رسميا.. جامعة الأزهر 2025 تفتتح أول كلية للبنات في مطروح وتعلن عن تخصصات جديدة    رسميا بعد الهبوط الجديد.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم السبت 23 أغسطس 2025    تشيلسي يكتسح وست هام بخماسية في الدوري الإنجليزي الممتاز    محمد الشناوي خارج مباراة الأهلي وغزل المحلة.. هاني رمزي يكشف السبب    رسميا.. مدرسة صناعة الطائرات تعلن قوائم القبول للعام الدراسي الجديد 2025/ 2026    ويجز يغنى الأيام من ألبومه الجديد.. والجمهور يغنى معه    مدحت صالح يتألق بغناء حبيبى يا عاشق وزى المليونيرات بحفله فى مهرجان القلعة    ابنة سيد مكاوي عن شيرين عبدالوهاب: فقدت تعاطفي بسبب عدم مسؤوليتها    إسرائيل تشن هجومًا على مخازن تابعة لحزب الله في لبنان    مراسل من دير البلح: المنطقة باتت مستباحة بالكامل تحت نيران الاحتلال    وزير الدفاع الإيراني: صواريخ جديدة برؤوس حربية متطورة لم تُستخدم في حرب ال12 يومًا    استقالة وزير الخارجية الهولندي بسبب موقف بلاده من إسرائيل    تشيلسي يدمر وست هام بخماسية في الدوري الإنجليزي.. فيديو    الحوثيون يعلنون تنفيذ 3 عمليات ضد أهداف في تل أبيب    تنسيق الشهادات المعادلة 2025، قواعد قبول طلاب الثانوية السعودية بالجامعات المصرية    وزير الري يشارك في جلسة "القدرة على الصمود في مواجهة التغير المناخي بقطاع المياه"    أمم إفريقيا للمحليين - المليوي يقود المغرب إلى نصف النهائي.. ومدغشقر تقصي كينيا    فالنسيا من قمم المجد إلى هاوية النسيان.. حين تقودك الإدارة إلى اللعنة    تقرير: ليس فينيسيوس فقط.. أنشيلوتي يستبعد رودريجو من قائمة البرازيل    محمود وفا حكما لمباراة الاتحاد والبنك الأهلى والسيد للإسماعيلى والطلائع    ارتفاع الكندوز 39 جنيها، أسعار اللحوم اليوم في الأسواق    سليم غنيم يحافظ على الصدارة للعام الثاني في سباقات الحمام الزاجل الدولية    اليوم، دار الإفتاء تستطلع هلال شهر ربيع الأول لعام 1447 هجريا    في لحظات.. شقة تتحول إلى ساحة من اللهب والدخان    سعر الأرز والسكر والسلع الأساسية في الأسواق اليوم السبت 23 أغسطس 2025    قطع المياه عن بعض المناطق بأكتوبر الجديدة لمدة 6 ساعات    خطة عاجلة لتحديث مرافق المنطقة الصناعية بأبو رواش وتطوير بنيتها التحتية    تحت عنوان كامل العدد، مدحت صالح يفتتح حفله على مسرح المحكي ب "زي ما هي حبها"    3 أبراج على موعد مع التفاؤل اليوم: عالم جديد يفتح الباب أمامهم ويتلقون أخبارا مشجعة    خيرى حسن ينضم إلى برنامج صباح الخير يا مصر بفقرة أسبوعية على شاشة ماسبيرو    ميرهان حسين جريئة وليلى علوي بإطلالة شبابية.. لقطات نجوم الفن في 24 ساعة    حدث بالفن| أول تعليق من شيرين عبد الوهاب بعد أنباء عودتها ل حسام حبيب وفنان يرفض مصافحة معجبة ونجوم الفن في سهرة صيفية خاصة    المنوفية تقدم أكثر من 2.6 مليون خدمة طبية ضمن حملة 100 يوم صحة    صحة المنوفية تواصل حملاتها بسرس الليان لضمان خدمات طبية آمنة وذات جودة    كتر ضحك وقلل قهوة.. طرق للتخلص من زيادة هرمون التوتر «الكورتيزول»    نجاح عملية جراحية دقيقة لاستئصال ورم ليفي بمستشفى القصاصين فى الإسماعيلية    مقتل عنصر من الأمن السورى فى هجوم انتحارى نفذه "داعش" بدير الزور    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. الدفاع