«الجزارين عارفين الكلام ده».. نقيب الفلاحين: سعر كيلو اللحمة الحية لا يزيد عن 165 جنيهًا    معلق مباراة برشلونة وليفانتي في الدوري الإسباني    «جمارك القاهرة» تحبط محاولات تهريب عملات أثرية ومخدرات وزمرد وشهادات مزورة    جمهور ويجز يتوافد لحضور حفله في مهرجان العلمين الجديدة (صور)    قفزا في الترعة.. ضبط متهمين بسرقة الدراجات البخارية وتجارة المخدرات بسوهاج    بطولة وفداء.. عامل مزلقان للسكة الحديد ببني سويف ينقذ حياة شاب من الموت المحقق تحت قضبان قطار    ترامب: نفعل ما بوسعنا للإفراج عن الرهائن بغزة    اليوم الأول بدوري القسم الثاني.. تعادل كفر الزيات والسكة الحديد والإنتاج يحسمها بثنائية    السفير حسام زكي: التحركات الإسرائيلية في غزة مرفوضة وتعيدنا إلى ما قبل 2005    بالمجاميع.. مواعيد اختبارات الهيئة والقبول بمدارس التمريض في مطروح (تفاصيل)    تطور جديد في مستقبل دوناروما.. وكيله يظهر في مانشستر سيتي    رابطة الأندية تعلن تعديل مواعيد وملاعب 7 مباريات في الدوري    رضوى الشربيني تعلق على عودة حسام حبيب ل شيرين عبدالوهاب: «يا ألف خسارة»    منها الإقلاع عن التدخين.. 10 نصائح للحفاظ على صحة عينيك مع تقدمك فى العمر (تعرف عليها)    الخارجية الفلسطينية: استباحة الاحتلال والمستوطنين للضفة الغربية انتهاك صارخ وتكريس لمخططات التهويد والضم    ترامب يعلن موعد قرعة كأس العالم 2026 في أمريكا    ترامب: الوضع الراهن في غزة يجب أن ينتهي    عميد تجارة القاهرة الأسبق: الجامعات الحكومية ما زالت الأفضل    كندا تتراجع عن الرسوم الجمركية العقابية على السلع الأمريكية    ثورة جديدة بتطوير المناهج «2»    موعد إجازة المولد النبوي 2025 للقطاعين الحكومي والخاص (رسميًا)    رواية مختلقة.. وزارة الداخلية تكشف حقيقة تعدي شخص على جارته    الإيجار القديم والبكالوريا والأحزاب.. وزير الشؤون النيابية يوضح مواقف الحكومة    مدرب توتنهام: لا مكان لمن لا يريد ارتداء شعارنا    خسارة سيدات الطائرة أمام صاحب الأرض ببطولة العالم بتايلاند    الوادي الجديد تطلق منصة إلكترونية للترويج السياحي والحرف اليدوية    صراع الخير والشر في عرض مدينة الأحلام بالمهرجان الختامي لشرائح ونوادي مسرح الطفل    هل يجوز شرعًا معاقبة تارك صلاة الجمعة بالسجن؟.. أحمد كريمة يجيب    هل إفشاء السر بدون قصد خيانة أمانة وما حكمه؟ أمين الفتوى يجيب    خدعوك فقالوا: «الرزق مال»    إسلام عفيفى يكتب: الصفقات المرفوضة وتحالفات الضرورة    لغة لا تساوى وزنها علفًا    «التنظيم والإدارة» يعلن توقف الامتحانات بمركز تقييم القدرات.. لهذا السبب    شنوان.. القرية التي جعلت من القلقاس جواز سفر إلى العالم| صور    بعد مداهمة وكر التسول.. حملات مكثفة لغلق فتحات الكباري بالجيزة| صور    محمود فوزي: الحكومة جادة في تطبيق قانون الإيجار القديم وحماية الفئات الضعيفة    المجاعة تهدد نصف مليون في غزة.. كيف يضغط المجتمع الدولي على إسرائيل؟    