أوكرانيا تطالب روسيا بتعويضات مناخية بقيمة 43 مليار دولار في كوب 30    ترامب: جميع دول العالم ترغب في الانضمام إلى مجلس السلام حول غزة    بحضور ماسك ورونالدو، ترامب يقيم عشاء رسميا لولي العهد السعودي (فيديو)    ترتيب الدوري الإيطالي قبل انطلاق الجولة القادمة    شبانة: الأهلي أغلق باب العودة أمام كهربا نهائيًا    نمو الطلب على السلع المصنعة في أمريكا خلال أغسطس    "الوطنية للانتخابات": إلغاء نتائج 19 دائرة سببه مخالفات جوهرية أثرت على إرادة الناخب    "النواب" و"الشيوخ" الأمريكي يصوتان لصالح الإفراج عن ملفات إبستين    فرحات: رسائل السيسي ترسم ملامح برلمان مسؤول يدعم الدولة    شمال سيناء تنهي استعداداتها لانتخابات مجلس النواب 2025    النيابة العامة تُحوِّل المضبوطات الذهبية إلى احتياطي إستراتيجي للدولة    أقرب إلى الخلع، وزير الآثار الأسبق يكشف مفاجآت عن وثيقة الجواز والطلاق في عصر الفراعنة    انقلاب جرار صيانة في محطة التوفيقية بالبحيرة.. وتوقف حركة القطارات    نشأت الديهي: لا تختاروا مرشحي الانتخابات على أساس المال    مصرع شاب وإصابة اثنين آخرين في انقلاب سيارتي تريلا بصحراوي الأقصر    ما هي أكثر الأمراض النفسية انتشارًا بين الأطفال في مصر؟.. التفاصيل الكاملة عن الاضطرابات النفسية داخل مستشفيات الصحة النفسية    مصرع شاب وإصابة اثنين في انقلاب سيارتي تريلا بالأقصر    إحالة مخالفات جمعية منتجي الأرز والقمح للنيابة العامة.. وزير الزراعة يكشف حجم التجاوزات وخطة الإصلاح    النائب العام يؤكد قدرة مؤسسات الدولة على تحويل الأصول الراكدة لقيمة اقتصادية فاعلة.. فيديو    في ذكرى رحيله.. أبرز أعمال مارسيل بروست التي استكشفت الزمن والذاكرة والهوية وطبيعة الإنسان    معرض «الأبد هو الآن» يضيء أهرامات الجيزة بليلة عالمية تجمع رموز الفن والثقافة    أبرزهم أحمد مجدي ومريم الخشت.. نجوم الفن يتألقون في العرض العالمي لفيلم «بنات الباشا»    سويسرا تلحق بركب المتأهلين لكأس العالم 2026    جميع المنتخبات المتأهلة إلى كأس العالم 2026    شجار جماعي.. حادثة عنف بين جنود الجيش الإسرائيلي ووقوع إصابات    قوات الاحتلال تطرد عائلة الشهيد صبارنة من منزلها وتغلقه    وزير الدفاع الروسي: قوات الصواريخ والمدفعية تلعب الدور الحاسم في تدمير العدو    حبس المتهمين في واقعة إصابة طبيب بطلق ناري في قنا    إنهاء تعاقد مُعلم في نجع حمادي بتهمة التعدي على تلميذ    عاجل مستشار التحول الرقمي: ليس كل التطبيقات آمنة وأحذر من استخدام تطبيقات الزواج الإلكترونية الأجنبية    أحمد موسى: الرئيس دائمًا يؤكد قيمة الوحدة الوطنية.. ودعم البوتاجاز مثال على اهتمام الدولة    الأحزاب تتوحد خلف شعار النزاهة والشفافية.. بيان رئاسي يهز المشهد الانتخابي    وزارة الاتصالات تنفذ برامج تدريبية متخصصة في الأمن السيبراني على مستوى 14 محافظة    آسر نجل الراحل محمد صبري: أعشق