الروسية: سيطرنا على 9 بلدات فى أوكرانيا خلال أسبوع .. وزيرة خارجية سلوفينيا: المجاعة مرحلة جديدة من الجحيم فى غزة.. إسرائيل عطلت 60 محطة تحلية مياه فى غزة    نتيجة تنسيق رياض الأطفال والصف الأول الابتدائي الأزهر الشريف 2025 خلال ساعات.. «رابط مباشر»    أخبار × 24 ساعة.. موعد انطلاق العام الدراسى الجديد بالمدارس الدولية والرسمية    قدم لكلية الطب وسبقه القدر.. وفاة طالب أثناء تركيبه ميكروفون لمسجد في قنا    ظهور مفاجئ ل «منخفض الهند».. تحذير بشأن حالة الطقس اليوم: القاهرة تُسجل 40 مئوية    القضاء على بؤرة إجرامية خطرة بأشمون خلال تبادل النار مع قوات الشرطة    ضبط 1954 مخالفة ورفع كفاءة طريق «أم جعفر – الحلافي» ورصف شارع الجيش بكفر الشيخ    الزمالك يواصل استعداداته لمواجهة فاركو بتدريبات استشفائية وفنية    محمد طاهر: الكرة من أفضل أدوات التسويق ورعاية للزمالك لدعم الأندية الشعبية    منها الإقلاع عن التدخين.. 10 نصائح للحفاظ على صحة عينيك مع تقدمك فى العمر (تعرف عليها)    خدعوك فقالوا: «الرزق مال»    هل يجوز شرعًا معاقبة تارك صلاة الجمعة بالسجن؟.. أحمد كريمة يجيب    هل إفشاء السر بدون قصد خيانة أمانة وما حكمه؟ أمين الفتوى يجيب    خطيب الجامع الأزهر: أعداء الأمة يحاولون تزييف التاريخ ونشر اليأس    شنوان.. القرية التي جعلت من القلقاس جواز سفر إلى العالم| صور    محافظ مطروح ورئيس جامعة الأزهر يفتتحان كلية البنات الأزهرية بالمحافظة    رئيس جهاز القرى السياحية يلتقي البابا تواضروس الثاني بالعلمين (صور)    إمام مسجد بكفر الشيخ: لابد أن نقتدى بالرسول بلغة الحوار والتفكير المنضبط.. فيديو    رابطة الصحفيين أبناء الدقهلية تؤكد انحيازها التام لحرية الإعلام    مصلحة الضرائب تنفي وجود خلاف بين الحكومة وشركات البترول حول ضريبة القيمة المضافة    سعر طن الحديد الاستثماري وعز والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الجمعة 22 أغسطس 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشمندورة .. رواية مهربة من المعتقل عن عالم النوبيين
نشر في صوت البلد يوم 14 - 12 - 2016

وصفت رواية “الشمندورة” للكاتب النوبي محمد خليل قاسم بأنها أوّل رواية نوبية في الأدب العربي، واعتبرها الباحث شكري عيّاد لا تقل عن رواية الأرض لعبدالرحمن الشرقاوي، وإن كانت الفصول الأخيرة في “الشمندورة” تتفوّق على الأرض بكثير.
وفي الحقيقة لم تكن رواية الشمندورة مجرد رواية يغلب عليها الطابع الحكائي المازج بين الوقائعي والتخييلي، بقدر ما كانت “مانفستو” ضدّ ما حَاق بالنوبة القديمة، ومظلمة وصرخة احتجاج عرّفت العالم أجمع بالقضية النوبية من جراء وقائع التهجير القسري، والشّتات لسُّكان القرى النوبيّة الواقعة في بحيرة ناصر إثر تنشئة خزان أسوان والسّد العالي على مدار حكومات مختلفة.
النيل والتهجير
مثلما كانت الرواية، التي صدرت مؤخّرا ضمن سلسلة “مختارات الكرمة” التي تصدر عن دار الكرمة بالقاهرة 2016، تجسيدا للمأساة النوبيّة في أروع معانيها، منذ بدايات مشروعات التعلية (الأولى لخزان أسوان سنة 1912 وما صحبها من تهجير حتى حدوث الإغراق ببناء السّد العالي والتعلية الثانية سنة 1933، إلى الخروج النهائي في العام 1964)، كانت أيضا شاهدة على فترة مضطربة.