خطيب الجامع الأزهر: أعداء الأمة يحاولون تزييف التاريخ ونشر اليأس    حماس: تصريحات كاتس «اعتراف بجرم يرقى للتطهير العرقي»    نجاح عملية دقيقة لاستئصال ورم بالمخ وقاع الجمجمة بمستشفى العامرية العام بالإسكندرية    عميد طب القصر العيني يتابع جاهزية البنية التحتية استعدادًا لانطلاق العام الدراسي    لمرضى السكري - اعتاد على تناول زبدة الفول السوداني في هذا التوقيت    محافظ مطروح ورئيس جامعة الأزهر يفتتحان كلية البنات الأزهرية بالمحافظة    "درويش" يحقق قفزة كبيرة ويتخطى 20 مليون جنيه في 9 أيام    الكشف الطبى على 276 مريضا من أهالى قرى البنجر فى قافلة مجانية بالإسكندرية    بالأرقام.. الأمن الاقتصادي يضبط آلاف القضايا خلال 24 ساعة    إمام مسجد بكفر الشيخ: لابد أن نقتدى بالرسول بلغة الحوار والتفكير المنضبط.. فيديو    بنسبة تخفيض تصل 30%.. افتتاح سوق اليوم الواحد فى مدينة دهب    مصلحة الضرائب تنفي وجود خلاف بين الحكومة وشركات البترول حول ضريبة القيمة المضافة    وزير الثقافة يستقبل وفد الموهوبين ببرنامج «اكتشاف الأبطال» من قرى «حياة كريمة»    وزارة التخطيط ووكالة جايكا تطلقان تقريرا مشتركا حول 70 عاما من الصداقة والثقة المصرية اليابانية    رابطة الصحفيين أبناء الدقهلية تؤكد انحيازها التام لحرية الإعلام    الاقتصاد المصرى يتعافى    الداخلية تكشف تفاصيل اقتحام منزل والتعدي على أسرة بالغربية    محافظ أسيوط يسلم جهاز عروسة لابنة إحدى المستفيدات من مشروعات تمكين المرأة    سعر طن الحديد الاستثماري وعز والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الجمعة 22 أغسطس 2025    أزمة وتعدى.. صابر الرباعى يوجه رسالة لأنغام عبر تليفزيون اليوم السابع    نجم الأهلي السابق: أفضل تواجد عبد الله السعيد على مقاعد البدلاء ومشاركته في آخر نصف ساعة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بئر مسعود وسيدي بشر.. تفسيرات شعبية سكندرية
نشر في صوت البلد يوم 26 - 10 - 2016

الصيف يلملم الآن أوراقه ويرحل، ينسحب مهزوما أمام الخريف الذي أحبه كثيرا، أكثر من الربيع والشتاء والصيف. عندما يبدأ الخريف في الإسكندرية يتناقص عدد المصيفين ويقل الازدحام في المدينة وخاصة في سيدي بشر وميامي، وفي الغالب يرحل آخر مصيف مع بداية العام الدراسي الجديد، فمعظم المصيفين في الإسكندرية الآن إما مدرسون أو أولياء أمور.
في مثل هذا الجو بعد رحيل المصيفين يحلو لي أن أجلس على حافة بئر مسعود، أتأمل مياه البحر تجري في عمقه قادمة من البحر إلى البئر، عائدة إليه.
البئر عبارة عن فجوة داخل كتلة من الصخر، عمقها نحو 5 أمتار، وعرضها نحو متر، تربط قناة (مجراة) بين سطحها وبين ماء البحر.
وهناك أكثر من تفسير شعبي لتسميته بهذا الاسم "بير مسعود"، منها أن رجلا من الصعيد اسمه مسعود هرب من ثأر واختبأ في البئر إلى أن مات وأخذته حوريات البحر. البعض قال إن هذا البئر سمي باسم رجل صالح من تلامذة القطب الصوفي سيدي بشر الذي لا يبتعد مسجده كثيرا عن البئر.
قال آخرون إن مسعودا كان تاجرا للمخدرات هرب من الشرطة واختبأ في البئر، وظل رجال الشرطة يبحثون عنه إلى أن وجدوه حيا في البئر، لما رفض الخروج منه، أردوه قتيلا، ثم لم يجدوا جثته بعد ذلك.
ذهب البعض إلى أن هذا البئر كان مقبرة يونانية، دفن فيها بعض اليونانيين في عصر البطالسة، حيث كانت المقابر وقتها تقع على البحر.