الزمالك.. وأتمنى أن أرى شقيقتي رولا أفضل مذيعة    أسامة كمال: الجلوس دون تطوير لم يعد مقبولًا في زمن التكنولوجيا المتسارعة    دينا محمد صبري: كنت أريد لعب كرة القدم منذ صغري.. وكان حلم والدي أن أكون مهندسة    الفنانون يدعمون تامر حسنى فى أزمته الصحية.. هنا الزاهد ودياب: تقوم بالسلامة    أحمد الشناوي: الفار أنقذ الحكام    زيورخ السويسري يرد على المفاوضات مع لاعب الزمالك    تحريات لكشف ملابسات العثور على جثة شخص في الطالبية    أحمد فؤاد ل مصطفى محمد: عُد للدورى المصرى قبل أن يتجاوزك الزمن    جامعة طيبة التكنولوجية بالأقصر تطلق مؤتمرها الرابع لشباب التكنولوجيين منتصف ديسمبر    فضيحة الفساد في كييف تُسقط محادثات ويتكوف ويرماك في تركيا    مشروبات طبيعية تساعد على النوم العميق للأطفال    وزير المالية: مبادرة جديدة لدعم ريادة الأعمال وتوسيع نظام الضريبة المبسطة وحوافز لأول 100 ألف مسجل    فيلم وهم ل سميرة غزال وفرح طارق ضمن قائمة أفلام الطلبة فى مهرجان الفيوم    طيران الإمارات يطلب 65 طائرة إضافية من بوينغ 777X بقيمة 38 مليار دولار خلال معرض دبي للطيران 2025    «مصر العليا للكهرباء»: 4.3 مليار جنيه مشروعات للغير وفائض تشغيل كبير    مديرة وحدة علاج الاضطرابات النفسية تحذر من الآثار السلبية للتنمر على نفسية الطفل    هيئة الدواء: نعتزم ضخ 150 ألف عبوة من عقار الديجوكسين لعلاج أمراض القلب خلال الفترة المقبلة    "تعليم القاهرة" تشدد على أهمية تطبيق لائحة التحفيز التربوي والانضباط المدرسي    داعية: حديث "اغتنم خمسًا قبل خمس" رسالة ربانية لإدارة العمر والوقت(فيديو)    هل يجوز أداء العشاء قبل الفجر لمن ينام مبكرًا؟.. أمين الفتوى يجيب    مواقيت الصلاه اليوم الثلاثاء 18نوفمبر 2025 فى المنيا....اعرف صلاتك    الشيخ رمضان عبد المعز يبرز الجمال القرآني في سورة الأنبياء    التنسيقية تنظم رابع صالون سياسي للتعريف ببرامج المرشحين بالمرحلة الثانية لانتخابات النواب    الملتقى الفقهي بالجامع الأزهر: مقارنة المهور هي الوقود الذي يشعل نيران التكلفة في الزواج    كيف يحدث هبوط سكر الدم دون الإصابة بمرض السكري؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السينما العربية بين الرؤية والرواية
نشر في صوت البلد يوم 11 - 04 - 2016

أعدّ نفسي من عشاق السينما إضافة إلى الكتب والموسيقى وبقية الفنون الأخرى، كغيري ممن اختاروا عالم الجمال والفن والطبيعة كعوالم بديلة أو موازية لعالم الإنسان الذي كثيراً ما يضج بالقبح والشر، ولذا ففي كل أسبوع أشاهد فيلماً أو اثنين على أقل تقدير.
تبهرني السينما فعلاً، الفيلم الذي يجعل الصورة فكرة، أو الفكرة صورة، هذا الفن الذي يشحذ المخيلة، وينمّي الوعي، ويقدم رسائله العميقة والبسيطة في آن، لجمهور الشاشة الكبيرة بمختلف أعمارهم، وأفكارهم ومشاربهم، وأحلامهم ومستوياتهم المعرفية، فهو ليس حكراً على أحد، أو على طبقة ثقافية ما.
