قانون يكرّس الدولة البوليسية .."الإجراءات الجنائية": تقنين القمع باسم العدالة وبدائل شكلية للحبس الاحتياطي    أول تعليق من روبيو على تقارير وقف بريطانيا تعاونها الأمني بسبب عمليات البحر الكاريبي    نجم الزمالك السابق: «لو مكان مرتجي هقول ل زيزو عيب».. وأيمن عبدالعزيز يرد: «ميقدرش يعمل كده»    حبس المتهمين بسرقة معدات تصوير من شركة في عابدين    بموجب مذكرة توقيف، القبض على المغني الشهير أيكون    بسنت النبراوي تتألق على السجادة الحمراء في افتتاح الدورة ال46 من مهرجان القاهرة السينمائي    مؤتمر المناخ COP30.. العالم يجتمع في قلب «الأمازون» لإنقاذ كوكب الأرض    حبس المتهم بقتل زوجته فى المنوفية بسبب خلافات زوجية    حبس شخصين لقيامهما بترهيب وفرض إتاوات على ملاك وحدات سكنية بالقطامية    احسب إجازاتك.. تعرف على موعد العطلات الدينية والرسمية في 2026    من «رأس الحكمة» إلى «علم الروم».. مصر قبلة الاستثمار    «السك الأخير».. إنهاء عملة «السنت» رسميًا بعد 232 عامًا من التداول    «لو أنت ذكي ولمّاح».. اعثر على الشبح في 6 ثوانِ    القيادة المركزية الأمريكية: نفذنا 22 عملية أمنية ضد "داعش" طوال الشهر الماضي    أبوريدة: متفائل بمنتخب مصر فى أمم أفريقيا والوقت لا يسمح بوديات بعد نيجيريا    إعلام: زيلينسكي وأجهزة مكافحة الفساد الأوكرانية على شفا الحرب    نقابة الموسيقيين تنفى إقامة عزاء للمطرب الراحل إسماعيل الليثى    غضب واسع بعد إعلان فرقة إسرائيلية إقامة حفلات لأم كلثوم.. والأسرة تتحرك قانونيا    بتروجت: اتفاق ثلاثي مع الزمالك وحمدان لانتقاله في يناير ولكن.. وحقيقة عرض الأهلي    انطلاق معسكر فيفا لحكام الدوري الممتاز بمشروع الهدف 15 نوفمبر    وزير الإسكان: بدء التسجيل عبر منصة "مصر العقارية" لطرح 25 ألف وحدة سكنية    عماد الدين حسين: إقبال كبير في دوائر المرشحين البارزين    فرصة مميزة للمعلمين 2025.. التقديم الآن علي اعتماد المراكز التدريبية لدى الأكاديمية المهنية    سحب منخفضة ومتوسطة.. الأرصاد تكشف حالة الطقس اليوم الخميس 13 نوفمبر 2025    أمطار تضرب الإسكندرية بالتزامن مع بدء نوة المكنسة (صور)    قرارات جديدة بشأن مصرع وإصابة 7 في حادث منشأة القناطر    مرور الإسكندرية يواصل حملاته لضبط المخالفات بجميع أنحاء المحافظة    المستشار بنداري: أشكر وسائل الإعلام على صدق تغطية انتخابات نواب 2025    الاحتلال الإسرائيلي يشن سلسلة اقتحامات وعمليات نسف في الضفة الغربية وقطاع غزة    واشنطن تدعو لتحرك دولي عاجل لوقف إمدادات السلاح لقوات الدعم السريع    قفزة في سعر الذهب اليوم.. وعيار 21 الآن في السودان ببداية تعاملات الخميس 13 نوفمبر 2025    وزير المالية السابق: 2026 سيكون عام شعور المواطن باستقرار الأسعار والانخفاض التدريجي    الإنتاج الحربي يلتقي أسوان في الجولة ال 12 بدوري المحترفين    فيفي عبده تبارك ل مي عز الدين زواجها.. والأخيرة ترد: «الله يبارك فيكي يا ماما»    يقضي على ذاكرتك.. أهم أضرار استخدام الشاشات لفترات طويلة    عقار تجريبي جديد من نوفارتيس يُظهر فعالية واعدة ضد الملاريا    طريقة عمل فتة الحمص بالزبادي والثوم، أكلة شامية سهلة وسريعة    حيثيات حبس البلوجر «سوزي الأردنية»: «الحرية لا تعني الانفلات»    خبير لوائح: قرارات لجنة الانضباط «تهريج».. ولا يوجد نص يعاقب زيزو    