د. نهاد صليحة في دراستها لمذكرات المطربة المسرحية المغمورة "فاطمة سري" وذلك في أحدث كتبها "المرأة بين الفن والعشق والزواج "حيث قدمت عنها رؤية خاصة سهلة الإدراك تثير الوعي وتكشف وقائع في حياة هذه المطربة المغمورة ومكانة المرأة خلال هذه الفترة. ففي الدراسة التي تشغل ما يقرب من ثلث الكتاب اختارت د•نهاد أن تنقب في حياة فاطمة سري ، تلك الفنانة التي لم تقبل بالرشوة عندما ساومها ابن الأثرياء وعائلته، لم تلتزم الصمت ولم تكتف باللجوء إلي القضاء بل أتت فعلا في حلقات أسبوعية بمجلة المسرح عام 1926 علي مدار خمسة أشهر إبان النظر في القضية.. وتعكس الدراسة صورة هدي شعراوي رائدة تحرير المرأة والتي ظلت لسنوات تُنادي بضرورة الاعتراف بالأبناء غير الشرعيين وهي تقف مكتوفة الأيدي أمام ابنها عندما صارت له طفلة غير شرعية. تعترف الباحثة بيقينها في استحالة التأكد من صدق ما جاء في المذكرات بأدلة أو قرائن بسبب صمت كل أبطال القصة، باستثناء "فاطمة سري"، وعزوفهم التام عن الإشارة إليها من قريب أو بعيد كما فعلت "هدي شعراوي" في مذكراتها، وبسبب اندثار معظم الوثائق القليلة المتعلقة بالموضوع وموت معظم من عاصروها من الكتاب والصحفيين أو أقارب أبطال القصة وأصدقائها.. حتي من بقي منهم علي قيد الحياة رفض الخوض في الموضوع إما لأسباب عائلية أو بدافع من الوفاء لذكري العائلة. تعتمد الدراسة علي تشريح السياق الحضاري الذي جرت فيه الأحداث، بحثا عن الدلالات في أقوال "فاطمة سري" حيث ترجح "صليحة" أن المذكرات جاءت في إطار حملة دعائية صاحبت عودة "فاطمة سري" إلي عملها بالمسرح بعد انقطاعها عنه بسبب زواجها السري من "محمد بك شعراوي". وبالرغم من تأكيد د. "صليحة" أن المال لم يكن الدافع الحقيقي أو الرئيسي وراء استماتة فاطمة سري في إثبات بنوة ابنتها ل"محمد بك شعراوي" فإنها كانت حريصة عليه وليست علي استعداد للفضيحة بالمال من أجل الفن ويثبت ذلك: رفضها للمساومات المالية المغرية والزواج من رجل آخر ينسب إليه الطفلة مقابل التنازل عن القضية، كل هذا فسرته الباحثة علي أنه دليل حرصها علي حقوق ابنتها في مكانة أبيها الاجتماعية وثروته، حتي لو كلفها ذلك حرمانها من ابنتها. وتستند الدراسة إلي خلخلة الخطاب الثقافي السائد والفكر السلطوي، حيث تجتهد الباحثة في تفسير النص من جميع زواياه، في محاولة للتثبت من صحة الوقائع أو دوافعها أو مبرراتها. ثم تكشف في نهاية الدراسة مجموعة من المفارقات والمتناقضات العنيفة التي شكلت وضعية المرأة عامة والممثلة خاصة في العشرينيات من القرن الماضي فقد كانت فاطمة سري امرأة تعمل في الفن لكنها في دخيلة نفسها كانت تراه مهنة منحطة. لأن المجتمع من حولها ظل لا يكن لها الاحترام بسبب امتهانها هذه المهنة. وتذكر "صليحة" فنماذج أخري لفنانات نساء من رائدات المسرح المصري، مثل أمينة رزق وفاطمة رشدي وروز اليوسف وغيرهن اللائي احترمن فنهن ولم يستسلمن للأفكار المسيطرة علي المجتمع فتحررن من النظرة الشيزوفرينية إلي المسرح بفضل تلك المناعة التي تكسبها الثقافة للفنان وبفضل المرشد الثقافي والمعلم الذي كان يبصرهن بقيمة الفن وهدفه ورسالته مثل "عزيز عيد" أو "يوسف وهبي". وتؤكد د. نهاد أن رغبة "سري" العارمة في إبعاد ابنتها عن حرفة الفن وحياة الممثلين-وهي نظرة تتسم بالازدواجية والتناقض وتجمع بين الانبهار والولع من ناحية وبين الاحتقار والنفور من ناحية أخري-كان ذلك دافعا قويا لسعيها لاثبات نسب ابنتها. ويتضح من ذلك أن تلك المذكرات، لا تمثل الحقيقة بقدر ما تمثل قراءة صاحبتها للأحداث وتفسيرها لها وفق مجموعة من المفاهيم والفرضيات التي تحدد ما يقال وما يجب السكوت عنه، نجحت "صليحة" في قراءة ظروف عصر ونظرة المجتمع للفن وللمرأة، نجحت في تأكيد الترابط الوثيق بين السيرة الذاتية والوثيقة التاريخية، وقدمت ذلك من خلال كتابها "المرأة بين الفن والعشق والزواج" الذي يشكل إضافة حقيقية في مكتبة المسرح العربي.