هذا فن يستطيع أن يقدّم كل شيء في الكون والمجتمع وعبر التاريخ أو الجغرافيا بجمالية الصورة المتحركة، ودهشة الحكاية والصنعة الفنية، كما يستطيع أن يجسّد حضور الإنسان في الحياة في كل حالاته من ضعف وقوة، وجمال وقبح، وصحة ومرض، بل في حضوره وغيابه، حيث أن المخيلة الإنسانية الجبارة لم تقف عند حد ما، فصورت السينما ما بعد الموت، وما وراء الزمن أو في حالة توقفه، كما في الكثير من الأفلام الخيالية أو العلمية أو أفلام الرعب وال»أكشن» وغيرها.
وتشهد الصناعة السينمائية العالمية اليوم تقدماً فنياً على المستويات كافة، من حيث الرؤية التي تتناول الكون وما وراءه، والتقنية، والموضوعات التي يتم تقديمها عبر المادة، «النص»، حيث تسعى السينما العالمية لحفر مكنونات الفكر الإنساني، لتقديم أعظم الروايات العالمية للمشاهد المعاصر ليتعرّف على هذه الروائع، ويتذوق جمالها النصي عبر اللغة الصورية، إضافة إلى تقديم حياة أهم الشخصيات التي عبرت هذا الكون وأثّرت فيه من علماء وفنانين ومخترعين وكتاب وبسطاء ومناضلين.
فدور السينما هو الارتقاء بالإنسان وبذوقه ومعرفته وإنسانيته عبر تقديم الروائع الفنية والأدبية والإنسانية بصورة قريبة ومتاحة، لتصل إلى عمق وجدانه، وتسهم في تغيير أفكاره وأحلامه وممارساته المعيشية والارتقاء بها. إنها ببساطة محاكاة للحياة عبر تقديم نماذج إنسانية (في الخير أو الشر) وأفكار خلاقة، تجعل للحياة معنى، وللفن دوراً في صناعة الإنسان وبناء فكره ووعيه وذوقه، ولذا لم يعد مستغرباً، بل أصبحت شبه «موضة سينمائية جارفة» أن تجد عبارة «الفيلم عن رواية كذا»، أو "هذا الفيلم عن قصة واقعية".
وليست السينما الغربية (بتنوع بيئاتها وإنسانها الأوروبي والأمريكي، والأسود والأبيض والملون) وبتنوع أفكارها وقضاياها، هي التي تأخذنا مباشرة للحديث عنها أو الإشادة بها فقط، أو اتخاذها نموذجاً وإن كانت الأكثر حضوراً وتميزاً وعناية بهذا الفن، والأكثر وصولاً للمشاهد العربي للأسف. إلا أن العالم كله أصبح يدرك أن صناعة السينما هي صناعة ثقافية من الدرجة الأولى، وهي صناعة الإنسان أولاً وأخيراً، فالسينما الإيرانية مثلاً تمثل حالة سينمائية إنسانية رائعة بكل المستويات الفنية والنصية، والسينما الهندية تذهب كل يوم بكل طاقتها لصناعة فنية راقية، وبالطبع هذا ينطبق على سينما كل العالم.
ولكن ما يهمنا هنا هو الحديث عن السينما العربية التي ندرك جميعاً أنها تعاني الكثير من المعوقات أمام صناعة سينما حقيقية، ليس آخرها المال الذي تحتاجه هذه الصناعة، وليس أهمها عدم وجود معاهد مستقلة لتأهيل صناع السينما وغيرها من المعوقات. كما أن الحديث هنا ليس نقداً سينمائياً متخصصاً، بقدر ما هو نقد ثقافي وإنساني لفن ينمو ويسهم في صناعة الإنسان في كل أنحاء العالم، والإنسان العربي يحتاجه اليوم بقوة أكثر من أي وقت مضى.
