قاتل النساء الصامت.. RSV الخطر الذي يهدد حياة الرضع    لحظة سقوط الحاويات من على قطار بضائع بقرية السفاينة بطوخ.. فيديو    تحطم طائرة صغيرة وسط المكسيك أثناء هبوط اضطراري ومصرع 7 أشخاص    حورية فرغلي: لسه بعاني من سحر أسود وبتكلم مع ربنا كتير    محمد القس: أحمد السقا أجدع فنان.. ونفسي اشتغل مع منى زكي    جلال برجس: الرواية أقوى من الخطاب المباشر وتصل حيث تعجز السياسة    حورية فرغلي: بقضي وقتي مع الحيوانات ومبقتش بثق في حد    بسبب سوء الأحوال الجوية.. تعطيل الدراسة في شمال سيناء اليوم    خطوات عمل الاستمارة الإلكترونية لدخول امتحانات الشهادة الإعدادية    وكيل صحة الغربية يعلن افتتاح وحدة التصلب المتعدد والسكتة الدماغية بمستشفى طنطا العام    وفاة شخص وإصابة شقيقه في مشاجرة بالغربية    تأجيل محاكمة 9 متهمين بخلية المطرية    ترامب يعلن مادة الفينتانيل المخدرة «سلاح دمار شامل»    مباراة ال 8 أهداف.. بورنموث يفرض تعادلا مثيرا على مانشستر يونايتد    لإجراء الصيانة.. انقطاع التيار الكهربائي عن 21 قرية في كفر الشيخ    أيامى فى المدينة الجامعية: عن الاغتراب وشبح الخوف!    45 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات على خط «طنطا - دمياط».. الثلاثاء 16 ديسمبر    توسك: التنازلات الإقليمية لأوكرانيا شرط أمريكي لاتفاق السلام    لقاح الإنفلونزا.. درع الوقاية للفئات الأكثر عرضة لمضاعفات الشتاء    إنقاذ قلب مريض بدسوق العام.. تركيب دعامتين دوائيتين ينهي معاناة 67 عامًا من ضيق الشرايين    العربية لحقوق الإنسان والمفوضية تدشنان حوارا إقليميا لإنشاء شبكة خبراء عرب    ثماني دول أوروبية تناقش تعزيز الدفاعات على الحدود مع روسيا    وزير قطاع الأعمال العام: عودة منتجات «النصر للسيارات» للميني باص المصري بنسبة مكون محلي 70%    «المؤشر العالمي للفتوى» يناقش دور الإفتاء في مواجهة السيولة الأخلاقية وتعزيز الأمن الفكري    5 أعشاب تخلصك من احتباس السوائل بالجسم    تحطم زجاج سيارة ملاكي إثر انهيار شرفة عقار في الإسكندرية    الكونغو: سجن زعيم المتمردين السابق لومبالا 30 عامًا لارتكابه فظائع    محافظ القليوبية ومدير الأمن يتابعان حادث تساقط حاويات من قطار بضائع بطوخ    نهائي كأس العرب 2025.. موعد مباراة المغرب ضد الأردن والقنوات الناقلة    كأس العرب، حارس مرمى منتخب الأردن بعد إقصاء السعودية لسالم الدوسري: التواضع مطلوب    التموين تواصل افتتاح أسواق اليوم الواحد بالقاهرة.. سوق جديد بالمرج لتوفير السلع    منذر رياحنة يوقّع ختام «كرامة» ببصمته... قيادة تحكيمية أعادت الاعتبار للسينما الإنسانية    إبراهيم المعلم: الثقافة بمصر تشهد حالة من المد والجزر.. ولم أتحول إلى رقيب ذاتي في النشر    نقيب أطباء الأسنان يحذر من زيادة أعداد الخريجين: المسجلون بالنقابة 115 ألفا    مصرع طفلين وإصابة 4 أشخاص على الأقل فى انفجار بمبنى سكنى فى فرنسا    شيخ الأزهر يهنئ ملك البحرين باليوم الوطني ال54 ويشيد بنموذجها في التعايش والحوار    فتش عن الإمارات .. حملة لليمينيين تهاجم رئيس وزراء كندا لرفضه تصنيف الإخوان كمنظمة إرهابية    لجنة فنية للتأكد من السلامة الإنشائية للعقارات بموقع حادث سقوط حاويات فارغة من على قطار بطوخ    الأهلى يوافق على عرض إشتوريل برايا البرتغالى لضم محمد هيثم    الأمر سيصعب على برشلونة؟ مدرب جوادلاخارا: عشب ملعبنا ليس الأفضل    منتدى «السياحة والآثار» وTripAdvisor يناقشان اتجاهات السياحة العالمية ويبرزان تنوّع التجربة السياحية المصرية    في جولة ليلية.. محافظ الغربية يتفقد رصف شارع سيدي محمد ومشروعات الصرف بسمنود    محافظ الجيزة يتابع تنفيذ تعديلات مرورية بشارع العروبة بالطالبية لتيسير الحركة المرورية    العمل: طفرة في طلب العمالة المصرية بالخارج وإجراءات حماية من الشركات الوهمية    حضور ثقافي وفني بارز في عزاء الناشر محمد هاشم بمسجد عمر مكرم    الثلاثاء إعادة 55 دائرة فى «ثانية نواب» |139 مقرًا انتخابيًا بالسفارات فى 117 دولة.. وتصويت الداخل غدًا    غزل المحلة يطلب ضم ناصر منسى من الزمالك فى يناير    السعودية تودع كأس العرب دون الحفاظ على شباك نظيفة    القبض على المتهم بالشروع في قتل زوجة شقيقه وإبنته ببولاق الدكرور    حسام البدرى: من الوارد تواجد أفشة مع أهلى طرابلس.. والعميد يحظى بدعم كبير    هل الزيادة في الشراء بالتقسيط تُعد فائدة ربوية؟.. "الإفتاء" تُجيب    الإدارية العليا ترفض الطعون المقدمة في بطلان الدوائر الانتخابية في قنا    اللمسة «الخبيثة» | «لا للتحرش.. بيئة مدرسية آمنة» حملات توعية بالإسكندرية    كيف أرشد الإسلام لأهمية اختيار الصديق؟ الأزهر للفتوي يوضح    وزير التعليم: تطوير شامل للمناهج من رياض الأطفال حتى الصف الثاني الثانوي    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الإثنين 15-12-2025 في محافظة قنا    الأزهر يدين الهجوم الإرهابي الذي استهدف تجمعًا لأستراليين يهود ويؤكد رفضه الكامل لاستهداف المدنيين    حُسن الخاتمة.. مفتش تموين يلقى ربه ساجدًا في صلاة العشاء بالإسماعيلية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الكتابة تحت ظل القصيدة
نشر في صوت البلد يوم 21 - 04 - 2016

يبدو لي ومن وجهة نظر شعرية، أن الكتابة غالبا ما تهتدي إلى حضورها، تحت ظل يعود إلى شيء ما. شيء يمتلك من عنف الإثارة أو هشاشتها، ما يغري اليد الثالثة بتجريب قدرتها على إعلان حضورها، كشكل ما من أشكال الاستجابة لغواية هذا العنف، أو هذه الهشاشة، وهي جاذبية لا يمكن إلا أن تكون منصهرة، في قلب ذلك التفاعل المباغت، الذي ينتقل بطقس الاستجابة، من حده البسيط، إلى حد الذروة، حيث توشك فيه ملكة الحكم، أن تتنازل نسبيا، عن ممارستها لسلطة التوجيه، كي تستسلم مجبرة، إلى سحرية الحالة التي تمليها طبيعة الظل المخيم على يد الكتابة.
وبالنظر إلى الحركية التي تتشكل بها، ومن خلالها، هوية الكتابة، المتلذذة، بمحو الفوارق الفاصلة بين الأجناس الإبداعية، فإن هذا الظل أيضا، يتميز بتنوعه وبتعدده، انسجاما مع تعدد المواقع التي تنجذب الكتابة بلا هوادة، إلى نداءاتها، فقد يكون ظل عنقاء، ظل ديمة، أو ظل نهاية، إلى آخر ما يمكن أن يقترحه علينا الاحتمال المنفتح لهويات هذه الظلال.