ولئن كان الكثير من المثقفين في المعتقلات قد اتخذوا من هذه الزنازين أبوابا للحرية عبر كتاباتهم، فإن قاسم خيّر كتابة هذه الرواية في محبسه بسجن الواحات على أوراق البفرة وبقلم كوبيا، وقد تمّ تهريب الكثير منها إلى خارج السّجن من خلال زيارات المعتقلين. وكان للسيدة ليلى الشّال زوجة رفعت السّعيد رفيق قاسم في محبسه، الدور الكبير في إظهارها للعلن، كما قام الفنان حسن فؤاد برسم غلافها على قطعة من القماش. وقد صدرت الرواية مُسلسلة في مجلة صباح الخير إلى أنْ صدرت في كتاب مطبوع عام 1968 وهو عام وفاة قاسم، وحوَّلها الكاتب محمود الشوربجي إلى مسلسل إذاعي بُثَّ عبر موجة إذاعة “صوت العرب”.
ورواية “الشمندورة” لم تكن مشروع محمد قاسم الوحيد بل كان يطمح لتحقيق ثلاثية كان تخطيطه لها على هذا النحو “الشمندورة – الطوفان- بعد الهجرة”، مُتتبعا الآثار النفسيّة المدمِّرة للتهجير. وبالفعل فقد شرعَ في كتابة الجزء الثاني “الطوفان” وإن كان على هيئة حلقات مسلسلة للإذاعة وقد أذيعت منه 23 حلقة فقط، ولكنه توفي إثر أزمة قلبية مفاجئة بعد خروجه من السجن في العام 1968 قبل أن ينهيها، فتمّ استكمال السبع حلقات الناقصة بأشعار لزكي مراد، كما ورد في تحقيق لسمر نور عن خليل قاسم كاتب “الشمندورة المظلوم حيا وميتا”.
وتبدأ الرواية بعين السَّارد الطفل حامد وهو يصف قدوم الأفندية أصحاب الطرابيش الحمراء والوجوه البيضاء على ظهر سفينة، لجرد الأراضي والنخيل ومتعلقات أهل القرية لبدء عمليات التعويض. وما بين مظاهر الفضول من الصغار (حامد وبرعي وشلتهما) لرؤية هؤلاء الأفندية ومحاولة النوبيين التمسّك بأرضهم وعدم قبول التعويضات، تدور وتتحرك الرواية عبر فصول مُتعدّدة تَروي مَشاهد عن المأساة والامتثال لأمر الحكومة بقبول التعويضات، وصولا إلى المكان البديل، وما صحب ذلك من حنين للأرض. وتنتهي بالراوي الطفل وقد وصل عمره إلى 13 عاما، وعودته إلى المدرسة في عنيبة تاركا النجع خلفه، ليكون هو الأمل الذي تنتظره القرية بعدما سافر العديد من أبنائها إلى مصر، فانقطعت أخبارهم عنها.
قدَّمَ محمد خليل قاسم في مرويته مأساة الإنسان النوبي ورحلة اقتلاعه من أرضه إلى أرض أخرى لا ينتمي إليها، وكأنّه قُدر له أن يكون تائها، فظلّ دائما مرتبطا بتلك الأرض التي نشأ فيها. ويركّز الراوي/ الأنا على الجانب النفسي مُظهرا واحدة من أنبل علاقات الانصهار بين الإنسان وأرضه، في صورة أُناس النوبة الذين يعشقونها إلى حدِّ التقديس. فالنيل لديهم هو رمز الطهارة والتعميد. ويحتل النيل موقعا مُميِّزا في حياة النوبيّ كمصدر للخير، وأيضا كمصدر للشّر، فمثلما هو مانح للحياة، فهو سالبها.
لوحة فنية
يظهر الكاتب حجم مأساة التهجير التي يتعرض لها الأهالي، من قراهم التي ولدوا فيها إلى قرى أخرى، من خلال تصويره لعلاقة المهاجرين من أبناء النوبة الذين يهجرون الأرض مرغمين للعمل في مصر والإسكندرية، وعند عودتهم “يحتضنون القيراط والقيراطين كما يحتضن الإنسان أطفاله أو معشوقته”، أين يبرز الانتماء للمكان كأحد مقومات إقامة العلاقة حتى لو كانت غير شرعية.