فالسينما العربية تحاول جاهدة، ومنذ عقود طويلة الوصول إلى صناعة سينمائية محترفة حقيقية وجادة، إلا أنها للأسف ما تزال تراوح مكانها، بل لعلها تراجعت كثيراً في بعض المجالات والتقنيات في زمننا هذا. فالفيلم العربي ما زال بعيداً عن التقدم العالمي في هذا الميدان، وإن حضر كان بحياء أو بعدم احترافية وفي المهرجانات السينمائية. كما أنه (غالباً) لا يسعى لتلمّس روح الإنسان الحقيقي بكل تشكلاته وتمظهراته الداخلية والخارجية، والتعبير عن قلقه الوجودي، وأوجاعه الإنسانية. فهو بعيد عن هموم الإنسان اليومية، ومكابدات الحضور الفعلي في حياة ليس عادلة أبداً، ويحتاج الإنسان إلى يد الفنون لتأخذ بروحه الحائرة، وإلى بوصلة الجمال الذي يمكن للسينما أن تلعب فيه دوراً كبيراً ومؤثراً. فما تزال السينما العربية من حيث المعالجة تركز على إثارة الشهوات عبر حكايات ساذجة تُدَس عبرها مشاهد جنسية مفبركة، ليصبح «الجنس» هو الشكل الأساسي أو المبتغى من العلاقة الإنسانية، مشوِّهة بذلك الكثير من قيم الحب والإنسان معاً؛ ومتجاهلة (غالباً) كل أشكال العلاقات الإنسانية الأخرى كالأخوة والأبوة والحب العظيم والعجزة والمعاقين والأطفال أو ربما تناولتها بشكل خجل أو مشوّه وبسيط.
وللأسف إنحازت السينما العربية مؤخراً إلى نشرات الأخبار، والعنف المؤدلج، والسياسي، في تناولها لحكايات الإنسان، فجاءت الأفلام الجديدة صوراً فنية لمشاهد توثيقية للعنف العربي الذي نعيشه من الماء للماء، وفي الحقيقة نحن بحاجة إلى الذهاب بعيداً عنه، ومحاربته بكل الممكنات الجمالية، أكثر من توثيقه وتأصيله في الفن.
فهل علينا أن نواجه هذا القبح والتوحش بتعريته أكثر؟ أم بتقديم نماذج جمالية مضادة تمثل حالة اقتداء واحتماء للوعي المجروح والأرواح المتشظية؟ وكم نحتاج من الوقت لصناعة نماذج جمالية فنية وفكرية تأخذ بيد الإنسان العربي نحو السواء، وتجعله يطمئن إلى أن القبح والشر هما مجرد حالات شاذة في السواء الإنساني الأعم؟
أين نحن اليوم من الفنون التي هي جوهر وجودنا على هذه الأرض؟ أين الثقافة العربية من السينما كفعل تغييري وتنويري، وأين تقف صناعتنا السينمائية من الفن السابع الذي يتقدم اليوم في العالم أجمع بقوة ليصبح الفن الأول، فن الرؤية العظيمة، والتأويلات البعيدة، ليأخذ من الشعر والموسيقا والمسرح مباهجها، ومن الروايات الخالدة أكثر جمالا وعمقا وحساسية ويتقمّصها ويصنعها؟ فأين نحن من ذلك كله، بل أين الفنون البصرية المتداخلة في السينما العربية؟ أين السينما الشعرية؟
أين روح الحكاية العربية، الشعبية والأسطورية التي برعنا فيها طويلاً وكثيراً؟ أين أساطيرنا وتاريخنا وتراثنا الشفهي والسردي العربي؟ أين أبو زيد الهلالي وعنترة بلا عنتريات؟ لِمَ لم ننزل بجماليات سردياتنا العظيمة من صهوة التاريخ إلى حاضر السينما؟ أين ليلى والمجنون وكثير وعزة ؟ لِمَ اتسع السرير، وضاق التفكير؟