استحالة الحصر اللانهائي لمرجعيات الظل، هي التي ربما أوحت للكتابة باختزالها في القصيدة. علما بأن القصيدة هنا، لا تحيل تماما على أي شكل من الأشكال المتداولة عادة في كتابة النص الشعري، الذي يمكن أن يكون نصا عموديا أو، منتميا إلى شعر التفعيلة أو قصيدة النثر، بقدر ما تحيل إلى الدلالات اللانهائية، لشعرية منعطف ما، من منعطفات الكتابة، كأصل محتمل من أصول النص الشعري، باعتبار أن التوصيف الشعري للكتابة، ذو منحى بيداغوجي، يهدف أساسا، إلى توجيه المتلقي العادي، كي يكون على دراية تامة بالنص الذي هو بصدد التفاعل معه، حيث سيختلف الأمر تماما مع المتلقي المختص، الذي لن يكون بحاجة لأي علامة توجيهية، تنبهه إلى جنس النص المعني بالقراءة. يمكن أيضا، أن نضيف في هذا السياق، الشكل الذي يتقدم به النص الشعري، والذي يكون كافيا، لإشعار القارئ بهويته، سواء كان شكلا تقليديا، أو حديثا. خارج هذا التوصيف ذي الطبيعة التعريفية، والخاضعة لمعايير متعارف عليها، ومعتمدة في التعامل مع النص الشعري، خاصة من قبل التلقي المشترك، يمكن الحديث وبرؤية مغايرة، عن تحققٍ شعريٍّ ما، أو شعرية ما، في عمل قد يكون مكتوبا، أو شفويا، متخيلا أو معيشا. في هذه الحالة بالذات، يتخلص زمن الشعر من تقنياته الصارمة، كي يعلن عن حقه في التمظهر في تشكلات، يتعذر القبض عليها بواسطة تعريفات مطلقة. وفي هذا السياق، أجدني أميل شخصيا إلى تبني مفهوم الشعرية، بدل الشعري، لأن هذا الأخير، يبدو مثقلا بروح رومانسية، تغرق الانفعالات البشرية في رهافتها، حيث يتداول عادة، للتدليل على حالة ملتبسة من الطمأنينة التي قد تكون واقعية أو محلوما بها. في حين، يبدو مفهوم الشعرية، وبصرف النظر عما استقطبه من مقاربات نظرية تقنية وعميقة، على امتداد عقود وعقود، أكثر اقترابا وتماسا، مع جوهر الكتابة الشعرية، التي لا تمتثل لأي رؤية جمالية أو فكرية ثابتة، كما لا تتقيد بالتعبير عن أفق انفعالي محدد، باعتبار قابليتها لأن تتجسد في أقصى حدود القسوة والعنف، أو أن تكون الترجمان الأنيق للاحتدامات المتقلبة، التي تتقاطع فيها أنفاس الشهوة بنداءات الغبطة، وبمختلف تمثيلاتها الإبداعية والفنية. من هذا المنطلق، تكون الشعرية، هي الفضاء الأكثر رحابة لوجود الكتابة، سواء ضمن أنساقها الشعرية المتعارف عليها، والمندرجة بشكل تلقائي في خانة الشعر، أو ضمن أنساقها المستقلة عن التجنيس المدرسي الصارم له.
إن ما يهمنا في هذا الإطار، هو الشعرية المتجاوزة لحد التجنيس، والمتجاوزة أيضا للدلالة المحيلة على حد رهافة الشعري، المغرق في أناقته وحميميته، والموظف في الإشادة بالإقامة في فيء طمأنينة محتملة. ضمن إطار هذا التجاوز، يمكن قراءة رواية «لعبة الأسماء» للشاعر والروائي محمد الأشعري، حيث لن يظل التساؤل مقيدا بالبحث عن القصيدة الشعرية بالمفهوم التقليدي للكلمة، بقدر ما يتعلق بالبحث عن شعرية منفتحة، تستمد ديناميتها من صلب التفاعل البنيوي القائم بين مكونات النص السردي.
وفي حالة اعتمادنا للرواية ذاتها، إطارا مرجعيا لمقاربة هذا الإشكال، فإن هاجس البحث، يمكن أن يتمحور، حول ذلك الميثاق الرمزي، الحاضر في خلفية كتابة الرواية بصيغة غير معلنة، والموحي للمتلقي، بوجوب بحثه في فضاءاتها، عن كتابة شعرية، من المحتمل أن تظل محتفظة بخصوصياتها، في قلب مدارات السرد، مادام المؤلف الفعلي هو الشاعر محمد الأشعري، الذي لا يمكن- في عرف كافة مستويات التلقي – إلا أن يوظف سلطته الشعرية، بشكل أو بآخر، من أجل مضاعفة غوايته لكل قراءة، قابلة للتورط في الاندماج المشروط أو اللامشروط، مع العوالم المتعددة الحاضرة في الرواية، وطبعا ليس من خلال تكديس النصوص الشعرية وتوزيعها على فضاء النص، مادام الأفق الحداثي والمتقدم الذي تشتغل في إطاره تجربة الكتابة عند الشاعر، ومنذ زمن البدايات إلى الآن، تدعونا إلى تبني توقعات أكثر تعقيدا، وأكثر احترافية، من توقعات قراءة نصوص شعرية، ذات وظيفة تأثيثية أو تجميلية.