تأكيد لليوم السابع.. اتحاد الكرة يعلن حرية انتقال اللاعبين الهواة بدون قيود    «يتميز بالانضباط التكتيكي».. نجم الأهلي السابق يتغنى ب طاهر محمد طاهر    تعرف على ملاعب يورو 2028 بعد إعلان اللجنة المنظمة رسميا    ترامب يحمل «جين تاتشر» وكيندي استخدم مرتبة صلبة.. عادات نوم غريبة لرؤساء أمريكا    النيابة العامة تخصص جزء من رسوم خدماتها الرقمية لصالح مستشفى سرطان الأطفال    أسعار السمك البلطي والكابوريا والجمبري بالأسواق اليوم الخميس 13 نوفمبر 3035    محمود فوزي ل"من مصر": قانون الإجراءات الجنائية زوّد بدائل الحبس الاحتياطي    ممثل المجموعة العربية بصندوق النقد الدولي: مصر لا تحتاج لتحريك سعر الوقود لمدة عام    محمود فوزي: قانون الإجراءات الجنائية الجديد سيقضي على مشكلة «تشابه الأسماء»    إذا قالت صدقت.. كيف تتمسك مصر بملفات أمنها القومي وحماية استقرار المنطقة؟.. من سرت والجفرة خط أحمر إلى إفشال محاولات تفكيك السودان وتهجير أهالي غزة .. دور القاهرة حاسم في ضبط التوازنات الإقليمية    قد يؤدي إلى العمى.. أعراض وأسباب التراكوما بعد القضاء على المرض في مصر    مقرمش جدا من بره.. أفضل طريقة لقلي السمك بدون نقطة زيت    السيسى يصدر قانون الإجراءات الجنائية بعد معالجة أسباب الاعتراض    قصر صلاة الظهر مع الفجر أثناء السفر؟.. أمين الفتوى يجيب    رئيس الإدارة المركزية لمنطقة شمال سيناء يتفقد مسابقة الأزهر الشريف لحفظ القرآن الكريم بالعريش    انطلاق اختبارات «مدرسة التلاوة المصرية» بالأزهر لاكتشاف جيل جديد من قراء القرآن    «لو الطلاق بائن».. «من حقك تعرف» هل يحق للرجل إرث زوجته حال وفاتها في فترة العدة؟    محافظ أسيوط يحضر برنامج تدريب الأخصائيين على التعامل مع التنمر    دعاء الفجر | اللهم ارزق كل مهموم بالفرج واشفِ مرضانا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العالم العربي .. بين انهيار الدولة وبوار النخب ولهيب نار الإرهاب
نشر في صوت البلد يوم 01 - 08 - 2016

مع احتداد ظاهرة التطرف والإرهاب في العالم العربي خلال السنوات القليلة الماضية، طفت على السطح، من جديد، حاجة إعادة التفكير في دور النخب العربية والإسلامية، وقدرتها على فهم التحولات العامة والتنبيه إلى إرهاصاتها واحتمالاتها وانزلاقاتها الخ.
وبما أن الواقع العربي الراهن مهدد، إلى حد كبير، بالظاهرة الإرهابية والجماعات المتطرفة التي تقف وراءها، فإن دور هذه النخب يزداد تعقيدا، لأن الحاجة أصبحت ماسة وملحة إلى مناقشة التمظهرات الدينية، خاصة حركات الإسلام السياسي، في الفضاءات العمومية العربية، وتصاعد تداخلها مع السياسة وتأثيرها في الفعل والقرار السياسيين.
من هنا جاءت الغاية من تنظيم ندوة «النخب العربية والإسلامية: الدين والدولة»، التي استضافتها جامعة المعتمد بن عباد الصيفية في مدينة أصيلة طيلة يومي الأحد والاثنين الماضيين. إذ طرح المشاركون، الذين جاؤوا من بلدان عربية وإسلامية، إشكالية الحفاظ على الدين باعتباره تراثا مشتركا بين المواطنين وتفادي استغلاله في العمل السياسي كيفما كان شكله. كما تناولوا دور النخب في اقتراح توافق/ توافقات حول نظام معين من نظم الدولة التي من شأنها أن تسمح بالمساواة بين المواطنين بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية أو المذهبية أو العرقية أو اللونية أو الجنسية، الخ.