بينما يعتقد البعض أن مسعودا هو العبد الأفريقي الأسود الذي هرب من نخّاسه وظهر زمن خلافة الحاكم بأمر الله (985 – 1021 م)، وكان يمتلك جسدا فارعا وآلة جنسية ضخمة، استطاع الحاكم بأمر الله أن يوظفها ضد التجار الجشعين وأصحاب المحلات الذين يغشون في المعيشة، ويرفعون الأسعار أو يخبئون البضائع ليفتعلوا الأزمات، فيسلط الحاكم بأمر الله مسعودا عليهم ليأتيهم من الخلف أمام أعين الناس والتجار الذين يشاهدون وينظرون حتى يفرغ مسعود بعد وقت قد يقصر أو يطول، مما قلّل من جشع التجار، خوفا من الفضيحة والعار، فاعتدلت الأسعار، وتوافرت البضائع في الأسواق.
قال ابن كثير في "البداية والنهاية" عن أفعال الحاكم بأمر الله: "ومن أفعاله (أنه كان يعمل الحسبة بنفسه، فكان يدور بنفسه في الأسواق على حمار له – وكان لا يركب إلا حمارًا -، فمن وجده قد غشَّ في معيشة، أمر عبدًا أسود معه يقال له مسعود، أن يفعل به الفاحشة العظمى".)
وذكر ابن إياس في "بدائع الزهور في وقائع الدهور" أبياتا من الشعر الركيك قيلت في مسعود على سبيل المزاح والدعابة، فقال أحد الشعراء:
إن لمسعود آلةً عظُمت ** كأنها في صفات طومارِ
تشقّ أدبار من بهم جرمٌ ** أصعب من درة بمسمارِ
وذات مرة وقع تاجر ضعيف البنية، هشّ التكوين الجسدي في قبضة مسعود، وعندما همّ مسعود أن يفعل به الفاحشة، مات الرجل بين يديه خوفا ورعبا وهلعا، فهرب مسعود وأطلق ساقيه للريح، وأخذ يعدو أياما في اتجاه الشمال الغربي حتى وصل إلى الإسكندرية، وأقام في البئر خوفا من أتباع الحاكم بأمر الله الذي توعد أن يخصيه إذا لم يعد.
بعد أيام هدأت نفسه، وارتخى عضوه قليلا، وهناك عاينته حورية البحر، وأعجبها جسده وقوته وآلته، فتجسدت له في صورة امرأة في غاية الحسن والبهاء، وجربته بعد أن أطعمته أشهى المأكولات البحرية وسقته أعتق المشروبات الروحية. ثم عقدت اتفاقا معه أن تظهر له كل ليلة لمدة شهر قمري، وإذا أنجبت منه، يصبح مسعود سيدا على البحار ويعيش معها في قصرها الذي تمتد أعمدته تحت الماء بين البئر الذي سمي باسمه وصخرة ميامي.
عموما فإن البعض يعتقد أن هذا البئر يجلب الحظ والبركة، لذا يلقي فيه البعض نقودا معدنية وخاصة من تريد عريسا، أو من تريد إنجاب طفل أو طفلة، أو من يبحث عن عمل، أو يشفى من مرض، أو من له أمنية ما يود أن تتحقق.
هؤلاء الذين يلقون نقودهم في البئر لا يعلمون أنهم بعد أن يغادروا البئر يغوص بعض الشبان بداخله ليجعموا ما به من نقود ملقاة به، ينزلون إلى البئر ويخرجون من البحر.
ولكن لم يعلم أحد أن في هذا البئر سكنت أم الماء وبناتها، وامتدت قاعتها الرئيسية في قصرها حتى أسفل صخرة ميامي. وأن كليوباترا جاءت هنا، وعمّدتها أم الماء لتكون ملكة على مصر قبل أن تتفق مع قيصر الروم على تنصيبها ملكة على الوادي والدلتا وبحار مصر، وأن لهذا البئر ممرا سريا في اتجاهين الاتجاه الأول؛ بري يقود إلى واحة سيوه، وبالتحديد "معبد آمون" والممر الثاني؛ بحري يقود إلى بيروت ثم إلى "مغارة جعيتا".
لا يعرف الذين يلقون نقودهم المعدنية، أنها ستذهب عن طريق الممر الأرضي إلى "معبد آمون" حيث يصلي الكهنة للربة إيزيس لتحقيق حلم من ألقى بعملته، لذا لا بد للمتبرع أن يوشوش عملته المعدنية بما يريد من دعاء أو رغبة يود أن تتحقق. ولكن ما يفسد على هذا المتبرع دعاءه هؤلاء الشباب الذي يغوصون للحصول على العملة قبل أن تذهب مع نظيراتها إلى "معبد آمون".