لا ينسى الكاتب وهو يتغنّى بعشق المكان أن يصوِّر الحياة داخل المجتمع النوبيّ، كما هي بشخصياتها وأسمائها (داريا سكينة، صالح جلق، أش الله، حجوبة، برعيد ولحظ) وحِرفها وأزيائها المميّزة، كما يُدبِّج النص بأسماء القرى والنجوع الحقيقية: “قتة”، “الدر”، “أبريم”، “كنوز”، “دابور”، “عافية”، “الكلابشة”، و“خور رحمة”، وأطعمتها المميّزة كالخرميد “العيش المخمر”، وغيرها من المفردات المحليّة مثل “أنان هالي” بمعنى (كيف حالك)، “اشري يا” (الحمد لله ).
والرواية بما حوته من أسماء وأوصاف لكلّ شيء وقعت عليه عين الرّاوي في المكان، غدت أشبه بلوحة فنية عن عادات وتقاليد المجتمع النوبي، في أفراحه وأتراحه، لهوه وجده، زواج، موت، ميلاد وسبوع حتى ألعاب الصغار والكبار، وكأنّه يُقدّم وثيقة لكلّ ما يتصل بالإنسان النوبي ومعيشه بما في ذلك العلاقات الاجتماعية وعلاقات العمل والتبادل التجاريّ والحبّ والكُره.
كلّ هذا يورده الكاتب في سياق درامي لا ينفصل عن العمل، وبالمثل علاقات الحبِّ والعلاقات غير المشروعة التي يُقدم عليها الأغراب، ليقول إنّها دخيلة على هذا المجتمع البسيط، الذي يُعلي لقوانين الشرف والكرامة وما يهيمن على بنية العقل من خرافات تَنْحَو مَنْحى الأسطورة والتقديس كالتبرك بالأولياء واللوذ بضاربي الودع كفكيهة ضاربة الرمل والشيخ الشاذلي كاتب الأحجية. وتنتهي الرواية بمشهد وداع حامد أثناء ذهابه إلى المدرسة وكأنّ محمد خليل قاسم يشدّد على التعليم والمعرفة في صورة حامد، ليس للنوبيين فقط بل للمصريين جميعا، كوسيلة من وسائل التحرّر من التخلُّف الذي هيمن على بنية العقل لفترة طويلة وما صاحب ذلك من تغييب للوعي.
وتكشف الرواية عن صراع في العلاقة بين أهل النوبة والشمال، فالنوبيّ يرى أن الشمال مصدر للقلق والاضطراب، لكنه يضطر للهجرة إليه للعمل، وهو ما أحدث مشكلات اجتماعية ونفسية واقتصادية. تأتي الشمندورة في 57 وحدة مختلفة كل وحدة عن الأُخرى في الطول والسمك، وتعالج كل وحدة على حدة حدثا فرعيا، يتراكم هذا الحدث الفرعي مع ما يسبقه وما يليه، فيتكوَّن السَّرد من تتابع هذه الوحدات، وقد أخذت هذه الوحدات نظام التقطيع لا المواصلة السّردية.
وتمثل الرواية سجلا توثيقيا لحياة النوبيين وعاداتهم وأنماط معيشتهم، كنوع من الحفاظ على الهوية من الضياع، وهو ما أعقبه بحركة موسّعة من قبل الجيل الثاني حسن نور ويحيى مختار وحجاّج أدّول، في استكمال لتوثيق المسيرة النضالية. ولا يجب أن يغفل الحسّ الوطني الذي تجاوز النوبة ليشمل مصر كلها، فالرواية أذابت الأنا في خضم النحن، وأبرزت الروح الجماعية في الأحزان قبل الأفراح.
وصفت رواية “الشمندورة” للكاتب النوبي محمد خليل قاسم بأنها أوّل رواية نوبية في الأدب العربي، واعتبرها الباحث شكري عيّاد لا تقل عن رواية الأرض لعبدالرحمن الشرقاوي، وإن كانت الفصول الأخيرة في “الشمندورة” تتفوّق على الأرض بكثير.
وفي الحقيقة لم تكن رواية الشمندورة مجرد رواية يغلب عليها الطابع الحكائي المازج بين الوقائعي والتخييلي، بقدر ما كانت “مانفستو” ضدّ ما حَاق بالنوبة القديمة، ومظلمة وصرخة احتجاج عرّفت العالم أجمع بالقضية النوبية من جراء وقائع التهجير القسري، والشّتات لسُّكان القرى النوبيّة الواقعة في بحيرة ناصر إثر تنشئة خزان أسوان والسّد العالي على مدار حكومات مختلفة.