إنه الإشكال الكبير الذي يطرحه علينا المنجز الروائي، للشاعر، خاصة عبر حزمة متكاملة من التساؤلات، التي تتبادل الإضاءة فيما بينها، في اتجاه التعرف على آليات تشغيل شعرية الشعر، بما هي جوهر منفتح على مجموع تلك الاستضافات العالية، التي تقترحها علينا شعرية الكتابة. وبالنظر إلى غزارة وكثافة سريان نسغ هذه الشعرية في مفاصل النص، فسيكون من الصعب وضع خطاطة متكاملة، تَفِي برصد حركية انتقالها من فضاءاتها الخاصة بها، إلى فضاءات شعرية الكتابة الروائية، بما يسعفنا في الاقتراب من خصوصية تجربة استثنائية لها وزنها الخاص على المستوى المغربي والعربي. ومع ذلك، فسنحاول قدر الإمكان، تقديم بعض الإضاءات النموذجية، التي يمكن أن تهتدي بموجبها القراءات، إلى وضع مشاريع خطاطات محتملة، للكشف عن أسرار ما يسميه السارد/ ص 16 ب»الخلطة المبهرة» في معرض حديثه عن مصطفى الذي أنجبته ثريا من رتشارد. والخلطة المبهرة هنا، بقدر ما تنطبق على شخصية مصطفى، بقدر ما تنطبق أيضا على تفاعل شعرية الشعر، بشعرية السرد في الرواية، عبر وسائطها المتعددة.
ولعل أول ما يمدنا به مبتدأ الإضاءة، هو هيمنة استراتيجية سردية، قوامها ميل الكتابة إلى وضع شعرية النص على عتبة القول الشعري، وهي العتبة التي تنتج جمالية خاصة، من جهة توريطها للقراءة في معايشة تجربة المراوحة المتأرجحة بين احتمال ظهور القصيدة، والإحساس بتجدد فنائها في مضايق السردي ومسالكه، بمعنى أن السرد، وعلى امتداد إيقاعاته المتفرعة والمتشعبة في فضاء الرواية، يعمل على معاودة لعبة توفير الشروط اللغوية والتخيلية والانفعالية الكفيلة باستدراج القصيدة إلى صفحة الكتابة، كي يجنح من جديد إلى تقنية تذويب هذه الشروط، عبر تلك الانقلابات المباغتة، التي يتشكل بها ومن خلالها، نسيج المحكي. كما لو أن الكتابة، تداوم مراقبتها لشعرية الشعر، كي تظل في الدرجة الصفر من تفاعلها، درءا لأي تمرد محتمل، يمكن أن تقوم به القصيدة.
ومن عمق هذه الإستراتيجية، تنهض أمامنا تلك الإشكالية النظرية المؤرقة، والمتعلقة بسؤال التموضع، المطروح أبدا على الكتابة، وهي تتقدم باتجاه مجهولها، أي قلق تحديد مكان الإقامة، الذي يتحكم في توزيع أدوار ما ينبغي قوله، إن بشعرية الشعر، أو بشعرية السرد. رهبة الحسم هذه، في اختيار ما، دون آخر، هو ما يدعو الشاعر للذهاب إلى النثر، وما يدعو الناثر للذهاب إلى الشعر. مع التأكيد على ندرة التجارب التي ترقى إلى هذه المراوحة، كما هو الشأن بالنسبة ل»لعبة الأسماء» حيث ترتقي المراوحة إلى مدارجها الجديرة بها.