النخبة والدين والدولة
يمثل هذا الثالوث، النخبة والدين والدولة، منظومة مشتركة غايتها، عندما تجتمع، «تسيير شؤون المجتمع وضبط إيقاعه»، كما يرى فهد العرابي الحارثي، رئيس مركز أسبار للدراسات والبحوث والإعلام في الرياض. ففي رأي هذا الأخير، فشلت النخبة في تدبير التفاعلات الناجمة عن الحراك الاجتماعي والسياسي في العالم العربي بعد انتفاضات عام 2011. إذ تكشف التجربة المصرية، حسب رأي هذا الباحث، زيف النخب العربية وتهافتها، بعدما تخلت عن المبادئ التي كانت تدافع عنها قبل انقلاب الجنرال عبد الفتاح السيسي على السلطة المنتخبة، ممثلة بحركة الإخوان المسلمين، إذ يعتبر الحارثي أن أغلب النخب العربية رحبت بحكم العسكر، وأيدت نفي الآخر المختلف إيديولوجيا، بل وتصفيته من الساحة. وهذا الترحيب والتأييد يمثل، حسب تعبير المتدخل، ضربة قوية ليس فقط للديمقراطية الوليدة في مصر والعالم العربي، بل أيضا للمثقف العربي الذي ظل يعتبر الحصن الأخير أمام الأطماع الداخلية والخارجية.
في حين، يقصد بمفهوم النخبة، عند الكاتب المصري مراد وهبة، أقلية قادرة على الحكم وإحداث التغيير في العمل أو القرار السياسي. إذ تتكون هذه الأقلية، التي يطلق عليها أيضا اسم الطبقة، من الساسة والمثقفين والاقتصاديين، حيث يشكل الساسة طبقة قادرة على التأثير في القرارات السياسية، سواء من خلال استحواذها على السلطة، أو من خلال قدرتها على التأثير في الطبقات الاجتماعية المختلفة، أو من خلال دفاعها عن مبادئ معينة، مثل الديمقراطية والمساواة والحرية، الخ. أما المثقفون، فيعرفهم وهبة باعتبارهم متعلمين قادرين على شغل مناصب غير يدوية؛ ومن ثم، فهُمْ قادرون مثلا على انتقاد المجتمع والطبقة السياسية والسعي إلى تغييرهما أو ابتداع أشكال اجتماعية وسياسية منهما، الخ.
في حين، يمثل الاقتصاديون تلك الطبقة المتعلمة القادرة على تغيير أحوال الناس المادية وحل معضلاتهم الاقتصادية والاجتماعية والسعي إلى ترفيههم والارتقاء بهم، الخ. هكذا، فدور هذه النخب، السياسية والثقافية والاقتصادية منصب على المستقبل ومتجه إليه، لا على الحاضر أو الماضي. ومن هنا، يكمن عمل النخب العربية والإسلامية، حسب قول وهبة، حاليا في ضرورة إعمال الفكر والعقل من أجل حلّ فهم نزوع ديني يميل إلى العودة إلى الماضي، على اعتبار أن العالم العربي يعيش في القرن الثالث عشر، قرن ابن تيمية، لا في القرن الواحد والعشرين.
تحديات النخب ومهامها
من جهة أخرى، يرى الباحث العراقي محمود علي الداود، رئيس قسم الدراسات السياسية والإستراتيجية في بيت الحكمة، أن العالم العربي والإسلامي يواجه تحديات أمنية وسياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية كبرى، في مقدمتها ظاهرة الإرهاب، التي تعصف بالمكتسبات الشعبية والرسمية، المادية والرمزية، ويدمر البنيات التحتية، ويفجر الرموز الحضارية العريقة، الخ. فضلا عن هذا التحدي، يعيش العالم العربي تحديا موازيا يكمن، حسب قول الداود، في تواطؤ القوى العظمى على «تفكيك الدول العربية والعبث بأمنها ومقدراتها ونهب خيراتها…».