وأين الروايات العربية الخالدة، والعالم يحوّل روائع القرن العشرين إلى أفلام، في حين أننا نتجاهل انتاجنا الروائي الكبير والضخم على مر قرون طويلة، ونتركه يتلمس كالأعمى الجوائز الساذجة للحصول على شرعية حضور؟
ولماذا اكتفى صناع السينما العربية باللهاث والتهافت وراء المهرجانات السينمائية العالمية سعياً وراء البريق والشهرة والجوائز؟ لماذا يُتجاهَل الإنسان الذي لا يستطيع حضور المهرجانات، ولكنه يستطيع أن يوفر ثمن شراء فيلم من أقرب بقالة لبيته؟ أو يؤجره من أقرب محل؟ وهو بالتالي لا يريد أن يشاهد بريق المهرجانات الكاذب، والسجادة الحمراء، والأجساد المدهونة بالعسل والمربى، بل يريد أن يرى قصة إنسانية تجلي همومه اليومية، وتسعف أحلامه الصغيرة متجسدة في فيلم، يريد صوت أمه وهي تغني في الحقل والدكان والمطبخ، ورائحة الخبز والشاي تغمر الأرجاء بشعرية عالية، في أقرب دار سينما من بيته أو حتى في البلدة المجاورة نهاية الأسبوع.
وكلنا نريد ذلك، نريد تجسيد واقعنا وحيواتنا عبر الفن أجمل وأصدق معاً، نريد صور الحرب التي تقول لا للحرب، نريد حلولاً تتصاعد بالخيال نحو الجمال، نريد صور الحب الحقيقي، في الحارة والشارع والجامعة، وليس الحب الجاهز أو المصنوع بين ابن الباشا والفتاة الفقيرة، أو بين الفتى العبقري والساذجة الغنية. هذا يكفي، لقد مللنا هذه الترهات، كما مللنا أدوار الموت والخراب وعجرفة العسكر، نريد أن ننتصر في الحكاية.
نريد فتى وسيماً يسحق العسكري المتعجرف ببزته تحت حذائه، ويموت ليحررنا بموته، وينتصر حذاء رجل الشارع على حذاء العسكر، نريد الفتى الاشتراكي يضع عمامة رجل الدين المنافق تحت قدمه وهو يقرأ قصيدة لمحمد الماغوط بعد أن يفحمه بالحجج والبراهين، فنضحك لخجل الثاني، وهو يركض متلبساً بالخزي نحو بيته خائفا وخجلا وبائسا، فنتحرر في الفيلم من عمامة الزيف، وننتصر للشعر. نريد أن يرقص الجميع في آخر الفيلم، بدل أن يموتوا. نريد أن تغني الأمهات مع رائحة القهوة والخبز كلمات محمود درويش بصوت مارسيل خليفة: «أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي». نريد أن ننحاز إلى الجمال في عالمنا، بعيداً عن عقدة الذنب، وتعقيدات الحب، وبعيداً جداً عن تشدد السياسة والدين، والكذب والنفاق اللذين خلفاهما. نريد أن نبكي ونضحك لا حزناً ولا فرحاً، كما قالت فيروز ، كلما شاهدنا فيلماً عربياً يحكينا ويحاكينا. نريد أن نلتحم ببشريتنا، ونصدّر للعالم حقيقتنا التي لم تشوهها السياسة والدين.فهل يتحقق لنا ذلك عبر الفن السابع؟
أعدّ نفسي من عشاق السينما إضافة إلى الكتب والموسيقى وبقية الفنون الأخرى، كغيري ممن اختاروا عالم الجمال والفن والطبيعة كعوالم بديلة أو موازية لعالم الإنسان الذي كثيراً ما يضج بالقبح والشر، ولذا ففي كل أسبوع أشاهد فيلماً أو اثنين على أقل تقدير.
