«التضامن» تقر إضفاء صفة النفع العام على جمعيتين بمحافظتي الشرقية والإسكندرية    قفزة في سعر الدولار الأمريكي أمام الجنيه في بداية اليوم    عيد ميلاد السيسي ال 71، لحظات فارقة في تاريخ مصر (فيديو)    النزاهة أولًا.. الرئيس يرسخ الثقة فى البرلمان الجديد    سعر الذهب في مصر اليوم الخميس 20 نوفمبر 2025.. استقرار في مستهل التداولات بعد هبوط ملحوظ    السيسي وقرينته يستقبلان رئيس كوريا الجنوبية وحرمه    أسعار الخضروات اليوم الخميس 20 نوفمبر في سوق العبور    لمدة 5 ساعات.. فصل التيار الكهربائي عن 17 قرية وتوابعها بكفر الشيخ اليوم    البنك المركزي يعقد اجتماعه اليوم لبحث سعر الفائدة على الإيداع والإقراض    ترامب يعلن عن لقاء مع زهران ممداني الجمعة في البيت الأبيض    مواجهات قوية في دوري المحترفين المصري اليوم الخميس    شبورة كثيفة تضرب الطرق والزراعية والسريعة.. والأرصاد تحذر من انخفاض مستوى الرؤية    شبورة كثيفة تؤثر على بعض الطرق.. والأرصاد تحذر السائقين من انخفاض الرؤية    موظفة تتهم زميلتها باختطافها فى الجيزة والتحريات تفجر مفاجأة    الاستعلام عن الحالة الصحية لعامل سقط من علو بموقع تحت الإنشاء بالتجمع    شبورة كثيفة وانعدام الرؤية أمام حركة السيارات على طرق القاهرة والجيزة    حالة الطقس في الكويت اليوم الخميس 20 نوفمبر 2025    حلقة نقاشية حول "سرد قصص الغارمات" على الشاشة في أيام القاهرة لصناعة السينما    هولندا: ندعم محاسبة مرتكبى الانتهاكات في السودان وإدراجهم بلائحة العقوبات    وزير الصحة يناقش مستجدات العمل بجميع القطاعات خلال الاجتماع الدوري للقيادات    الصحة بقنا تشدد الرقابة.. جولة ليلية تُفاجئ وحدة مدينة العمال    الفراخ البيضاء اليوم "ببلاش".. خزّن واملى الفريزر    اليوم.. محاكمة المتهمة بتشويه وجه عروس طليقها فى مصر القديمة    سيد إسماعيل ضيف الله: «شغف» تعيد قراءة العلاقة بين الشرق والغرب    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخيرًا بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الخميس 20 نوفمبر 2025    انتهاء الدعاية واستعدادات مكثفة بالمحافظات.. معركة نارية في المرحلة الثانية لانتخابات النواب    دعاء الفجر| اللهم إن كان رزقي في السماء فأنزله    زكريا أبوحرام يكتب: هل يمكن التطوير بلجنة؟    شوقي حامد يكتب: الزمالك يعاني    مستشار ترامب للشئون الأفريقية: أمريكا ملتزمة بإنهاء الصراع في السودان    أدعية الرزق وأفضل الطرق لطلب البركة والتوفيق من الله    سفير فلسطين: الموقف الجزائري من القضية الفلسطينية ثابت ولا يتغير    بيان سعودي حول زيارة محمد بن سلمان إلى الولايات المتحدة    أضرار التدخين على الأطفال وتأثيره الخطير على صحتهم ونموهم    مكايدة في صلاح أم محبة لزميله، تعليق مثير من مبابي عن "ملك إفريقيا" بعد فوز أشرف حكيمي    مصادر تكشف الأسباب الحقيقية لاستقالة محمد سليم من حزب الجبهة الوطنية    محمد أبو الغار: عرض «آخر المعجزات» في مهرجان القاهرة معجزة بعد منعه العام الماضي    أفضل طريقة لعمل العدس الساخن في فصل الشتاء    فلسطين.. قصف مدفعي وإطلاق نار من قوات الاحتلال