النيل والتهجير
مثلما كانت الرواية، التي صدرت مؤخّرا ضمن سلسلة “مختارات الكرمة” التي تصدر عن دار الكرمة بالقاهرة 2016، تجسيدا للمأساة النوبيّة في أروع معانيها، منذ بدايات مشروعات التعلية (الأولى لخزان أسوان سنة 1912 وما صحبها من تهجير حتى حدوث الإغراق ببناء السّد العالي والتعلية الثانية سنة 1933، إلى الخروج النهائي في العام 1964)، كانت أيضا شاهدة على فترة مضطربة.
ولئن كان الكثير من المثقفين في المعتقلات قد اتخذوا من هذه الزنازين أبوابا للحرية عبر كتاباتهم، فإن قاسم خيّر كتابة هذه الرواية في محبسه بسجن الواحات على أوراق البفرة وبقلم كوبيا، وقد تمّ تهريب الكثير منها إلى خارج السّجن من خلال زيارات المعتقلين. وكان للسيدة ليلى الشّال زوجة رفعت السّعيد رفيق قاسم في محبسه، الدور الكبير في إظهارها للعلن، كما قام الفنان حسن فؤاد برسم غلافها على قطعة من القماش. وقد صدرت الرواية مُسلسلة في مجلة صباح الخير إلى أنْ صدرت في كتاب مطبوع عام 1968 وهو عام وفاة قاسم، وحوَّلها الكاتب محمود الشوربجي إلى مسلسل إذاعي بُثَّ عبر موجة إذاعة “صوت العرب”.
ورواية “الشمندورة” لم تكن مشروع محمد قاسم الوحيد بل كان يطمح لتحقيق ثلاثية كان تخطيطه لها على هذا النحو “الشمندورة – الطوفان- بعد الهجرة”، مُتتبعا الآثار النفسيّة المدمِّرة للتهجير. وبالفعل فقد شرعَ في كتابة الجزء الثاني “الطوفان” وإن كان على هيئة حلقات مسلسلة للإذاعة وقد أذيعت منه 23 حلقة فقط، ولكنه توفي إثر أزمة قلبية مفاجئة بعد خروجه من السجن في العام 1968 قبل أن ينهيها، فتمّ استكمال السبع حلقات الناقصة بأشعار لزكي مراد، كما ورد في تحقيق لسمر نور عن خليل قاسم كاتب “الشمندورة المظلوم حيا وميتا”.
وتبدأ الرواية بعين السَّارد الطفل حامد وهو يصف قدوم الأفندية أصحاب الطرابيش الحمراء والوجوه البيضاء على ظهر سفينة، لجرد الأراضي والنخيل ومتعلقات أهل القرية لبدء عمليات التعويض. وما بين مظاهر الفضول من الصغار (حامد وبرعي وشلتهما) لرؤية هؤلاء الأفندية ومحاولة النوبيين التمسّك بأرضهم وعدم قبول التعويضات، تدور وتتحرك الرواية عبر فصول مُتعدّدة تَروي مَشاهد عن المأساة والامتثال لأمر الحكومة بقبول التعويضات، وصولا إلى المكان البديل، وما صحب ذلك من حنين للأرض. وتنتهي بالراوي الطفل وقد وصل عمره إلى 13 عاما، وعودته إلى المدرسة في عنيبة تاركا النجع خلفه، ليكون هو الأمل الذي تنتظره القرية بعدما سافر العديد من أبنائها إلى مصر، فانقطعت أخبارهم عنها.
قدَّمَ محمد خليل قاسم في مرويته مأساة الإنسان النوبي ورحلة اقتلاعه من أرضه إلى أرض أخرى لا ينتمي إليها، وكأنّه قُدر له أن يكون تائها، فظلّ دائما مرتبطا بتلك الأرض التي نشأ فيها. ويركّز الراوي/ الأنا على الجانب النفسي مُظهرا واحدة من أنبل علاقات الانصهار بين الإنسان وأرضه، في صورة أُناس النوبة الذين يعشقونها إلى حدِّ التقديس. فالنيل لديهم هو رمز الطهارة والتعميد. ويحتل النيل موقعا مُميِّزا في حياة النوبيّ كمصدر للخير، وأيضا كمصدر للشّر، فمثلما هو مانح للحياة، فهو سالبها.