تبهرني السينما فعلاً، الفيلم الذي يجعل الصورة فكرة، أو الفكرة صورة، هذا الفن الذي يشحذ المخيلة، وينمّي الوعي، ويقدم رسائله العميقة والبسيطة في آن، لجمهور الشاشة الكبيرة بمختلف أعمارهم، وأفكارهم ومشاربهم، وأحلامهم ومستوياتهم المعرفية، فهو ليس حكراً على أحد، أو على طبقة ثقافية ما.
هذا فن يستطيع أن يقدّم كل شيء في الكون والمجتمع وعبر التاريخ أو الجغرافيا بجمالية الصورة المتحركة، ودهشة الحكاية والصنعة الفنية، كما يستطيع أن يجسّد حضور الإنسان في الحياة في كل حالاته من ضعف وقوة، وجمال وقبح، وصحة ومرض، بل في حضوره وغيابه، حيث أن المخيلة الإنسانية الجبارة لم تقف عند حد ما، فصورت السينما ما بعد الموت، وما وراء الزمن أو في حالة توقفه، كما في الكثير من الأفلام الخيالية أو العلمية أو أفلام الرعب وال»أكشن» وغيرها.
وتشهد الصناعة السينمائية العالمية اليوم تقدماً فنياً على المستويات كافة، من حيث الرؤية التي تتناول الكون وما وراءه، والتقنية، والموضوعات التي يتم تقديمها عبر المادة، «النص»، حيث تسعى السينما العالمية لحفر مكنونات الفكر الإنساني، لتقديم أعظم الروايات العالمية للمشاهد المعاصر ليتعرّف على هذه الروائع، ويتذوق جمالها النصي عبر اللغة الصورية، إضافة إلى تقديم حياة أهم الشخصيات التي عبرت هذا الكون وأثّرت فيه من علماء وفنانين ومخترعين وكتاب وبسطاء ومناضلين.
فدور السينما هو الارتقاء بالإنسان وبذوقه ومعرفته وإنسانيته عبر تقديم الروائع الفنية والأدبية والإنسانية بصورة قريبة ومتاحة، لتصل إلى عمق وجدانه، وتسهم في تغيير أفكاره وأحلامه وممارساته المعيشية والارتقاء بها. إنها ببساطة محاكاة للحياة عبر تقديم نماذج إنسانية (في الخير أو الشر) وأفكار خلاقة، تجعل للحياة معنى، وللفن دوراً في صناعة الإنسان وبناء فكره ووعيه وذوقه، ولذا لم يعد مستغرباً، بل أصبحت شبه «موضة سينمائية جارفة» أن تجد عبارة «الفيلم عن رواية كذا»، أو "هذا الفيلم عن قصة واقعية".
وليست السينما الغربية (بتنوع بيئاتها وإنسانها الأوروبي والأمريكي، والأسود والأبيض والملون) وبتنوع أفكارها وقضاياها، هي التي تأخذنا مباشرة للحديث عنها أو الإشادة بها فقط، أو اتخاذها نموذجاً وإن كانت الأكثر حضوراً وتميزاً وعناية بهذا الفن، والأكثر وصولاً للمشاهد العربي للأسف. إلا أن العالم كله أصبح يدرك أن صناعة السينما هي صناعة ثقافية من الدرجة الأولى، وهي صناعة الإنسان أولاً وأخيراً، فالسينما الإيرانية مثلاً تمثل حالة سينمائية إنسانية رائعة بكل المستويات الفنية والنصية، والسينما الهندية تذهب كل يوم بكل طاقتها لصناعة فنية راقية، وبالطبع هذا ينطبق على سينما كل العالم.