يستهدف جنوب خان يونس    وردة «داليا».. همسة صامتة في يوم ميلادي    مروة شتلة تحذر: حرمان الأطفال لاتخاذ قرارات مبكرة يضر شخصيتهم    المطربة بوسي أمام المحكمة 3 ديسمبر في قضية الشيكات    إعلام سوري: اشتباكات الرقة إثر هجوم لقوات سوريا الديمقراطية على مواقع الجيش    موسكو تبدي استعدادًا لاستئناف مفاوضات خفض الأسلحة النووي    خالد أبو بكر: محطة الضبعة النووية إنجاز تاريخي لمصر.. فيديو    إطلاق برامج تدريبية متخصصة لقضاة المحكمة الكنسية اللوثرية بالتعاون مع المعهد القضائي الفلسطيني    دوري أبطال أفريقيا.. بعثة ريفرز النيجيري تصل القاهرة لمواجهة بيراميدز| صور    تقرير: بسبب مدربه الجديد.. برشلونة يفكر في قطع إعارة فاتي    ديلي ميل: أرسنال يراقب "مايكل إيسيان" الجديد    "مفتاح" لا يقدر بثمن، مفاجآت بشأن هدية ترامب لكريستيانو رونالدو (صور)    ضمن مبادرة"صَحِّح مفاهيمك".. أوقاف الفيوم تنظم قوافل دعوية حول حُسن الجوار    خالد الغندور: أفشة ينتظر تحديد مستقبله مع الأهلي    لربات البيوت.. يجب ارتداء جوانتى أثناء غسل الصحون لتجنب الفطريات    عصام صاصا عن طليقته: مشوفتش منها غير كل خير    ماييلي: جائزة أفضل لاعب فخر لى ورسالة للشباب لمواصلة العمل الدؤوب    خالد الجندي: الكفر 3 أنواع.. وصاحب الجنتين وقع في الشرك رغم عناده    أهم أحكام الصلاة على الكرسي في المسجد    مواقيت الصلاه اليوم الأربعاء 19نوفمبر 2025 فى المنيا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"آخر أيام المدينة " فيلم عن نهاية القاهرة كمدينة عظيمة
نشر في صوت البلد يوم 07 - 03 - 2016

يمكن القول إن فيلم “آخر أيام المدينة” للمخرج المصري تامر السعيد، هو فيلم عن الغربة كما أنه عن الموت والتدهور والاحتضار، وكأننا نشهد نهاية حضارة كانت قائمة ذات يوم. إنه يجسد حالة التحلل والانهيار، ويلمس تلك الثورة الكامنة في الصدور التي كانت قد تراكمت في 2009 وقت تصوير الفيلم، ولكن الفيلم يبدو أيضا كما لو كان نبوءة بفشل الثورة، بالتراجع إلى ما هو أسوأ من الماضي الذي ثار عليه الثائرون.
إنه باختصار فيلم عن الإحباط على المستويين؛ العام والخاص، وعن سقوط مدينة في براثن الجهل والتخلف والشعوذة والإهمال والهدم.
الشخصية الرئيسية في الفيلم هي شخصية خالد (خالد عبدالله)، وهو مخرج سينمائي شاب (يعادل شخصية المخرج نفسه ويعبر عنه)، وهو شاب أقرب إلى التأمل والصمت إن لم يكن مصابا أيضا بنوع من الاكتئاب، والأسباب كثيرة بالطبع، كلها تنبع من مناخ الإحباط والتخبط والعجز الذي يشعر به الكثير من أبناء الطبقة الوسطى في مصر حاليا.
خالد يصوّر ويخرج فيلما تسجيليا عن أشياء تبدو وكأنها لا ترتبط ببعضها البعض، شأن فيلم تامر السعيد نفسه، الذي يبدو أيضا كما لو كان يعاني من مشاكل في السرد والبناء، لكن هذا البناء الذي يبدو ظاهريا مفككا وعشوائيا، مقصود تماما، لكي يصبح انعكاسا لحالة المدينة نفسها التي تُعتبر البطل الأول في الفيلم، القاهرة التي تعاني من الزحام والفوضى المرعبة والتدهور وسيادة مظاهر ناشئة حديثا فرضت نفسها وأصبحت طاغية على البشر، مما أدّى إلى تراجعها عن الحداثة والازدهار السابق.