لكن هل تستطيع الحكومات والنخبة السياسية التأثير في وضع معقد كهذا؟ إذا لم تكن كذلك، فكيف يمكن إنتاج حكومات ونخب قادرة على التأثير والتغيير؟ في هذا السياق، يجمع عدد من الآراء على أن الحكومات العربية لا تدرك، على سبيل المثال، مدى التحولات التي تعيشها بلدانهم ومجتمعاتهم، ولا تعي الخيارات الاقتصادية التي تحتاجها الشعوب العربية، إذ أصبح منصب الوزير باردا وفاترا، ليس بمقدور صاحبه سوى تنفيذ قرارات أطراف داخلية وخارجية. وهذا راجع، حسب رأي الإعلامي المغربي بلال التليدي، إلى أن العالم العربي محكوم ببنيات سلطوية وشبه سلطوية تحد من أداء الفاعل السياسي ومشاركة المواطن، وتعزز حضور الأجنبي في اتخاذ القرار. فيما يرى الباحث الإيراني علي رضا نوري زاده، المتخصص في دراسة العالم العربي، أن السبب يعود أساسا إلى غياب عقد اجتماعي مبني على التوافقات السياسية واحترام القانون والعمل المؤسساتي، ومشروط بمشروع ثقافي وطني يستبعد أي نزعة دينية أو طائفية أو قبلية، الخ.
ويبدو أن انتفاضات الربيع العربي هي وليدة غياب هذا العقد الاجتماعي، حيث طالبت الجماهير في أغلب شوارع العواصم العربية وساحاتها وميادينها بإسقاط الأنظمة الفاسدة والمستبدة، وبناء أنظمة ديمقراطية تفرزها صناديق الاقتراع، والفصل بين الدين والدولة، ودخول عصر الحداثة من أوسع أبوابه، لكن «لا حداثة من دون علمانية، ولا ديمقراطية بلا مجتمع ودولة حديثة»، كما يقول الروائي المصري إيمان يحيى سيد إسماعيل. ومن هنا، فمعركة النخب المتنورة ينبغي ألا تقتصر، حسب قول المتدخل، على مناقشة هذا التحدي داخل دوائر مغلقة، بل يجب أن يكون «عبر التواصل مع الجماهير والاشتباك مع قضايا التراث والحياة المعاصرة».
النخب والحراك العربي
يتعلق الأمر في بعض الدول العربية، إذن، بإقصاء ممنهج، ليس فقط للنخب، بل للطبقات الاجتماعية، وحرمانها من المساهمة في إيجاد الحلول للمشكلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. إذ يرى أحمد الصياد، سفير اليمن لدى اليونسكو، أن الانتفاضات العربية تعتبر رد فعل على هذا الإقصاء، بل على السياسات القمعية التي مارستها الأنظمة العربية طوال عقود.
وبما أن العالم العربي يعيش الآن مرحلة تاريخية، حيث يسير بعضه نحو الهاوية، ويحاول بعضه الانعتاق من براثن الفوضى، ويخطو بعضه الثالث خطواته الأولى نحو الديمقراطية، فإن دور النخب العربية، خاصة السياسية، يتجلى في «قيادة حركة التطور والتنمية والتغيير»، حسب تعبير الباحث المغربي إدريس الكريني. لكن نجاح هذه النخب رهين «بمدى قوتها ومصداقيتها وتجددها»، خاصة قدرتها على مواكبة آثار انتفاضات الربيع العربي التي مازالت تتفاعل إلى اليوم، بطريقة عنيفة في بعض الحالات، مثل سورية وليبيا واليمن. لكن الكريني يلاحظ، هنا، أن النخب العربية خبرت محكا حقيقيا خلال الحراك العربي، على اعتبار أن أحداثه المختلفة أبرزت «عدم جاهزية هذه النخب، بل وقف الكثير منها موقفا سلبيا، بوصفها تارة بالمؤامرة والتخويف والتشكيك في نجاعتها تارة أخرى».
ويرى الباحث العراقي فالح عبد الجبار أن النخب الدينية ساهمت في تسهيل بناء الدولة الحديثة، كما أسهمت في تعطيلها كذلك، مشيرا إلى أن رجال الدين ساهموا في تحقيق انتقال البلدان العربية من الإمبراطورية العثمانية إلى الدول الحديثة، قبل أن تتسبب الحركات الدينية في عرقلة تطورها اليوم. كما يسلط الضوء على خمس نقاط خلافية: أولا، اعتماد الدولة على الزمن لتبرير مشروعيتها، علما بأن فكرة الزمن الراهن تتعارض مع الزمن الهجري؛ ثانيا، الحكم منذ الشافعي يطرح إشكالية كبرى، على اعتبار أن الإمامة ينبغي أن تكون في فرع من قريش؛ ثالثا، السيادة والحكم وتصادمها مع مفهوم «الحكم لله»؛ رابعا، الاختلاف حول مشاركة غير المسلمين في الحكم؛ وأخيرا، الاختلاف حول الانتخابات باعتبارها مدخلا للحكم.