ولكن ما يهمنا هنا هو الحديث عن السينما العربية التي ندرك جميعاً أنها تعاني الكثير من المعوقات أمام صناعة سينما حقيقية، ليس آخرها المال الذي تحتاجه هذه الصناعة، وليس أهمها عدم وجود معاهد مستقلة لتأهيل صناع السينما وغيرها من المعوقات. كما أن الحديث هنا ليس نقداً سينمائياً متخصصاً، بقدر ما هو نقد ثقافي وإنساني لفن ينمو ويسهم في صناعة الإنسان في كل أنحاء العالم، والإنسان العربي يحتاجه اليوم بقوة أكثر من أي وقت مضى.
فالسينما العربية تحاول جاهدة، ومنذ عقود طويلة الوصول إلى صناعة سينمائية محترفة حقيقية وجادة، إلا أنها للأسف ما تزال تراوح مكانها، بل لعلها تراجعت كثيراً في بعض المجالات والتقنيات في زمننا هذا. فالفيلم العربي ما زال بعيداً عن التقدم العالمي في هذا الميدان، وإن حضر كان بحياء أو بعدم احترافية وفي المهرجانات السينمائية. كما أنه (غالباً) لا يسعى لتلمّس روح الإنسان الحقيقي بكل تشكلاته وتمظهراته الداخلية والخارجية، والتعبير عن قلقه الوجودي، وأوجاعه الإنسانية. فهو بعيد عن هموم الإنسان اليومية، ومكابدات الحضور الفعلي في حياة ليس عادلة أبداً، ويحتاج الإنسان إلى يد الفنون لتأخذ بروحه الحائرة، وإلى بوصلة الجمال الذي يمكن للسينما أن تلعب فيه دوراً كبيراً ومؤثراً. فما تزال السينما العربية من حيث المعالجة تركز على إثارة الشهوات عبر حكايات ساذجة تُدَس عبرها مشاهد جنسية مفبركة، ليصبح «الجنس» هو الشكل الأساسي أو المبتغى من العلاقة الإنسانية، مشوِّهة بذلك الكثير من قيم الحب والإنسان معاً؛ ومتجاهلة (غالباً) كل أشكال العلاقات الإنسانية الأخرى كالأخوة والأبوة والحب العظيم والعجزة والمعاقين والأطفال أو ربما تناولتها بشكل خجل أو مشوّه وبسيط.
وللأسف إنحازت السينما العربية مؤخراً إلى نشرات الأخبار، والعنف المؤدلج، والسياسي، في تناولها لحكايات الإنسان، فجاءت الأفلام الجديدة صوراً فنية لمشاهد توثيقية للعنف العربي الذي نعيشه من الماء للماء، وفي الحقيقة نحن بحاجة إلى الذهاب بعيداً عنه، ومحاربته بكل الممكنات الجمالية، أكثر من توثيقه وتأصيله في الفن.
فهل علينا أن نواجه هذا القبح والتوحش بتعريته أكثر؟ أم بتقديم نماذج جمالية مضادة تمثل حالة اقتداء واحتماء للوعي المجروح والأرواح المتشظية؟ وكم نحتاج من الوقت لصناعة نماذج جمالية فنية وفكرية تأخذ بيد الإنسان العربي نحو السواء، وتجعله يطمئن إلى أن القبح والشر هما مجرد حالات شاذة في السواء الإنساني الأعم؟
أين نحن اليوم من الفنون التي هي جوهر وجودنا على هذه الأرض؟ أين الثقافة العربية من السينما كفعل تغييري وتنويري، وأين تقف صناعتنا السينمائية من الفن السابع الذي يتقدم اليوم في العالم أجمع بقوة ليصبح الفن الأول، فن الرؤية العظيمة، والتأويلات البعيدة، ليأخذ من الشعر والموسيقا والمسرح مباهجها، ومن الروايات الخالدة أكثر جمالا وعمقا وحساسية ويتقمّصها ويصنعها؟ فأين نحن من ذلك كله، بل أين الفنون البصرية المتداخلة في السينما العربية؟ أين السينما الشعرية؟