المربع السحري
لا يكاد الفيلم يغادر منطقة وسط القاهرة، تلك المنطقة التي أطلق عليها الكاتب الأميركي ماكس روزنبك “المربع السحري”، وهو الذي عاش فيها طوال عمره وكتب عنها كتابه البديع “القاهرة المنتصرة” راصدا فيه تاريخها، تألقها وتطورها، ثم نموها الوحشي، ثم تدهورها، غير أن مستوى التدهور الذي يرصده تامر السعيد في فيلمه يتجاوز كثيرا ما رصده روزنبك في كتابه الذي صدر قبل أكثر من ستة عشر عاما.
إننا في زمن الهدم والانهيار والتسلط والقهر والقبح وتراجع القيمة، وهذه الحالة المركبة هي التي يعبر عنها الفيلم، لكنه لا يلجأ إلى المباشرة، ولا إلى الدراما التقليدية في رسم شخصياته وأحداثه إذا جاز القول بأن هناك أحداثا، بل يكتفي بالرصد والمراقبة والتوثيق، مع قدر من الارتجال في الأداء أمام الكاميرا لإضفاء الواقعية من خلال الأسلوب شبه التسجيلي/ شبه الروائي، حيث يحاول أن يصنع من بعض النثرات المتفرقة، والشخصيات الحزينة التي يحبسها دائما في لقطات “الكلوز آب”، طريقا لرحلة تبدو وكأنها رحلة إلى نهاية العالم، فالقاهرة هنا هي عالم بأسره، بأبطاله وصعاليكه ومشرديه ومثقفيه، بل وحتى بتظاهراتهم الغاضبة.
لا يستطيع خالد أن يكمل فيلمه، ولا يشعر بالرضا عما أنجزه، فدائما هناك شيء ناقص مازال يبحث عنه. وهو في حياته اليومية مشغول بالبحث عن مسكن آخر ينتقل إليه بعد أن منحه صاحب المسكن الذي يقيم فيه مهلة قصيرة للمغادرة، وهو يقضي يوميا وقتا طويلا مع سمسار في البحث عن شقة مناسبة، لكنه لا يعثر عليها أبدا، ولا يعرف ماذا سيحدث له؟ ويصل بالتالي إلى الإحساس باليأس، لكنه مع ذلك يصرّ على الاستمرار في التصوير، وكأنه يخشى أن تفوته لقطة من لقطات مشهد السقوط العظيم.
ترقد أم خالد في المستشفى مريضة مشرفة على الموت، وتشعر حبيبته ليلى بالاختناق في المدينة، تريد أن تهرب إلى الخارج لتتخلص من ذلك الشعور الدائم بعدم التحقق والعجز عن ممارسة الحب، أما حنان التي تدير ورشة للتمثيل فإنها تهرب إلى “نوستالجيا” الحنين، إلى الإسكندرية التي عرفتها في طفولتها والتي ربما لم يعد لها وجود الآن أيضا.
وتنتشر على المستوى العام مظاهر اللوثة الدينية، التي ضربت قطاعات كبيرة من الطبقات الشعبية والمتوسطة، وصبغت وجه الثقافة العامة السائدة التي يمكن أن تلمحها في لافتة، أو عبر أصوات عالية مزعجة تصدر من المساجد، أو تجمعات همجية لأناس يرتدون أزياء تنتمي إلى العصور الوسطى الغابرة، لقد تغيرت ملامح القاهرة التي عُرفت في الماضي القريب، كمدينة كوسموبوليتية عصرية، فأصبحت اليوم أقرب إلى ما أطلق عليه عبدالرحمن المنيف “مدن الملح”.
يرصد الفيلم كل مظاهر التدهور بنظرة حزينة، ولكنه في الوقت نفسه، يرصد بدايات حركة الوعي التي تمثلت في مظاهرات حركة كفاية التي عبرت بقوة عن رفض ممارسات نظام الرئيس مبارك، ويعيد تامر السعيد تجسيد المواجهات مع رجال الشرطة التي تستخدم كل وسائلها لقمع تلك المظاهرات، كما يصوّر حالة الاضطراب العام، وموجات الهدم؛ هدم المنازل القديمة التاريخية الذي نراه في مشهد وحشي، وعمال الهدم يضربون بمعاولهم فيسقطون الجدران والشرفات والأسقف أمام الكاميرا في لقطة طويلة ثابتة.
