولدوا فيها إلى قرى أخرى، من خلال تصويره لعلاقة المهاجرين من أبناء النوبة الذين يهجرون الأرض مرغمين للعمل في مصر والإسكندرية، وعند عودتهم “يحتضنون القيراط والقيراطين كما يحتضن الإنسان أطفاله أو معشوقته”، أين يبرز الانتماء للمكان كأحد مقومات إقامة العلاقة حتى لو كانت غير شرعية.
لا ينسى الكاتب وهو يتغنّى بعشق المكان أن يصوِّر الحياة داخل المجتمع النوبيّ، كما هي بشخصياتها وأسمائها (داريا سكينة، صالح جلق، أش الله، حجوبة، برعيد ولحظ) وحِرفها وأزيائها المميّزة، كما يُدبِّج النص بأسماء القرى والنجوع الحقيقية: “قتة”، “الدر”، “أبريم”، “كنوز”، “دابور”، “عافية”، “الكلابشة”، و“خور رحمة”، وأطعمتها المميّزة كالخرميد “العيش المخمر”، وغيرها من المفردات المحليّة مثل “أنان هالي” بمعنى (كيف حالك)، “اشري يا” (الحمد لله ).
والرواية بما حوته من أسماء وأوصاف لكلّ شيء وقعت عليه عين الرّاوي في المكان، غدت أشبه بلوحة فنية عن عادات وتقاليد المجتمع النوبي، في أفراحه وأتراحه، لهوه وجده، زواج، موت، ميلاد وسبوع حتى ألعاب الصغار والكبار، وكأنّه يُقدّم وثيقة لكلّ ما يتصل بالإنسان النوبي ومعيشه بما في ذلك العلاقات الاجتماعية وعلاقات العمل والتبادل التجاريّ والحبّ والكُره.
كلّ هذا يورده الكاتب في سياق درامي لا ينفصل عن العمل، وبالمثل علاقات الحبِّ والعلاقات غير المشروعة التي يُقدم عليها الأغراب، ليقول إنّها دخيلة على هذا المجتمع البسيط، الذي يُعلي لقوانين الشرف والكرامة وما يهيمن على بنية العقل من خرافات تَنْحَو مَنْحى الأسطورة والتقديس كالتبرك بالأولياء واللوذ بضاربي الودع كفكيهة ضاربة الرمل والشيخ الشاذلي كاتب الأحجية. وتنتهي الرواية بمشهد وداع حامد أثناء ذهابه إلى المدرسة وكأنّ محمد خليل قاسم يشدّد على التعليم والمعرفة في صورة حامد، ليس للنوبيين فقط بل للمصريين جميعا، كوسيلة من وسائل التحرّر من التخلُّف الذي هيمن على بنية العقل لفترة طويلة وما صاحب ذلك من تغييب للوعي.
وتكشف الرواية عن صراع في العلاقة بين أهل النوبة والشمال، فالنوبيّ يرى أن الشمال مصدر للقلق والاضطراب، لكنه يضطر للهجرة إليه للعمل، وهو ما أحدث مشكلات اجتماعية ونفسية واقتصادية. تأتي الشمندورة في 57 وحدة مختلفة كل وحدة عن الأُخرى في الطول والسمك، وتعالج كل وحدة على حدة حدثا فرعيا، يتراكم هذا الحدث الفرعي مع ما يسبقه وما يليه، فيتكوَّن السَّرد من تتابع هذه الوحدات، وقد أخذت هذه الوحدات نظام التقطيع لا المواصلة السّردية.
وتمثل الرواية سجلا توثيقيا لحياة النوبيين وعاداتهم وأنماط معيشتهم، كنوع من الحفاظ على الهوية من الضياع، وهو ما أعقبه بحركة موسّعة من قبل الجيل الثاني حسن نور ويحيى مختار وحجاّج أدّول، في استكمال لتوثيق المسيرة النضالية. ولا يجب أن يغفل الحسّ الوطني الذي تجاوز النوبة ليشمل مصر كلها، فالرواية أذابت الأنا في خضم النحن، وأبرزت الروح الجماعية في الأحزان قبل الأفراح.
وصفت رواية “الشمندورة” للكاتب النوبي محمد خليل قاسم بأنها أوّل رواية نوبية في الأدب العربي، واعتبرها الباحث شكري عيّاد لا تقل عن رواية الأرض لعبدالرحمن الشرقاوي، وإن كانت الفصول الأخيرة في “الشمندورة” تتفوّق على الأرض بكثير.