سيدي بشر
وقف الشيخ المبروك بشر الجوهري على شاطئ البحر، وحده أمام هذا الفضاء الوسيع، ليس هناك سوى الرمل الأشقر والبحر الأبيض والأفق الممتد إلى ما لا نهاية حيث يلتحم البحر بالسماء الزرقاء، وبعض الصخور الصفراء والبُنيّة الفَرِحَة تبدو على يمينه ما بين الرمل والبحر.
توضأ الشيخ بشر من مياه البحر، وصلّى ركعتي شكر لله أن وصل سالما إلى هذه البقعة من شرق الإسكندرية. قرر أن يقضي بقية حياته في تلك المنطقة التي سميت باسمه فيما بعد، وأضاف إليه الناس لقب "سيدي" ليؤكدوا احترامهم وتبجيلهم وتتلمذهم على أيدي هذا الشيخ، فكان "سيدي بشر".
الشيخ بشر بن الحسين بن محمد بن عبيد الله بن الحسين بن بشر الجوهري، لسبب ما قرر اعتزال الناس في هذه البقعة النائية البعيدة عن المدينة. إنه من سلالة آل بشر الذين وفدوا إلى الإسكندرية في أواخر القرن الخامس الهجري أو أوائل القرن السادس الهجري (الثالث عشر الميلادي) مع علماء ودعاة جاءوا من المغرب والأندلس, هل هي قصة حب فاشلة، هل خلاف مع علماء المدينة، ومنهم أبوطاهر حافظ السلفي المولود في أصفهان 478 هجرية، وانتقل للعيش في الإسكندرية عام 511 قبل وفاة سيدي بشر بسبعة عشر عاما. وقد التقى الرجلان وكتب الحافظ السلفي عن سيدي بشر وغيره في كتابه "معجم السفر" روى فيه ذكرياته ومشاهداته بالإسكندرية.
لكن يبدو أن الحافظ السلفي لم يجز أو لم يعترف بعلم بشر الجوهري، فالحافظ قادم من الشرق من أصفهان، وبشر قادم من الغرب من المغرب وبلاد الأندلس، ولم تكن الأمصار الإسلامية وقتها تعترف لأي عالم بعلمه إلا إذا أجازه عالم الإسكندرية الإمام أبو طاهر حافظ السلفي الذي كان يطلق عليه "مسند الدنيا" لأنه كان آخر من يوثق به في علم إسناد الحديث.
ربما لهذا السبب اتخذ بشر الجوهري قرار الزهد والتصوف والانقطاع للعبادة ووعظ الناس وهدايتهم على طريقته والانخراط في طابور السالكين.
لقاء وفراق
أثناء جولة صباحية لبشر الجوهري على شاطئ البحر، جلس فوق فوهة البئر الموجود منذ آلاف السنين، ولم ينتبه إليه أحد سوى الملكة كليوباترا، فوضعت بعض أسرارها به.
سمع بشر نداء من أسفل البئر، نظر إلى الماء في قعر البئر فوجد أنسيا يطلب منه أن يرفعه إلى أعلى، فقد نال البحر منه ما ناله من تعب ووهن، فتش بشر في حوائجه عن حبل يدليه، فوجد حبلا قصيرا يفي بالغرض، رمي الحبل إلى هذا الأنسي، فتسلق عليه وصعد إلى الأعلى شاكرا بشر الجوهري.
عرف بشر الجوهري أن هذا الأنسي اسمه مسعود، وكان يعيش سعيدا مع أم الماء أو جنية البحر، إلى أن حدث خلاف بينهما بعد أن أحب مسعود إحدى الجنيات من بناتها، عندها قررت الجنية الكبرى طرد مسعود من عالم الماء والبحار والشعاب والمرجان، وعودته إلى عالم الأرض والإنس، وأطلقته وسط البحر يعاني من برودة الماء وتقلبات الجو، وأعاصير البحار، وشراهة الحيتان الكبرى، ومغامرات أسماك القرش، وأسنان الأمواج، إلى أن وصل ذات صباح مشمس إلى شاطئ البحر ودخل في نفق البئر، في الوقت نفسه الذي وصل فيه بشر الجوهري إلى هذا البئر.