إنهم يغتالون التاريخ نفسه في ضراوة وعنف، وتنتهي اللقطة والأتربة تغطي الشاشة وتكاد تخترق عيوننا.
في مناقشة تجمع خالد بثلاثة من المثقفين الشباب العرب؛ منهم اثنان من العراق، هما حيدر حلو الذي يقيم في بغداد، وباسم حجار الذي ترك العراق ويقيم في برلين، والمصور السينمائي اللبناني باسم فياض، حيث يجسد تامر السعيد علاقة المثقف بمدينته، علاقة الحب التي تربطه بمدينته، بذكرياته الحميمية فيها، بعلاقاته التي لا يستطيع الانسلاخ عنها، وفي الوقت نفسه، الشعور بالإحباط مما حدث لها من تدهور.
الواضح أن الثلاثة كانوا مدعوين للمشاركة في ندوة ثقافية، وهم يتجادلون طويلا ويعقدون المقارنات بين المدن الثلاث، التي أصبحت مدنا ملعونة؛ المصور اللبناني مثلا يرى أن بيروت أصبحت تستعصي على التصوير، بينما يدافع حيدر حلو عن فكرة البقاء في بغداد رغم كل ما حدث لها فهي بالنسبة له كالقدر، أو كالأم التي يمكنه أن يلعنها أحيانا، لكنه لا يستغني أبدا عنها، أما باسم حجار فيصف شعوره بالغربة عن برلين حقا، ولكنها أيضا تمنحه الأمان.
يعيب مشهد حوار المثقفين رغم أهميته، الإسهاب والإطالة، خاصة وأن خالد لا يبدو متفاعلا مع الآخرين كما ينبغي، فهو دائما ساهم ومكتئب، غير متداخل، يراقب ويسجل ويصوّر وينقب، ويبدو كأنه يصوّر مشهدا من فيلمه أبطاله هم أصدقاؤه الثلاثة.
المدينة العربية
ينتقل تامر السعيد في مشاهد قصيرة إلى كل من بغداد وبيروت، يأسى لحال المدن العربية وما وصلت إليه من تدهور، وعلى شريط الصوت خلال تحرك خالد في سيارة التاكسي بصعوبة بالغة في شوارع وسط القاهرة، لا يكف المذياع عن بث الأخبار التي تتصدرها بالطبع أخبار الرئيس مبارك واستقبالاته واحتفالاته وما يقوم به ابنه جمال في مجال كرة القدم، والكثير من الأنباء حول النزاع الذي انفجر بين مصر والجزائر بسبب مباراة في كرة القدم عام 2009، كما تتوالى أنباء الانفجارات في بغداد وبيروت، وعندما يحاول خالد في مشهد تال الاتصال بحيدر في بغداد لا يتلقى ردا فيزداد شعوره بالقلق.
يستخدم تامر السعيد الكاميرا المتحركة الحرة التي تستطيع الانتقال في الأماكن المزدحمة والشوارع المليئة بالبشر، والتسلل بين الحوانيت والسيارات المتراصة التي تتحرك بصعوبة بالغة في شوارع وسط القاهرة، والكاميرا المحمولة المهتزة تحقق طابع الواقعية التسجيلية، وتعكس الواقع المهتز المهترئ الموشك على الانهيار، والمخرج يركز الكاميرا طويلا على الوجوه في لقطات قريبة، معظمها يظهر أجزاء من الوجوه، من زوايا سفلية، مما يؤدي إلى كسر التكوين التقليدي للقطات، وخلق جماليات خاصة للصورة ترتبط بحالة غياب اليقين التي يصورها في فيلمه.
إننا نشعر خلال مشاهدة الفيلم بأن القاهرة لم تعد تتحرك، بل أصبحت في انتظار وقوع انفجار كبير يطيح بذلك الركام الهائل من التدهور، ويزرع برعما لحياة أخرى جديدة، وربما نشعر أيضا أنها أصبحت بسبب الإهمال والشيخوخة والعجز والتدهور، تسير إلى مصيرها، ومن هنا يأتي اسم الفيلم “آخر أيام المدينة”.