أين روح الحكاية العربية، الشعبية والأسطورية التي برعنا فيها طويلاً وكثيراً؟ أين أساطيرنا وتاريخنا وتراثنا الشفهي والسردي العربي؟ أين أبو زيد الهلالي وعنترة بلا عنتريات؟ لِمَ لم ننزل بجماليات سردياتنا العظيمة من صهوة التاريخ إلى حاضر السينما؟ أين ليلى والمجنون وكثير وعزة ؟ لِمَ اتسع السرير، وضاق التفكير؟
وأين الروايات العربية الخالدة، والعالم يحوّل روائع القرن العشرين إلى أفلام، في حين أننا نتجاهل انتاجنا الروائي الكبير والضخم على مر قرون طويلة، ونتركه يتلمس كالأعمى الجوائز الساذجة للحصول على شرعية حضور؟
ولماذا اكتفى صناع السينما العربية باللهاث والتهافت وراء المهرجانات السينمائية العالمية سعياً وراء البريق والشهرة والجوائز؟ لماذا يُتجاهَل الإنسان الذي لا يستطيع حضور المهرجانات، ولكنه يستطيع أن يوفر ثمن شراء فيلم من أقرب بقالة لبيته؟ أو يؤجره من أقرب محل؟ وهو بالتالي لا يريد أن يشاهد بريق المهرجانات الكاذب، والسجادة الحمراء، والأجساد المدهونة بالعسل والمربى، بل يريد أن يرى قصة إنسانية تجلي همومه اليومية، وتسعف أحلامه الصغيرة متجسدة في فيلم، يريد صوت أمه وهي تغني في الحقل والدكان والمطبخ، ورائحة الخبز والشاي تغمر الأرجاء بشعرية عالية، في أقرب دار سينما من بيته أو حتى في البلدة المجاورة نهاية الأسبوع.
وكلنا نريد ذلك، نريد تجسيد واقعنا وحيواتنا عبر الفن أجمل وأصدق معاً، نريد صور الحرب التي تقول لا للحرب، نريد حلولاً تتصاعد بالخيال نحو الجمال، نريد صور الحب الحقيقي، في الحارة والشارع والجامعة، وليس الحب الجاهز أو المصنوع بين ابن الباشا والفتاة الفقيرة، أو بين الفتى العبقري والساذجة الغنية. هذا يكفي، لقد مللنا هذه الترهات، كما مللنا أدوار الموت والخراب وعجرفة العسكر، نريد أن ننتصر في الحكاية.
نريد فتى وسيماً يسحق العسكري المتعجرف ببزته تحت حذائه، ويموت ليحررنا بموته، وينتصر حذاء رجل الشارع على حذاء العسكر، نريد الفتى الاشتراكي يضع عمامة رجل الدين المنافق تحت قدمه وهو يقرأ قصيدة لمحمد الماغوط بعد أن يفحمه بالحجج والبراهين، فنضحك لخجل الثاني، وهو يركض متلبساً بالخزي نحو بيته خائفا وخجلا وبائسا، فنتحرر في الفيلم من عمامة الزيف، وننتصر للشعر. نريد أن يرقص الجميع في آخر الفيلم، بدل أن يموتوا. نريد أن تغني الأمهات مع رائحة القهوة والخبز كلمات محمود درويش بصوت مارسيل خليفة: «أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي». نريد أن ننحاز إلى الجمال في عالمنا، بعيداً عن عقدة الذنب، وتعقيدات الحب، وبعيداً جداً عن تشدد السياسة والدين، والكذب والنفاق اللذين خلفاهما. نريد أن نبكي ونضحك لا حزناً ولا فرحاً، كما قالت فيروز ، كلما شاهدنا فيلماً عربياً يحكينا ويحاكينا. نريد أن نلتحم ببشريتنا، ونصدّر للعالم حقيقتنا التي لم تشوهها السياسة والدين.فهل يتحقق لنا ذلك عبر الفن السابع؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.