ومن المؤكد أن هذه المراوحات تختلف، باختلاف خصوصية النص، حيث يمكن الحديث عن بناء سكوني شبه تقليدي، يعتمد هندسة ذلك التقابل المكشوف والمعلن بين الحدين، اللذين يطمئن التلقي سلفا إلى انتقاله المقنن بينهما، إلى جانب الحديث عن بناء حداثي، يتحقق عبر تماهيه المتشابك مع حركية الوجود، وحركية الكينونة، بعد إخضاعهما للعبة تجريدية يستمد منها البناء هندسته المعقدة، التي تتحرر فيها الخطوط والأحجام والأبعاد، من سلطة نداء أي وجهة، قد تكون مرسومة، ومحددة سلفا. وهو البناء ذاته، الذي يطالعنا في هذه الرواية التي تمارس فيها شعرية الشعر، وشعرية السرد تقاطعات وتداخلات، لا قبل للتوازي والتقابل بهما، بفعل الحضور الهادر والمتتالي، لتلك الدوامات الدلالية، التي يباغتنا بها الحكي، إثر كل خطوة تخطوها القراءة في فضاء الكتابة، وهي دوامات، تؤدي إلى إحداث ترسيمات لا تلبث أن تخلي المكان لأخرى جد مختلفة، بفعل الانتشار الكثيف لبذور قصائد، يتعمد السرد إجهاضها بشعريته الخاصة، التي يتميز بها عن غيره من أجناس الكتابة.
يبدو لي ومن وجهة نظر شعرية، أن الكتابة غالبا ما تهتدي إلى حضورها، تحت ظل يعود إلى شيء ما. شيء يمتلك من عنف الإثارة أو هشاشتها، ما يغري اليد الثالثة بتجريب قدرتها على إعلان حضورها، كشكل ما من أشكال الاستجابة لغواية هذا العنف، أو هذه الهشاشة، وهي جاذبية لا يمكن إلا أن تكون منصهرة، في قلب ذلك التفاعل المباغت، الذي ينتقل بطقس الاستجابة، من حده البسيط، إلى حد الذروة، حيث توشك فيه ملكة الحكم، أن تتنازل نسبيا، عن ممارستها لسلطة التوجيه، كي تستسلم مجبرة، إلى سحرية الحالة التي تمليها طبيعة الظل المخيم على يد الكتابة.
وبالنظر إلى الحركية التي تتشكل بها، ومن خلالها، هوية الكتابة، المتلذذة، بمحو الفوارق الفاصلة بين الأجناس الإبداعية، فإن هذا الظل أيضا، يتميز بتنوعه وبتعدده، انسجاما مع تعدد المواقع التي تنجذب الكتابة بلا هوادة، إلى نداءاتها، فقد يكون ظل عنقاء، ظل ديمة، أو ظل نهاية، إلى آخر ما يمكن أن يقترحه علينا الاحتمال المنفتح لهويات هذه الظلال.
استحالة الحصر اللانهائي لمرجعيات الظل، هي التي ربما أوحت للكتابة باختزالها في القصيدة. علما بأن القصيدة هنا، لا تحيل تماما على أي شكل من الأشكال المتداولة عادة في كتابة النص الشعري، الذي يمكن أن يكون نصا عموديا أو، منتميا إلى شعر التفعيلة أو قصيدة النثر، بقدر ما تحيل إلى الدلالات اللانهائية، لشعرية منعطف ما، من منعطفات الكتابة، كأصل محتمل من أصول النص الشعري، باعتبار أن التوصيف الشعري للكتابة، ذو منحى بيداغوجي، يهدف أساسا، إلى توجيه المتلقي العادي، كي يكون على دراية تامة بالنص الذي هو بصدد التفاعل معه، حيث سيختلف الأمر تماما مع المتلقي المختص، الذي لن يكون بحاجة لأي علامة توجيهية، تنبهه إلى جنس النص المعني بالقراءة. يمكن أيضا، أن نضيف في هذا السياق، الشكل الذي يتقدم به النص الشعري، والذي يكون كافيا، لإشعار القارئ بهويته، سواء كان شكلا تقليديا، أو حديثا. خارج