خالد ليس مثل المدينة التي يصورها فهو لا يستسلم، بل يصرّ على المضي قدما في التصوير رغم غياب خطة واضحة لديه بخصوص ما يريده بالضبط من فيلمه، إنه يشتغل ويبدو كأنه يريد تسجيل تلك اللحظات الفارقة في تاريخ المدينة التي دمرها الأغبياء، قبل أن تشهد سقوطها النهائي.
وفي لحظة ما يقول له المونتير الذي يعمل معه إنه لم يعد يفهم العلاقة بين كل هذه الشخصيات والمشاهد التي يصورها، لكن هذه الحالة من العجز والتشتت وعدم الاكتمال وغياب الرؤية، هي تحديدا الحالة التي يريد تامر السعيد أن ينقلها إلينا في فيلمه. لا شك أنه نجح وأبدع.
يمكن القول إن فيلم “آخر أيام المدينة” للمخرج المصري تامر السعيد، هو فيلم عن الغربة كما أنه عن الموت والتدهور والاحتضار، وكأننا نشهد نهاية حضارة كانت قائمة ذات يوم. إنه يجسد حالة التحلل والانهيار، ويلمس تلك الثورة الكامنة في الصدور التي كانت قد تراكمت في 2009 وقت تصوير الفيلم، ولكن الفيلم يبدو أيضا كما لو كان نبوءة بفشل الثورة، بالتراجع إلى ما هو أسوأ من الماضي الذي ثار عليه الثائرون.
إنه باختصار فيلم عن الإحباط على المستويين؛ العام والخاص، وعن سقوط مدينة في براثن الجهل والتخلف والشعوذة والإهمال والهدم.
الشخصية الرئيسية في الفيلم هي شخصية خالد (خالد عبدالله)، وهو مخرج سينمائي شاب (يعادل شخصية المخرج نفسه ويعبر عنه)، وهو شاب أقرب إلى التأمل والصمت إن لم يكن مصابا أيضا بنوع من الاكتئاب، والأسباب كثيرة بالطبع، كلها تنبع من مناخ الإحباط والتخبط والعجز الذي يشعر به الكثير من أبناء الطبقة الوسطى في مصر حاليا.
خالد يصوّر ويخرج فيلما تسجيليا عن أشياء تبدو وكأنها لا ترتبط ببعضها البعض، شأن فيلم تامر السعيد نفسه، الذي يبدو أيضا كما لو كان يعاني من مشاكل في السرد والبناء، لكن هذا البناء الذي يبدو ظاهريا مفككا وعشوائيا، مقصود تماما، لكي يصبح انعكاسا لحالة المدينة نفسها التي تُعتبر البطل الأول في الفيلم، القاهرة التي تعاني من الزحام والفوضى المرعبة والتدهور وسيادة مظاهر ناشئة حديثا فرضت نفسها وأصبحت طاغية على البشر، مما أدّى إلى تراجعها عن الحداثة والازدهار السابق.
المربع السحري
لا يكاد الفيلم يغادر منطقة وسط القاهرة، تلك المنطقة التي أطلق عليها الكاتب الأميركي ماكس روزنبك “المربع السحري”، وهو الذي عاش فيها طوال عمره وكتب عنها كتابه البديع “القاهرة المنتصرة” راصدا فيه تاريخها، تألقها وتطورها، ثم نموها الوحشي، ثم تدهورها، غير أن مستوى التدهور الذي يرصده تامر السعيد في فيلمه يتجاوز كثيرا ما رصده روزنبك في كتابه الذي صدر قبل أكثر من ستة عشر عاما.