وفي الحقيقة لم تكن رواية الشمندورة مجرد رواية يغلب عليها الطابع الحكائي المازج بين الوقائعي والتخييلي، بقدر ما كانت “مانفستو” ضدّ ما حَاق بالنوبة القديمة، ومظلمة وصرخة احتجاج عرّفت العالم أجمع بالقضية النوبية من جراء وقائع التهجير القسري، والشّتات لسُّكان القرى النوبيّة الواقعة في بحيرة ناصر إثر تنشئة خزان أسوان والسّد العالي على مدار حكومات مختلفة.
النيل والتهجير
مثلما كانت الرواية، التي صدرت مؤخّرا ضمن سلسلة “مختارات الكرمة” التي تصدر عن دار الكرمة بالقاهرة 2016، تجسيدا للمأساة النوبيّة في أروع معانيها، منذ بدايات مشروعات التعلية (الأولى لخزان أسوان سنة 1912 وما صحبها من تهجير حتى حدوث الإغراق ببناء السّد العالي والتعلية الثانية سنة 1933، إلى الخروج النهائي في العام 1964)، كانت أيضا شاهدة على فترة مضطربة.
ولئن كان الكثير من المثقفين في المعتقلات قد اتخذوا من هذه الزنازين أبوابا للحرية عبر كتاباتهم، فإن قاسم خيّر كتابة هذه الرواية في محبسه بسجن الواحات على أوراق البفرة وبقلم كوبيا، وقد تمّ تهريب الكثير منها إلى خارج السّجن من خلال زيارات المعتقلين. وكان للسيدة ليلى الشّال زوجة رفعت السّعيد رفيق قاسم في محبسه، الدور الكبير في إظهارها للعلن، كما قام الفنان حسن فؤاد برسم غلافها على قطعة من القماش. وقد صدرت الرواية مُسلسلة في مجلة صباح الخير إلى أنْ صدرت في كتاب مطبوع عام 1968 وهو عام وفاة قاسم، وحوَّلها الكاتب محمود الشوربجي إلى مسلسل إذاعي بُثَّ عبر موجة إذاعة “صوت العرب”.
ورواية “الشمندورة” لم تكن مشروع محمد قاسم الوحيد بل كان يطمح لتحقيق ثلاثية كان تخطيطه لها على هذا النحو “الشمندورة – الطوفان- بعد الهجرة”، مُتتبعا الآثار النفسيّة المدمِّرة للتهجير. وبالفعل فقد شرعَ في كتابة الجزء الثاني “الطوفان” وإن كان على هيئة حلقات مسلسلة للإذاعة وقد أذيعت منه 23 حلقة فقط، ولكنه توفي إثر أزمة قلبية مفاجئة بعد خروجه من السجن في العام 1968 قبل أن ينهيها، فتمّ استكمال السبع حلقات الناقصة بأشعار لزكي مراد، كما ورد في تحقيق لسمر نور عن خليل قاسم كاتب “الشمندورة المظلوم حيا وميتا”.
وتبدأ الرواية بعين السَّارد الطفل حامد وهو يصف قدوم الأفندية أصحاب الطرابيش الحمراء والوجوه البيضاء على ظهر سفينة، لجرد الأراضي والنخيل ومتعلقات أهل القرية لبدء عمليات التعويض. وما بين مظاهر الفضول من الصغار (حامد وبرعي وشلتهما) لرؤية هؤلاء الأفندية ومحاولة النوبيين التمسّك بأرضهم وعدم قبول التعويضات، تدور وتتحرك الرواية عبر فصول مُتعدّدة تَروي مَشاهد عن المأساة والامتثال لأمر الحكومة بقبول التعويضات، وصولا إلى المكان البديل، وما صحب ذلك من حنين للأرض. وتنتهي بالراوي الطفل وقد وصل عمره إلى 13 عاما، وعودته إلى المدرسة في عنيبة تاركا النجع خلفه، ليكون هو الأمل الذي تنتظره القرية بعدما سافر العديد من أبنائها إلى مصر، فانقطعت أخبارهم عنها.
قدَّمَ محمد خليل قاسم في مرويته مأساة الإنسان النوبي ورحلة اقتلاعه من أرضه إلى أرض أخرى لا ينتمي إليها، وكأنّه قُدر له أن يكون تائها، فظلّ دائما مرتبطا بتلك الأرض التي نشأ فيها. ويركّز الراوي/ الأنا على الجانب النفسي مُظهرا واحدة من أنبل علاقات الانصهار بين الإنسان وأرضه، في صورة أُناس النوبة الذين يعشقونها إلى حدِّ التقديس. فالنيل لديهم هو رمز الطهارة والتعميد. ويحتل النيل موقعا مُميِّزا في حياة النوبيّ كمصدر للخير، وأيضا كمصدر للشّر، فمثلما هو مانح للحياة، فهو سالبها.