هذا التوصيف ذي الطبيعة التعريفية، والخاضعة لمعايير متعارف عليها، ومعتمدة في التعامل مع النص الشعري، خاصة من قبل التلقي المشترك، يمكن الحديث وبرؤية مغايرة، عن تحققٍ شعريٍّ ما، أو شعرية ما، في عمل قد يكون مكتوبا، أو شفويا، متخيلا أو معيشا. في هذه الحالة بالذات، يتخلص زمن الشعر من تقنياته الصارمة، كي يعلن عن حقه في التمظهر في تشكلات، يتعذر القبض عليها بواسطة تعريفات مطلقة. وفي هذا السياق، أجدني أميل شخصيا إلى تبني مفهوم الشعرية، بدل الشعري، لأن هذا الأخير، يبدو مثقلا بروح رومانسية، تغرق الانفعالات البشرية في رهافتها، حيث يتداول عادة، للتدليل على حالة ملتبسة من الطمأنينة التي قد تكون واقعية أو محلوما بها. في حين، يبدو مفهوم الشعرية، وبصرف النظر عما استقطبه من مقاربات نظرية تقنية وعميقة، على امتداد عقود وعقود، أكثر اقترابا وتماسا، مع جوهر الكتابة الشعرية، التي لا تمتثل لأي رؤية جمالية أو فكرية ثابتة، كما لا تتقيد بالتعبير عن أفق انفعالي محدد، باعتبار قابليتها لأن تتجسد في أقصى حدود القسوة والعنف، أو أن تكون الترجمان الأنيق للاحتدامات المتقلبة، التي تتقاطع فيها أنفاس الشهوة بنداءات الغبطة، وبمختلف تمثيلاتها الإبداعية والفنية. من هذا المنطلق، تكون الشعرية، هي الفضاء الأكثر رحابة لوجود الكتابة، سواء ضمن أنساقها الشعرية المتعارف عليها، والمندرجة بشكل تلقائي في خانة الشعر، أو ضمن أنساقها المستقلة عن التجنيس المدرسي الصارم له.
إن ما يهمنا في هذا الإطار، هو الشعرية المتجاوزة لحد التجنيس، والمتجاوزة أيضا للدلالة المحيلة على حد رهافة الشعري، المغرق في أناقته وحميميته، والموظف في الإشادة بالإقامة في فيء طمأنينة محتملة. ضمن إطار هذا التجاوز، يمكن قراءة رواية «لعبة الأسماء» للشاعر والروائي محمد الأشعري، حيث لن يظل التساؤل مقيدا بالبحث عن القصيدة الشعرية بالمفهوم التقليدي للكلمة، بقدر ما يتعلق بالبحث عن شعرية منفتحة، تستمد ديناميتها من صلب التفاعل البنيوي القائم بين مكونات النص السردي.
وفي حالة اعتمادنا للرواية ذاتها، إطارا مرجعيا لمقاربة هذا الإشكال، فإن هاجس البحث، يمكن أن يتمحور، حول ذلك الميثاق الرمزي، الحاضر في خلفية كتابة الرواية بصيغة غير معلنة، والموحي للمتلقي، بوجوب بحثه في فضاءاتها، عن كتابة شعرية، من المحتمل أن تظل محتفظة بخصوصياتها، في قلب مدارات السرد، مادام المؤلف الفعلي هو الشاعر محمد الأشعري، الذي لا يمكن- في عرف كافة مستويات التلقي – إلا أن يوظف سلطته الشعرية، بشكل أو بآخر، من أجل مضاعفة غوايته لكل قراءة، قابلة للتورط في الاندماج المشروط أو اللامشروط، مع العوالم المتعددة الحاضرة في الرواية، وطبعا ليس من خلال تكديس النصوص الشعرية وتوزيعها على فضاء النص، مادام الأفق الحداثي والمتقدم الذي تشتغل في إطاره تجربة الكتابة عند الشاعر، ومنذ زمن البدايات إلى الآن، تدعونا إلى تبني توقعات أكثر تعقيدا، وأكثر احترافية، من توقعات قراءة نصوص شعرية، ذات وظيفة تأثيثية أو تجميلية.