تكمن المشكلة الأساسية اليوم في انهيار الدولة الوطنية/ القطرية القائمة على مفهوم «الأمة الواحدة»، ويتجلى السؤال كما يلي: ما السبيل إلى إنقاذ الدولة؟ مما لا شك فيه أن هذه الدولة قامت، بعد الحرب العالمية الثانية، على تحالف بين النخب والقيادة، وكانت غايتها الخروج من الحرب وتحقيق السلم، كما يرى الباحث الموريتاني عبد الله ولد باه. لكنها فشلت في أداء وظيفتين أساسيتين هما: تحقيق التنمية والرفاه، وتحديث المجتمع. وهذا ما يفسر، حسب رأي ولد باه، سقوط بعض الأنظمة واتجاه أخرى نحو التفكك والتحلل، أو وقوعها فريسة للصراعات الطائفية والعرقية والقبلية ونكوص مجتمعاتها إلى المحافظة، وأحيانا إلى التطرف والإرهاب.
مع احتداد ظاهرة التطرف والإرهاب في العالم العربي خلال السنوات القليلة الماضية، طفت على السطح، من جديد، حاجة إعادة التفكير في دور النخب العربية والإسلامية، وقدرتها على فهم التحولات العامة والتنبيه إلى إرهاصاتها واحتمالاتها وانزلاقاتها الخ.
وبما أن الواقع العربي الراهن مهدد، إلى حد كبير، بالظاهرة الإرهابية والجماعات المتطرفة التي تقف وراءها، فإن دور هذه النخب يزداد تعقيدا، لأن الحاجة أصبحت ماسة وملحة إلى مناقشة التمظهرات الدينية، خاصة حركات الإسلام السياسي، في الفضاءات العمومية العربية، وتصاعد تداخلها مع السياسة وتأثيرها في الفعل والقرار السياسيين.
من هنا جاءت الغاية من تنظيم ندوة «النخب العربية والإسلامية: الدين والدولة»، التي استضافتها جامعة المعتمد بن عباد الصيفية في مدينة أصيلة طيلة يومي الأحد والاثنين الماضيين. إذ طرح المشاركون، الذين جاؤوا من بلدان عربية وإسلامية، إشكالية الحفاظ على الدين باعتباره تراثا مشتركا بين المواطنين وتفادي استغلاله في العمل السياسي كيفما كان شكله. كما تناولوا دور النخب في اقتراح توافق/ توافقات حول نظام معين من نظم الدولة التي من شأنها أن تسمح بالمساواة بين المواطنين بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية أو المذهبية أو العرقية أو اللونية أو الجنسية، الخ.
النخبة والدين والدولة
يمثل هذا الثالوث، النخبة والدين والدولة، منظومة مشتركة غايتها، عندما تجتمع، «تسيير شؤون المجتمع وضبط إيقاعه»، كما يرى فهد العرابي الحارثي، رئيس مركز أسبار للدراسات والبحوث والإعلام في الرياض. ففي رأي هذا الأخير، فشلت النخبة في تدبير التفاعلات الناجمة عن الحراك الاجتماعي والسياسي في العالم العربي بعد انتفاضات عام 2011. إذ تكشف التجربة المصرية، حسب رأي هذا الباحث، زيف النخب العربية وتهافتها، بعدما تخلت عن المبادئ التي كانت تدافع عنها قبل انقلاب الجنرال عبد الفتاح السيسي على السلطة المنتخبة، ممثلة بحركة الإخوان المسلمين، إذ يعتبر الحارثي أن أغلب النخب العربية رحبت بحكم العسكر، وأيدت نفي الآخر المختلف إيديولوجيا، بل وتصفيته من الساحة. وهذا الترحيب والتأييد يمثل، حسب تعبير المتدخل، ضربة قوية ليس فقط للديمقراطية الوليدة في مصر والعالم العربي، بل أيضا للمثقف العربي الذي ظل يعتبر الحصن الأخير أمام الأطماع الداخلية والخارجية.
