مؤلف كتاب "هوية الثقافة العربية" هو أستاذ علم الأنثروبولوجيا الراحل د. أحمد أبو زيد، حيث قام بالتدريس منذ عام 1957 في الجامعات المصرية، وعمل خبيراً بمنظمة العمل الدولية، أسس مجلة "مطالعات في العلوم الاجتماعية" (اليونسكو) ومجلة "عالم الفكر" الكويتية، ومن مؤلفاته: "البناء الاجتماعي مدخل لدراسة المجتمع"، الذي قسّمه إلى قسمين "المفهومات" و"الإنسان"، وقد رحل عن عالمنا وترك ثروة فكرية مازالت تضيء بحوثنا ودراستنا في مجال الأنثروبولوجيا، وفي هذا الكتاب يكشف لنا عن طبيعة الثقافة العربية ومؤثراتها، وكيف تمتزج الثقافة العربية بتاريخ الشعوب وحضارتها؟. في هذا الكتاب "هوية الثقافة العربية" - صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، ويقع في 408 صفحة- يتناول المؤلف مفهوم الثقافة وطبيعتها، فيقول: لم يختلف علماء الأنثروبولوجيا حول مصطلح من المصطلحات بقدر اختلافهم حول (الثقافة)، فقد كثُرت التفسيرات والتأويلات وتعددت أساليب استخدامه في مُختلف المجالات، بحيث أصبح من الصعب على العلماء الاتفاق على تعريف واحد يكون مقبولاً منهم جميعاً، وقد يكون التعريف الذي وضعه منذ أكثر من قرن عالم الأنثروبولوجيا البريطاني الشهير "سير إدوارد بيرنت تايلور" في كتابه "الثقافة البدائية" أفضل ما بأيدينا من تعريفات نظراً لبساطته، ولأنه يكشف عن مدى اتساع المفهوم والمجالات التي يحيط بها، فهو يقول في مطلع ذلك الكتاب: "الثقافة - أو الحضارة - بمعناها الإثنوجرافي الواسع، هي ذلك الشكل المركب الذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفن والأخلاق والقانون، وكل المقدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان من حيث هو عضو في مجتمع". الثقافة الإبداعية ويتناول المؤلف الثقافة الإبداعية والفنية في العالم العربي المعاصر، خاصةً وأن الثقافة الإبداعية لا تكتسب في العادة من التعليم الرسمي أو المنظم، الذي يتلقاه الفرد في مراحل التعليم العام أو الجامعي، وإنما يكتسب الفرد هذه الثقافة الإبداعية ويتعرفها من خلال عملية التنشئة الاجتماعية التي تتولاها (مؤسسات) اجتماعية غير معاهد التعليم، مثل العائلة أو بعض أجهزة الثقافة والإعلام. ويرى الكاتب أنه من الضروري الاعتراف بأن بعض الأوضاع والأفكار والاتجاهات القائمة في العالم العربي، كانت ولا تزال إلى حد كبير تحد من انطلاق حركة الإبداع في كثير من المجالات، وتضع قيوداً شديدة على تطور الثقافة الإبداعية وتقدمها، ومن هذه المعوقات: البيت العربي الذي لا يكاد يساهم في التعريف بالثقافة الإبداعية، فضلاً عن أنه لا يعمل على تربية الذوق الفني والأدبي، والواقع أن المجتمع العربي - ككل - لا يعطي الثقافة الإبداعية من العناية والاهتمام القدر الكافي، ولا يبدي نحوها من الرعاية والاحترام ما يعطيه أو ما يبديه له نحو الأعمال الفكرية الخالصة أو الأعمال العلمية. الثقافة الشعبية يشير المؤلف إلى الثقافة الشعبية بين التعددية اللغوية والتنوّع الثقافي، قائلاً: تخضع مفردات الثقافة الشعبية العربية لكثير من القراءات والتفسيرات، التي تعتمد في معظم الأحيان على المعرفة بالتاريخ الحقيقي أو الواقعي للأحداث، التي تسجلها هذه المفردات أو الأعمال، واختلاف التفسيرات وتعددها مؤشر على مدى ثراء الثقافة الشعبية. ويرى أن الثقافة الشعبية الشفاهية تنتشر من مجتمع لآخر داخل الدائرة الثقافية العربية من خلال الحكاية أو القص والسرد، وما يرتبط به من تواصُل مُباشر وتجاوب بين الأطراف المشاركة في هذه العملية، وانتشار الثقافة الشعبية لا يعني فقط انتشار المعرفة بأحداث العمل الثقافي الشفاهي، إنما يُصاحبه انتشار المعرفة بالعادات والتقاليد والقيم والسلوكيات المرتبطة بتلك الأحداث، بل ومعرفة اللهجات المختلفة التي يتم عن طريقها سرد هذه الأحداث والصور الذهنية، التي يتم التعبير عنها في ألفاظ وكلمات ومصطلحات تنتمي إلى تلك اللهجات؛ مما يُساعد على خلق مزيد من التقارب الناشئ عن اتساع مجال المعرفة وتنوّعها، وفهم وتقدير واحترام أنماط التفكير السائدة في المجتمعات الوطنية، والجماعات المحلية الأخرى داخل هذه الدائرة الثقافية العربية المتمايزة. التخطيط الثقافي ويرى الكاتب أن أيه مُحاولة جادة للتخطيط الثقافي وتحوير وسائل هذا التخطيط، لابد من أن تأخذ في الاعتبار عدداً من الأمور التي تكاد تكون مُسلمات، منها ضرورة اعتبار التخطيط الثقافي جزءاً من عمليات وخطط التنمية الشاملة، وأن (الثقافة) تتعدى حدود المفهوم (الرسم) الضيق للكلمة أو المعنى الشائع لدى عامة الناس، وتتجاوزه إلى المفهوم الأنثروبولوجي الواسع الذي يشمل مُختلف فروع المعرفة والممارسات التي تعتمد على الخلق والإبداع. كما أن الثقافة لا توجد من فراغ، وإنما ترتبط بكل النظم والأنساق السائدة في المجتمع، فإنها لا تزال بمعزل عن غيرها من الثقافات، وأيضاً التخطيط الشامل للثقافة العربية يجب أن يمتد إلى الثقافات الفرعية التي ترتبط بالجماعات العرقية، أو بالأقليات السكانية ذات الثقافات المتميّزة داخل الوطن العربي، كما هو الحال مثلاً بالنسبة لثقافة البربر في شمال إفريقيا أو ثقافة النوبيين في مصر، فهذه كلها ثقافات لها جذور ضاربة في التاريخ، ولا يمكن التغاضي عنها أو التهوين من شأنها، كما أنها تصب في آخر الأمر في نهر الثقافة العربية الشاملة وتزيدها ثراءً. ويجب أن يكون التخطيط الثقافي يهدف إلى المحافظة على مقومات الذاتية أو الهوية الثقافية العربية، والدفاع عنها ضد المخاطر الثقافية التي تهددها من الخارج، وتقديم تصوّر لما يمكن أن تتطور إليه الثقافة العربية في المستقبل، مع إبراز الدور الذي يمكن أن تلعبه الثقافة كقوة دافعة لتغيير الفرد والمجتمع، أي إمكان تسخير الثقافة لخلق مجتمع جديد يتماشى بالضرورة مع هذه الثقافة في خطوطها الجديدة.