إنه الإشكال الكبير الذي يطرحه علينا المنجز الروائي، للشاعر، خاصة عبر حزمة متكاملة من التساؤلات، التي تتبادل الإضاءة فيما بينها، في اتجاه التعرف على آليات تشغيل شعرية الشعر، بما هي جوهر منفتح على مجموع تلك الاستضافات العالية، التي تقترحها علينا شعرية الكتابة. وبالنظر إلى غزارة وكثافة سريان نسغ هذه الشعرية في مفاصل النص، فسيكون من الصعب وضع خطاطة متكاملة، تَفِي برصد حركية انتقالها من فضاءاتها الخاصة بها، إلى فضاءات شعرية الكتابة الروائية، بما يسعفنا في الاقتراب من خصوصية تجربة استثنائية لها وزنها الخاص على المستوى المغربي والعربي. ومع ذلك، فسنحاول قدر الإمكان، تقديم بعض الإضاءات النموذجية، التي يمكن أن تهتدي بموجبها القراءات، إلى وضع مشاريع خطاطات محتملة، للكشف عن أسرار ما يسميه السارد/ ص 16 ب»الخلطة المبهرة» في معرض حديثه عن مصطفى الذي أنجبته ثريا من رتشارد. والخلطة المبهرة هنا، بقدر ما تنطبق على شخصية مصطفى، بقدر ما تنطبق أيضا على تفاعل شعرية الشعر، بشعرية السرد في الرواية، عبر وسائطها المتعددة.
ولعل أول ما يمدنا به مبتدأ الإضاءة، هو هيمنة استراتيجية سردية، قوامها ميل الكتابة إلى وضع شعرية النص على عتبة القول الشعري، وهي العتبة التي تنتج جمالية خاصة، من جهة توريطها للقراءة في معايشة تجربة المراوحة المتأرجحة بين احتمال ظهور القصيدة، والإحساس بتجدد فنائها في مضايق السردي ومسالكه، بمعنى أن السرد، وعلى امتداد إيقاعاته المتفرعة والمتشعبة في فضاء الرواية، يعمل على معاودة لعبة توفير الشروط اللغوية والتخيلية والانفعالية الكفيلة باستدراج القصيدة إلى صفحة الكتابة، كي يجنح من جديد إلى تقنية تذويب هذه الشروط، عبر تلك الانقلابات المباغتة، التي يتشكل بها ومن خلالها، نسيج المحكي. كما لو أن الكتابة، تداوم مراقبتها لشعرية الشعر، كي تظل في الدرجة الصفر من تفاعلها، درءا لأي تمرد محتمل، يمكن أن تقوم به القصيدة.
ومن عمق هذه الإستراتيجية، تنهض أمامنا تلك الإشكالية النظرية المؤرقة، والمتعلقة بسؤال التموضع، المطروح أبدا على الكتابة، وهي تتقدم باتجاه مجهولها، أي قلق تحديد مكان الإقامة، الذي يتحكم في توزيع أدوار ما ينبغي قوله، إن بشعرية الشعر، أو بشعرية السرد. رهبة الحسم هذه، في اختيار ما، دون آخر، هو ما يدعو الشاعر للذهاب إلى النثر، وما يدعو الناثر للذهاب إلى الشعر. مع التأكيد على ندرة التجارب التي ترقى إلى هذه المراوحة، كما هو الشأن بالنسبة ل»لعبة الأسماء» حيث ترتقي المراوحة إلى مدارجها الجديرة بها.
ومن المؤكد أن هذه المراوحات تختلف، باختلاف خصوصية النص، حيث يمكن الحديث عن بناء سكوني شبه تقليدي، يعتمد هندسة ذلك التقابل المكشوف والمعلن بين الحدين، اللذين يطمئن التلقي سلفا إلى انتقاله المقنن بينهما، إلى جانب الحديث عن بناء حداثي، يتحقق عبر تماهيه المتشابك مع حركية الوجود، وحركية الكينونة، بعد إخضاعهما للعبة تجريدية يستمد منها البناء هندسته المعقدة، التي تتحرر فيها الخطوط والأحجام والأبعاد، من سلطة نداء أي وجهة، قد تكون مرسومة، ومحددة سلفا. وهو البناء ذاته، الذي يطالعنا في هذه الرواية التي تمارس فيها شعرية الشعر، وشعرية السرد تقاطعات وتداخلات، لا قبل للتوازي والتقابل بهما، بفعل الحضور الهادر والمتتالي، لتلك الدوامات الدلالية، التي يباغتنا بها الحكي، إثر كل خطوة تخطوها القراءة في فضاء الكتابة، وهي دوامات، تؤدي إلى إحداث ترسيمات لا تلبث أن تخلي المكان لأخرى جد مختلفة، بفعل الانتشار الكثيف لبذور قصائد، يتعمد السرد إجهاضها بشعريته الخاصة، التي يتميز بها عن غيره من أجناس الكتابة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.