بعد أن أخرج بشر القليل من الطعام، من القليل الذي كان معه في خُرجه، فأكلا معا أقل من القليل، حكى مسعود إلى بشر حكايته مع الجنية، كان بشر يرى أن في هذا الكون أسرارا لا نحيط بها، ومخلوقات تعيش حولنا وتسبّح للرحمن لا ندرك كنهها، فقرر أن يحتضن مسعودا، ويعود به إلى عالم التقوى والإيمان البشريين، أن ينسيه عالم الماء والجنيات، أطلق على البئر "بئر مسعود" وكانا يذهبان كل صباح إليه يتعبدان بجانبه.
رحل بشر الجوهري إلى الحياة الأخرى، وقرر مسعود إن يبني له ضريحا في المنطقة التي سميت باسمه، فكان "مسجد سيدي بشر" المطل على البحر وزرع أمامه حديقة كبيرة، لم يزل يرتادها الناس حتى يومنا هذا.
وكما ظهر مسعود فجأة اختفي فجأة بعد وفاة "سيدي بشر"، هل تصالح مع جنية البحر (أم الماء)، وأبدى ندمه وأسفه على فعلته، هل غفرت له وأعادته إلى مملكتها المائية. هل من حقي أن أسألها إذا التقينا في مرة قادمة؟
الصيف يلملم الآن أوراقه ويرحل، ينسحب مهزوما أمام الخريف الذي أحبه كثيرا، أكثر من الربيع والشتاء والصيف. عندما يبدأ الخريف في الإسكندرية يتناقص عدد المصيفين ويقل الازدحام في المدينة وخاصة في سيدي بشر وميامي، وفي الغالب يرحل آخر مصيف مع بداية العام الدراسي الجديد، فمعظم المصيفين في الإسكندرية الآن إما مدرسون أو أولياء أمور.
في مثل هذا الجو بعد رحيل المصيفين يحلو لي أن أجلس على حافة بئر مسعود، أتأمل مياه البحر تجري في عمقه قادمة من البحر إلى البئر، عائدة إليه.
البئر عبارة عن فجوة داخل كتلة من الصخر، عمقها نحو 5 أمتار، وعرضها نحو متر، تربط قناة (مجراة) بين سطحها وبين ماء البحر.
وهناك أكثر من تفسير شعبي لتسميته بهذا الاسم "بير مسعود"، منها أن رجلا من الصعيد اسمه مسعود هرب من ثأر واختبأ في البئر إلى أن مات وأخذته حوريات البحر. البعض قال إن هذا البئر سمي باسم رجل صالح من تلامذة القطب الصوفي سيدي بشر الذي لا يبتعد مسجده كثيرا عن البئر.
قال آخرون إن مسعودا كان تاجرا للمخدرات هرب من الشرطة واختبأ في البئر، وظل رجال الشرطة يبحثون عنه إلى أن وجدوه حيا في البئر، لما رفض الخروج منه، أردوه قتيلا، ثم لم يجدوا جثته بعد ذلك.
ذهب البعض إلى أن هذا البئر كان مقبرة يونانية، دفن فيها بعض اليونانيين في عصر البطالسة، حيث كانت المقابر وقتها تقع على البحر.
بينما يعتقد البعض أن مسعودا هو العبد الأفريقي الأسود الذي هرب من نخّاسه وظهر زمن خلافة الحاكم بأمر الله (985 – 1021 م)، وكان يمتلك جسدا فارعا وآلة جنسية ضخمة، استطاع الحاكم بأمر الله أن يوظفها ضد التجار الجشعين وأصحاب المحلات الذين يغشون في المعيشة، ويرفعون الأسعار أو يخبئون البضائع ليفتعلوا الأزمات، فيسلط الحاكم بأمر الله مسعودا عليهم ليأتيهم من الخلف أمام أعين الناس والتجار الذين يشاهدون وينظرون حتى يفرغ مسعود بعد وقت قد يقصر أو يطول، مما قلّل من جشع التجار، خوفا من الفضيحة والعار، فاعتدلت الأسعار، وتوافرت البضائع في الأسواق.
قال ابن كثير في "البداية والنهاية" عن أفعال الحاكم بأمر الله: "ومن أفعاله (أنه كان يعمل الحسبة بنفسه، فكان يدور بنفسه في الأسواق على حمار له – وكان لا يركب إلا حمارًا -، فمن وجده قد غشَّ في معيشة، أمر عبدًا أسود معه يقال له مسعود، أن يفعل به الفاحشة العظمى".)