إننا في زمن الهدم والانهيار والتسلط والقهر والقبح وتراجع القيمة، وهذه الحالة المركبة هي التي يعبر عنها الفيلم، لكنه لا يلجأ إلى المباشرة، ولا إلى الدراما التقليدية في رسم شخصياته وأحداثه إذا جاز القول بأن هناك أحداثا، بل يكتفي بالرصد والمراقبة والتوثيق، مع قدر من الارتجال في الأداء أمام الكاميرا لإضفاء الواقعية من خلال الأسلوب شبه التسجيلي/ شبه الروائي، حيث يحاول أن يصنع من بعض النثرات المتفرقة، والشخصيات الحزينة التي يحبسها دائما في لقطات “الكلوز آب”، طريقا لرحلة تبدو وكأنها رحلة إلى نهاية العالم، فالقاهرة هنا هي عالم بأسره، بأبطاله وصعاليكه ومشرديه ومثقفيه، بل وحتى بتظاهراتهم الغاضبة.
لا يستطيع خالد أن يكمل فيلمه، ولا يشعر بالرضا عما أنجزه، فدائما هناك شيء ناقص مازال يبحث عنه. وهو في حياته اليومية مشغول بالبحث عن مسكن آخر ينتقل إليه بعد أن منحه صاحب المسكن الذي يقيم فيه مهلة قصيرة للمغادرة، وهو يقضي يوميا وقتا طويلا مع سمسار في البحث عن شقة مناسبة، لكنه لا يعثر عليها أبدا، ولا يعرف ماذا سيحدث له؟ ويصل بالتالي إلى الإحساس باليأس، لكنه مع ذلك يصرّ على الاستمرار في التصوير، وكأنه يخشى أن تفوته لقطة من لقطات مشهد السقوط العظيم.
ترقد أم خالد في المستشفى مريضة مشرفة على الموت، وتشعر حبيبته ليلى بالاختناق في المدينة، تريد أن تهرب إلى الخارج لتتخلص من ذلك الشعور الدائم بعدم التحقق والعجز عن ممارسة الحب، أما حنان التي تدير ورشة للتمثيل فإنها تهرب إلى “نوستالجيا” الحنين، إلى الإسكندرية التي عرفتها في طفولتها والتي ربما لم يعد لها وجود الآن أيضا.
وتنتشر على المستوى العام مظاهر اللوثة الدينية، التي ضربت قطاعات كبيرة من الطبقات الشعبية والمتوسطة، وصبغت وجه الثقافة العامة السائدة التي يمكن أن تلمحها في لافتة، أو عبر أصوات عالية مزعجة تصدر من المساجد، أو تجمعات همجية لأناس يرتدون أزياء تنتمي إلى العصور الوسطى الغابرة، لقد تغيرت ملامح القاهرة التي عُرفت في الماضي القريب، كمدينة كوسموبوليتية عصرية، فأصبحت اليوم أقرب إلى ما أطلق عليه عبدالرحمن المنيف “مدن الملح”.
يرصد الفيلم كل مظاهر التدهور بنظرة حزينة، ولكنه في الوقت نفسه، يرصد بدايات حركة الوعي التي تمثلت في مظاهرات حركة كفاية التي عبرت بقوة عن رفض ممارسات نظام الرئيس مبارك، ويعيد تامر السعيد تجسيد المواجهات مع رجال الشرطة التي تستخدم كل وسائلها لقمع تلك المظاهرات، كما يصوّر حالة الاضطراب العام، وموجات الهدم؛ هدم المنازل القديمة التاريخية الذي نراه في مشهد وحشي، وعمال الهدم يضربون بمعاولهم فيسقطون الجدران والشرفات والأسقف أمام الكاميرا في لقطة طويلة ثابتة.
إنهم يغتالون التاريخ نفسه في ضراوة وعنف، وتنتهي اللقطة والأتربة تغطي الشاشة وتكاد تخترق عيوننا.
في مناقشة تجمع خالد بثلاثة من المثقفين الشباب العرب؛ منهم اثنان من العراق، هما حيدر حلو الذي يقيم في بغداد، وباسم حجار الذي ترك العراق ويقيم في برلين، والمصور السينمائي اللبناني باسم فياض، حيث يجسد تامر السعيد علاقة المثقف بمدينته، علاقة الحب التي تربطه بمدينته، بذكرياته الحميمية فيها، بعلاقاته التي لا يستطيع الانسلاخ عنها، وفي الوقت نفسه، الشعور بالإحباط مما حدث لها من تدهور.