لوحة فنية
يظهر الكاتب حجم مأساة التهجير التي يتعرض لها الأهالي، من قراهم التي ولدوا فيها إلى قرى أخرى، من خلال تصويره لعلاقة المهاجرين من أبناء النوبة الذين يهجرون الأرض مرغمين للعمل في مصر والإسكندرية، وعند عودتهم “يحتضنون القيراط والقيراطين كما يحتضن الإنسان أطفاله أو معشوقته”، أين يبرز الانتماء للمكان كأحد مقومات إقامة العلاقة حتى لو كانت غير شرعية.
لا ينسى الكاتب وهو يتغنّى بعشق المكان أن يصوِّر الحياة داخل المجتمع النوبيّ، كما هي بشخصياتها وأسمائها (داريا سكينة، صالح جلق، أش الله، حجوبة، برعيد ولحظ) وحِرفها وأزيائها المميّزة، كما يُدبِّج النص بأسماء القرى والنجوع الحقيقية: “قتة”، “الدر”، “أبريم”، “كنوز”، “دابور”، “عافية”، “الكلابشة”، و“خور رحمة”، وأطعمتها المميّزة كالخرميد “العيش المخمر”، وغيرها من المفردات المحليّة مثل “أنان هالي” بمعنى (كيف حالك)، “اشري يا” (الحمد لله ).
والرواية بما حوته من أسماء وأوصاف لكلّ شيء وقعت عليه عين الرّاوي في المكان، غدت أشبه بلوحة فنية عن عادات وتقاليد المجتمع النوبي، في أفراحه وأتراحه، لهوه وجده، زواج، موت، ميلاد وسبوع حتى ألعاب الصغار والكبار، وكأنّه يُقدّم وثيقة لكلّ ما يتصل بالإنسان النوبي ومعيشه بما في ذلك العلاقات الاجتماعية وعلاقات العمل والتبادل التجاريّ والحبّ والكُره.
كلّ هذا يورده الكاتب في سياق درامي لا ينفصل عن العمل، وبالمثل علاقات الحبِّ والعلاقات غير المشروعة التي يُقدم عليها الأغراب، ليقول إنّها دخيلة على هذا المجتمع البسيط، الذي يُعلي لقوانين الشرف والكرامة وما يهيمن على بنية العقل من خرافات تَنْحَو مَنْحى الأسطورة والتقديس كالتبرك بالأولياء واللوذ بضاربي الودع كفكيهة ضاربة الرمل والشيخ الشاذلي كاتب الأحجية. وتنتهي الرواية بمشهد وداع حامد أثناء ذهابه إلى المدرسة وكأنّ محمد خليل قاسم يشدّد على التعليم والمعرفة في صورة حامد، ليس للنوبيين فقط بل للمصريين جميعا، كوسيلة من وسائل التحرّر من التخلُّف الذي هيمن على بنية العقل لفترة طويلة وما صاحب ذلك من تغييب للوعي.
وتكشف الرواية عن صراع في العلاقة بين أهل النوبة والشمال، فالنوبيّ يرى أن الشمال مصدر للقلق والاضطراب، لكنه يضطر للهجرة إليه للعمل، وهو ما أحدث مشكلات اجتماعية ونفسية واقتصادية. تأتي الشمندورة في 57 وحدة مختلفة كل وحدة عن الأُخرى في الطول والسمك، وتعالج كل وحدة على حدة حدثا فرعيا، يتراكم هذا الحدث الفرعي مع ما يسبقه وما يليه، فيتكوَّن السَّرد من تتابع هذه الوحدات، وقد أخذت هذه الوحدات نظام التقطيع لا المواصلة السّردية.
وتمثل الرواية سجلا توثيقيا لحياة النوبيين وعاداتهم وأنماط معيشتهم، كنوع من الحفاظ على الهوية من الضياع، وهو ما أعقبه بحركة موسّعة من قبل الجيل الثاني حسن نور ويحيى مختار وحجاّج أدّول، في استكمال لتوثيق المسيرة النضالية. ولا يجب أن يغفل الحسّ الوطني الذي تجاوز النوبة ليشمل مصر كلها، فالرواية أذابت الأنا في خضم النحن، وأبرزت الروح الجماعية في الأحزان قبل الأفراح.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.