في حين، يقصد بمفهوم النخبة، عند الكاتب المصري مراد وهبة، أقلية قادرة على الحكم وإحداث التغيير في العمل أو القرار السياسي. إذ تتكون هذه الأقلية، التي يطلق عليها أيضا اسم الطبقة، من الساسة والمثقفين والاقتصاديين، حيث يشكل الساسة طبقة قادرة على التأثير في القرارات السياسية، سواء من خلال استحواذها على السلطة، أو من خلال قدرتها على التأثير في الطبقات الاجتماعية المختلفة، أو من خلال دفاعها عن مبادئ معينة، مثل الديمقراطية والمساواة والحرية، الخ. أما المثقفون، فيعرفهم وهبة باعتبارهم متعلمين قادرين على شغل مناصب غير يدوية؛ ومن ثم، فهُمْ قادرون مثلا على انتقاد المجتمع والطبقة السياسية والسعي إلى تغييرهما أو ابتداع أشكال اجتماعية وسياسية منهما، الخ.
في حين، يمثل الاقتصاديون تلك الطبقة المتعلمة القادرة على تغيير أحوال الناس المادية وحل معضلاتهم الاقتصادية والاجتماعية والسعي إلى ترفيههم والارتقاء بهم، الخ. هكذا، فدور هذه النخب، السياسية والثقافية والاقتصادية منصب على المستقبل ومتجه إليه، لا على الحاضر أو الماضي. ومن هنا، يكمن عمل النخب العربية والإسلامية، حسب قول وهبة، حاليا في ضرورة إعمال الفكر والعقل من أجل حلّ فهم نزوع ديني يميل إلى العودة إلى الماضي، على اعتبار أن العالم العربي يعيش في القرن الثالث عشر، قرن ابن تيمية، لا في القرن الواحد والعشرين.
تحديات النخب ومهامها
من جهة أخرى، يرى الباحث العراقي محمود علي الداود، رئيس قسم الدراسات السياسية والإستراتيجية في بيت الحكمة، أن العالم العربي والإسلامي يواجه تحديات أمنية وسياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية كبرى، في مقدمتها ظاهرة الإرهاب، التي تعصف بالمكتسبات الشعبية والرسمية، المادية والرمزية، ويدمر البنيات التحتية، ويفجر الرموز الحضارية العريقة، الخ. فضلا عن هذا التحدي، يعيش العالم العربي تحديا موازيا يكمن، حسب قول الداود، في تواطؤ القوى العظمى على «تفكيك الدول العربية والعبث بأمنها ومقدراتها ونهب خيراتها…».
لكن هل تستطيع الحكومات والنخبة السياسية التأثير في وضع معقد كهذا؟ إذا لم تكن كذلك، فكيف يمكن إنتاج حكومات ونخب قادرة على التأثير والتغيير؟ في هذا السياق، يجمع عدد من الآراء على أن الحكومات العربية لا تدرك، على سبيل المثال، مدى التحولات التي تعيشها بلدانهم ومجتمعاتهم، ولا تعي الخيارات الاقتصادية التي تحتاجها الشعوب العربية، إذ أصبح منصب الوزير باردا وفاترا، ليس بمقدور صاحبه سوى تنفيذ قرارات أطراف داخلية وخارجية. وهذا راجع، حسب رأي الإعلامي المغربي بلال التليدي، إلى أن العالم العربي محكوم ببنيات سلطوية وشبه سلطوية تحد من أداء الفاعل السياسي ومشاركة المواطن، وتعزز حضور الأجنبي في اتخاذ القرار. فيما يرى الباحث الإيراني علي رضا نوري زاده، المتخصص في دراسة العالم العربي، أن السبب يعود أساسا إلى غياب عقد اجتماعي مبني على التوافقات السياسية واحترام القانون والعمل المؤسساتي، ومشروط بمشروع ثقافي وطني يستبعد أي نزعة دينية أو طائفية أو قبلية، الخ.