الواضح أن الثلاثة كانوا مدعوين للمشاركة في ندوة ثقافية، وهم يتجادلون طويلا ويعقدون المقارنات بين المدن الثلاث، التي أصبحت مدنا ملعونة؛ المصور اللبناني مثلا يرى أن بيروت أصبحت تستعصي على التصوير، بينما يدافع حيدر حلو عن فكرة البقاء في بغداد رغم كل ما حدث لها فهي بالنسبة له كالقدر، أو كالأم التي يمكنه أن يلعنها أحيانا، لكنه لا يستغني أبدا عنها، أما باسم حجار فيصف شعوره بالغربة عن برلين حقا، ولكنها أيضا تمنحه الأمان.
يعيب مشهد حوار المثقفين رغم أهميته، الإسهاب والإطالة، خاصة وأن خالد لا يبدو متفاعلا مع الآخرين كما ينبغي، فهو دائما ساهم ومكتئب، غير متداخل، يراقب ويسجل ويصوّر وينقب، ويبدو كأنه يصوّر مشهدا من فيلمه أبطاله هم أصدقاؤه الثلاثة.
المدينة العربية
ينتقل تامر السعيد في مشاهد قصيرة إلى كل من بغداد وبيروت، يأسى لحال المدن العربية وما وصلت إليه من تدهور، وعلى شريط الصوت خلال تحرك خالد في سيارة التاكسي بصعوبة بالغة في شوارع وسط القاهرة، لا يكف المذياع عن بث الأخبار التي تتصدرها بالطبع أخبار الرئيس مبارك واستقبالاته واحتفالاته وما يقوم به ابنه جمال في مجال كرة القدم، والكثير من الأنباء حول النزاع الذي انفجر بين مصر والجزائر بسبب مباراة في كرة القدم عام 2009، كما تتوالى أنباء الانفجارات في بغداد وبيروت، وعندما يحاول خالد في مشهد تال الاتصال بحيدر في بغداد لا يتلقى ردا فيزداد شعوره بالقلق.
يستخدم تامر السعيد الكاميرا المتحركة الحرة التي تستطيع الانتقال في الأماكن المزدحمة والشوارع المليئة بالبشر، والتسلل بين الحوانيت والسيارات المتراصة التي تتحرك بصعوبة بالغة في شوارع وسط القاهرة، والكاميرا المحمولة المهتزة تحقق طابع الواقعية التسجيلية، وتعكس الواقع المهتز المهترئ الموشك على الانهيار، والمخرج يركز الكاميرا طويلا على الوجوه في لقطات قريبة، معظمها يظهر أجزاء من الوجوه، من زوايا سفلية، مما يؤدي إلى كسر التكوين التقليدي للقطات، وخلق جماليات خاصة للصورة ترتبط بحالة غياب اليقين التي يصورها في فيلمه.
إننا نشعر خلال مشاهدة الفيلم بأن القاهرة لم تعد تتحرك، بل أصبحت في انتظار وقوع انفجار كبير يطيح بذلك الركام الهائل من التدهور، ويزرع برعما لحياة أخرى جديدة، وربما نشعر أيضا أنها أصبحت بسبب الإهمال والشيخوخة والعجز والتدهور، تسير إلى مصيرها، ومن هنا يأتي اسم الفيلم “آخر أيام المدينة”.
خالد ليس مثل المدينة التي يصورها فهو لا يستسلم، بل يصرّ على المضي قدما في التصوير رغم غياب خطة واضحة لديه بخصوص ما يريده بالضبط من فيلمه، إنه يشتغل ويبدو كأنه يريد تسجيل تلك اللحظات الفارقة في تاريخ المدينة التي دمرها الأغبياء، قبل أن تشهد سقوطها النهائي.
وفي لحظة ما يقول له المونتير الذي يعمل معه إنه لم يعد يفهم العلاقة بين كل هذه الشخصيات والمشاهد التي يصورها، لكن هذه الحالة من العجز والتشتت وعدم الاكتمال وغياب الرؤية، هي تحديدا الحالة التي يريد تامر السعيد أن ينقلها إلينا في فيلمه. لا شك أنه نجح وأبدع.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.