لوحة فنية
يظهر الكاتب حجم مأساة التهجير التي يتعرض لها الأهالي، من قراهم التي ولدوا فيها إلى قرى أخرى، من خلال تصويره لعلاقة المهاجرين من أبناء النوبة الذين يهجرون الأرض مرغمين للعمل في مصر والإسكندرية، وعند عودتهم “يحتضنون القيراط والقيراطين كما يحتضن الإنسان أطفاله أو معشوقته”، أين يبرز الانتماء للمكان كأحد مقومات إقامة العلاقة حتى لو كانت غير شرعية.
لا ينسى الكاتب وهو يتغنّى بعشق المكان أن يصوِّر الحياة داخل المجتمع النوبيّ، كما هي بشخصياتها وأسمائها (داريا سكينة، صالح جلق، أش الله، حجوبة، برعيد ولحظ) وحِرفها وأزيائها المميّزة، كما يُدبِّج النص بأسماء القرى والنجوع الحقيقية: “قتة”، “الدر”، “أبريم”، “كنوز”، “دابور”، “عافية”، “الكلابشة”، و“خور رحمة”، وأطعمتها المميّزة كالخرميد “العيش المخمر”، وغيرها من المفردات المحليّة مثل “أنان هالي” بمعنى (كيف حالك)، “اشري يا” (الحمد لله ).
والرواية بما حوته من أسماء وأوصاف لكلّ شيء وقعت عليه عين الرّاوي في المكان، غدت أشبه بلوحة فنية عن عادات وتقاليد المجتمع النوبي، في أفراحه وأتراحه، لهوه وجده، زواج، موت، ميلاد وسبوع حتى ألعاب الصغار والكبار، وكأنّه يُقدّم وثيقة لكلّ ما يتصل بالإنسان النوبي ومعيشه بما في ذلك العلاقات الاجتماعية وعلاقات العمل والتبادل التجاريّ والحبّ والكُره.
كلّ هذا يورده الكاتب في سياق درامي لا ينفصل عن العمل، وبالمثل علاقات الحبِّ والعلاقات غير المشروعة التي يُقدم عليها الأغراب، ليقول إنّها دخيلة على هذا المجتمع البسيط، الذي يُعلي لقوانين الشرف والكرامة وما يهيمن على بنية العقل من خرافات تَنْحَو مَنْحى الأسطورة والتقديس كالتبرك بالأولياء واللوذ بضاربي الودع كفكيهة ضاربة الرمل والشيخ الشاذلي كاتب الأحجية. وتنتهي الرواية بمشهد وداع حامد أثناء ذهابه إلى المدرسة وكأنّ محمد خليل قاسم يشدّد على التعليم والمعرفة في صورة حامد، ليس للنوبيين فقط بل للمصريين جميعا، كوسيلة من وسائل التحرّر من التخلُّف الذي هيمن على بنية العقل لفترة طويلة وما صاحب ذلك من تغييب للوعي.
وتكشف الرواية عن صراع في العلاقة بين أهل النوبة والشمال، فالنوبيّ يرى أن الشمال مصدر للقلق والاضطراب، لكنه يضطر للهجرة إليه للعمل، وهو ما أحدث مشكلات اجتماعية ونفسية واقتصادية. تأتي الشمندورة في 57 وحدة مختلفة كل وحدة عن الأُخرى في الطول والسمك، وتعالج كل وحدة على حدة حدثا فرعيا، يتراكم هذا الحدث الفرعي مع ما يسبقه وما يليه، فيتكوَّن السَّرد من تتابع هذه الوحدات، وقد أخذت هذه الوحدات نظام التقطيع لا المواصلة السّردية.
وتمثل الرواية سجلا توثيقيا لحياة النوبيين وعاداتهم وأنماط معيشتهم، كنوع من الحفاظ على الهوية من الضياع، وهو ما أعقبه بحركة موسّعة من قبل الجيل الثاني حسن نور ويحيى مختار وحجاّج أدّول، في استكمال لتوثيق المسيرة النضالية. ولا يجب أن يغفل الحسّ الوطني الذي تجاوز النوبة ليشمل مصر كلها، فالرواية أذابت الأنا في خضم النحن، وأبرزت الروح الجماعية في الأحزان قبل الأفراح.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.