وذكر ابن إياس في "بدائع الزهور في وقائع الدهور" أبياتا من الشعر الركيك قيلت في مسعود على سبيل المزاح والدعابة، فقال أحد الشعراء:
إن لمسعود آلةً عظُمت ** كأنها في صفات طومارِ
تشقّ أدبار من بهم جرمٌ ** أصعب من درة بمسمارِ
وذات مرة وقع تاجر ضعيف البنية، هشّ التكوين الجسدي في قبضة مسعود، وعندما همّ مسعود أن يفعل به الفاحشة، مات الرجل بين يديه خوفا ورعبا وهلعا، فهرب مسعود وأطلق ساقيه للريح، وأخذ يعدو أياما في اتجاه الشمال الغربي حتى وصل إلى الإسكندرية، وأقام في البئر خوفا من أتباع الحاكم بأمر الله الذي توعد أن يخصيه إذا لم يعد.
بعد أيام هدأت نفسه، وارتخى عضوه قليلا، وهناك عاينته حورية البحر، وأعجبها جسده وقوته وآلته، فتجسدت له في صورة امرأة في غاية الحسن والبهاء، وجربته بعد أن أطعمته أشهى المأكولات البحرية وسقته أعتق المشروبات الروحية. ثم عقدت اتفاقا معه أن تظهر له كل ليلة لمدة شهر قمري، وإذا أنجبت منه، يصبح مسعود سيدا على البحار ويعيش معها في قصرها الذي تمتد أعمدته تحت الماء بين البئر الذي سمي باسمه وصخرة ميامي.
عموما فإن البعض يعتقد أن هذا البئر يجلب الحظ والبركة، لذا يلقي فيه البعض نقودا معدنية وخاصة من تريد عريسا، أو من تريد إنجاب طفل أو طفلة، أو من يبحث عن عمل، أو يشفى من مرض، أو من له أمنية ما يود أن تتحقق.
هؤلاء الذين يلقون نقودهم في البئر لا يعلمون أنهم بعد أن يغادروا البئر يغوص بعض الشبان بداخله ليجعموا ما به من نقود ملقاة به، ينزلون إلى البئر ويخرجون من البحر.
ولكن لم يعلم أحد أن في هذا البئر سكنت أم الماء وبناتها، وامتدت قاعتها الرئيسية في قصرها حتى أسفل صخرة ميامي. وأن كليوباترا جاءت هنا، وعمّدتها أم الماء لتكون ملكة على مصر قبل أن تتفق مع قيصر الروم على تنصيبها ملكة على الوادي والدلتا وبحار مصر، وأن لهذا البئر ممرا سريا في اتجاهين الاتجاه الأول؛ بري يقود إلى واحة سيوه، وبالتحديد "معبد آمون" والممر الثاني؛ بحري يقود إلى بيروت ثم إلى "مغارة جعيتا".
لا يعرف الذين يلقون نقودهم المعدنية، أنها ستذهب عن طريق الممر الأرضي إلى "معبد آمون" حيث يصلي الكهنة للربة إيزيس لتحقيق حلم من ألقى بعملته، لذا لا بد للمتبرع أن يوشوش عملته المعدنية بما يريد من دعاء أو رغبة يود أن تتحقق. ولكن ما يفسد على هذا المتبرع دعاءه هؤلاء الشباب الذي يغوصون للحصول على العملة قبل أن تذهب مع نظيراتها إلى "معبد آمون".
سيدي بشر
وقف الشيخ المبروك بشر الجوهري على شاطئ البحر، وحده أمام هذا الفضاء الوسيع، ليس هناك سوى الرمل الأشقر والبحر الأبيض والأفق الممتد إلى ما لا نهاية حيث يلتحم البحر بالسماء الزرقاء، وبعض الصخور الصفراء والبُنيّة الفَرِحَة تبدو على يمينه ما بين الرمل والبحر.
توضأ الشيخ بشر من مياه البحر، وصلّى ركعتي شكر لله أن وصل سالما إلى هذه البقعة من شرق الإسكندرية. قرر أن يقضي بقية حياته في تلك المنطقة التي سميت باسمه فيما بعد، وأضاف إليه الناس لقب "سيدي" ليؤكدوا احترامهم وتبجيلهم وتتلمذهم على أيدي هذا الشيخ، فكان "سيدي بشر".