ويبدو أن انتفاضات الربيع العربي هي وليدة غياب هذا العقد الاجتماعي، حيث طالبت الجماهير في أغلب شوارع العواصم العربية وساحاتها وميادينها بإسقاط الأنظمة الفاسدة والمستبدة، وبناء أنظمة ديمقراطية تفرزها صناديق الاقتراع، والفصل بين الدين والدولة، ودخول عصر الحداثة من أوسع أبوابه، لكن «لا حداثة من دون علمانية، ولا ديمقراطية بلا مجتمع ودولة حديثة»، كما يقول الروائي المصري إيمان يحيى سيد إسماعيل. ومن هنا، فمعركة النخب المتنورة ينبغي ألا تقتصر، حسب قول المتدخل، على مناقشة هذا التحدي داخل دوائر مغلقة، بل يجب أن يكون «عبر التواصل مع الجماهير والاشتباك مع قضايا التراث والحياة المعاصرة».
النخب والحراك العربي
يتعلق الأمر في بعض الدول العربية، إذن، بإقصاء ممنهج، ليس فقط للنخب، بل للطبقات الاجتماعية، وحرمانها من المساهمة في إيجاد الحلول للمشكلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. إذ يرى أحمد الصياد، سفير اليمن لدى اليونسكو، أن الانتفاضات العربية تعتبر رد فعل على هذا الإقصاء، بل على السياسات القمعية التي مارستها الأنظمة العربية طوال عقود.
وبما أن العالم العربي يعيش الآن مرحلة تاريخية، حيث يسير بعضه نحو الهاوية، ويحاول بعضه الانعتاق من براثن الفوضى، ويخطو بعضه الثالث خطواته الأولى نحو الديمقراطية، فإن دور النخب العربية، خاصة السياسية، يتجلى في «قيادة حركة التطور والتنمية والتغيير»، حسب تعبير الباحث المغربي إدريس الكريني. لكن نجاح هذه النخب رهين «بمدى قوتها ومصداقيتها وتجددها»، خاصة قدرتها على مواكبة آثار انتفاضات الربيع العربي التي مازالت تتفاعل إلى اليوم، بطريقة عنيفة في بعض الحالات، مثل سورية وليبيا واليمن. لكن الكريني يلاحظ، هنا، أن النخب العربية خبرت محكا حقيقيا خلال الحراك العربي، على اعتبار أن أحداثه المختلفة أبرزت «عدم جاهزية هذه النخب، بل وقف الكثير منها موقفا سلبيا، بوصفها تارة بالمؤامرة والتخويف والتشكيك في نجاعتها تارة أخرى».
ويرى الباحث العراقي فالح عبد الجبار أن النخب الدينية ساهمت في تسهيل بناء الدولة الحديثة، كما أسهمت في تعطيلها كذلك، مشيرا إلى أن رجال الدين ساهموا في تحقيق انتقال البلدان العربية من الإمبراطورية العثمانية إلى الدول الحديثة، قبل أن تتسبب الحركات الدينية في عرقلة تطورها اليوم. كما يسلط الضوء على خمس نقاط خلافية: أولا، اعتماد الدولة على الزمن لتبرير مشروعيتها، علما بأن فكرة الزمن الراهن تتعارض مع الزمن الهجري؛ ثانيا، الحكم منذ الشافعي يطرح إشكالية كبرى، على اعتبار أن الإمامة ينبغي أن تكون في فرع من قريش؛ ثالثا، السيادة والحكم وتصادمها مع مفهوم «الحكم لله»؛ رابعا، الاختلاف حول مشاركة غير المسلمين في الحكم؛ وأخيرا، الاختلاف حول الانتخابات باعتبارها مدخلا للحكم.
تكمن المشكلة الأساسية اليوم في انهيار الدولة الوطنية/ القطرية القائمة على مفهوم «الأمة الواحدة»، ويتجلى السؤال كما يلي: ما السبيل إلى إنقاذ الدولة؟ مما لا شك فيه أن هذه الدولة قامت، بعد الحرب العالمية الثانية، على تحالف بين النخب والقيادة، وكانت غايتها الخروج من الحرب وتحقيق السلم، كما يرى الباحث الموريتاني عبد الله ولد باه. لكنها فشلت في أداء وظيفتين أساسيتين هما: تحقيق التنمية والرفاه، وتحديث المجتمع. وهذا ما يفسر، حسب رأي ولد باه، سقوط بعض الأنظمة واتجاه أخرى نحو التفكك والتحلل، أو وقوعها فريسة للصراعات الطائفية والعرقية والقبلية ونكوص مجتمعاتها إلى المحافظة، وأحيانا إلى التطرف والإرهاب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.