الشيخ بشر بن الحسين بن محمد بن عبيد الله بن الحسين بن بشر الجوهري، لسبب ما قرر اعتزال الناس في هذه البقعة النائية البعيدة عن المدينة. إنه من سلالة آل بشر الذين وفدوا إلى الإسكندرية في أواخر القرن الخامس الهجري أو أوائل القرن السادس الهجري (الثالث عشر الميلادي) مع علماء ودعاة جاءوا من المغرب والأندلس, هل هي قصة حب فاشلة، هل خلاف مع علماء المدينة، ومنهم أبوطاهر حافظ السلفي المولود في أصفهان 478 هجرية، وانتقل للعيش في الإسكندرية عام 511 قبل وفاة سيدي بشر بسبعة عشر عاما. وقد التقى الرجلان وكتب الحافظ السلفي عن سيدي بشر وغيره في كتابه "معجم السفر" روى فيه ذكرياته ومشاهداته بالإسكندرية.
لكن يبدو أن الحافظ السلفي لم يجز أو لم يعترف بعلم بشر الجوهري، فالحافظ قادم من الشرق من أصفهان، وبشر قادم من الغرب من المغرب وبلاد الأندلس، ولم تكن الأمصار الإسلامية وقتها تعترف لأي عالم بعلمه إلا إذا أجازه عالم الإسكندرية الإمام أبو طاهر حافظ السلفي الذي كان يطلق عليه "مسند الدنيا" لأنه كان آخر من يوثق به في علم إسناد الحديث.
ربما لهذا السبب اتخذ بشر الجوهري قرار الزهد والتصوف والانقطاع للعبادة ووعظ الناس وهدايتهم على طريقته والانخراط في طابور السالكين.
لقاء وفراق
أثناء جولة صباحية لبشر الجوهري على شاطئ البحر، جلس فوق فوهة البئر الموجود منذ آلاف السنين، ولم ينتبه إليه أحد سوى الملكة كليوباترا، فوضعت بعض أسرارها به.
سمع بشر نداء من أسفل البئر، نظر إلى الماء في قعر البئر فوجد أنسيا يطلب منه أن يرفعه إلى أعلى، فقد نال البحر منه ما ناله من تعب ووهن، فتش بشر في حوائجه عن حبل يدليه، فوجد حبلا قصيرا يفي بالغرض، رمي الحبل إلى هذا الأنسي، فتسلق عليه وصعد إلى الأعلى شاكرا بشر الجوهري.
عرف بشر الجوهري أن هذا الأنسي اسمه مسعود، وكان يعيش سعيدا مع أم الماء أو جنية البحر، إلى أن حدث خلاف بينهما بعد أن أحب مسعود إحدى الجنيات من بناتها، عندها قررت الجنية الكبرى طرد مسعود من عالم الماء والبحار والشعاب والمرجان، وعودته إلى عالم الأرض والإنس، وأطلقته وسط البحر يعاني من برودة الماء وتقلبات الجو، وأعاصير البحار، وشراهة الحيتان الكبرى، ومغامرات أسماك القرش، وأسنان الأمواج، إلى أن وصل ذات صباح مشمس إلى شاطئ البحر ودخل في نفق البئر، في الوقت نفسه الذي وصل فيه بشر الجوهري إلى هذا البئر.
بعد أن أخرج بشر القليل من الطعام، من القليل الذي كان معه في خُرجه، فأكلا معا أقل من القليل، حكى مسعود إلى بشر حكايته مع الجنية، كان بشر يرى أن في هذا الكون أسرارا لا نحيط بها، ومخلوقات تعيش حولنا وتسبّح للرحمن لا ندرك كنهها، فقرر أن يحتضن مسعودا، ويعود به إلى عالم التقوى والإيمان البشريين، أن ينسيه عالم الماء والجنيات، أطلق على البئر "بئر مسعود" وكانا يذهبان كل صباح إليه يتعبدان بجانبه.
رحل بشر الجوهري إلى الحياة الأخرى، وقرر مسعود إن يبني له ضريحا في المنطقة التي سميت باسمه، فكان "مسجد سيدي بشر" المطل على البحر وزرع أمامه حديقة كبيرة، لم يزل يرتادها الناس حتى يومنا هذا.
وكما ظهر مسعود فجأة اختفي فجأة بعد وفاة "سيدي بشر"، هل تصالح مع جنية البحر (أم الماء)، وأبدى ندمه وأسفه على فعلته، هل غفرت له وأعادته إلى مملكتها المائية. هل من حقي أن أسألها إذا التقينا في مرة قادمة؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.