في كادر الصورة، بعض العامة يحملون كتابا محترقا صار مصيره الأرض، يسيرون على أرض المبنى العريق الذي شوهه الاحتراق، يقلبون كُتبا التهمتها النيران، وتبدو عليهم الحيرة والذهول أمام ما حدث. رجل خمسيني يصرخ "أين شرفاء مصر؟ والله مصر فيها ناس شرفاء"، فيما شابة ثلاثينية تعبر عن وجهة نظرها بحريق المجمع العلمي قائلة: "نزعل على حريق المبنى ولا على أرواح الشهدا اللي راحوا". أما الجهات الأمنية فتؤكد وجود عمليات نهب وسرقة لكتب التراث المصري الموجودة بالمبنى الذي تم إحراقه، كما تم رصد إحدى السيارات كانت تسرق الكتب والمخطوطات التي تم إنقاذها بعد حريق مبنى المجمع العلمي. في 26 يناير من العام 1952 شب حريق هائل في عدة منشأت في مدينة القاهرة، وفي خلال ساعات قلائل التهمت النار نحو 700 محل وسينما وكازينو وفندق ومكتب ونادٍ في شوارع وميادين وسط المدينة؛ تحولت إلى رماد أكبر وأشهر المحلات التجارية في مصر مثل شيكوريل وعمر أفندي وصالون فيردي،بالإضافة إلى 30 مكتبًا لشركات كبرى، و 117 مكتب أعمال وشققا سكنية، و 13 فندقًا كبيرًا منها: شبرد ومتروبوليتان وفيكتوريا. وتفيد المصادر التاريخية أن الحادث كان مدبرًا وأن المجموعات التي قامت بتنفيذه كانت على مستوى عالٍ من التدريب والمهارة، فقد اتضح أنهم كانوا على معرفة جيدة بأسرع الوسائل لإشعال الحرائق، وأنهم كانوا على درجة عالية من الدقة والسرعة في تنفيذ العمليات التي كلفوا بها، كما كانوا يحملون معهم أدوات لفتح الأبواب المغلقة ومواقد إستيلين لصهر الحواجز الصلبة على النوافذ والأبواب. وفي الثامن عشر من ديسمبر عام،2011 وفي سابقة تُعتبر تاريخية منذ عام 1952 تسببت أحداث العنف التي شهدتها القاهرة، بين قوات الأمن والمتظاهرين في احتراق مبنى أعرق المؤسسات العلمية في مصر والعالم؛ وهو المجمع العلمي المصري بعد إلقاء أشخاص مجهولون قنابل مولوتوف عليه لتلتهم النيران محتوياته بالكامل. إنها مأساة تاريخية كبرى توازي كارثة حريق القاهرة فى يناير 1952، فالمبنى المحترق ليس سينما، ولا مطعم، ولا مبنى عادي ولكنه تاريخ أمة وتراث وطن. وأمام عبارة " تلتهم النيران محتوياته بالكامل" نضع الكثير من الخطوط الحمراء. فالنيران تمكنت من الإشتعال بسرعة، وحرق المبنى بكل ما فيه من وثائق مهمة، ثم يخرج د. محمد الشرنوبي أمين عام المجمع ليقول : إن الحريق أتلف كل محتويات المجمع الذي يضم كل المؤلفات والمقتنيات منذ عام 1798 حتى اليوم، مضيفا أن هذا المبنى الأثري يضم حوالي 200 ألف كتاب واحتراقه بهذا الشكل يعني أن جزءا كبيرا من تاريخ مصر انتهى. وعبر شاشات التلفزيون، وعبر ما ذكره الشهود العيان أن الدخان الكثيف انتشر أعلى المبنى فيما حاولت قوات الإطفاء السيطرة على الحريق وإخماده غير أن أشخاصا مجهولين واصلوا إلقاء الحجارة على قوات الإطفاء وقوات الجيش المتواجدة في شارع الشيخ ريحان.. يحق لنا هنا التساؤل كيف لم يطالب د. الشرنوبي بحماية المجمع العلمي حماية تؤمنه من الحرائق والزلازل، وغيرها من الكوارث المتوقعة في أي وقت؟ كيف ظلت هذه الكتب والمخطوطات متروكة طوال هذه السنوات دون أي حماية كافية أو وسيلة حفظ تليق بقيمتها التاريخية؟ وهل من المنطقي أن تُترك مثل هذه الكتب التي تحفظ تاريخ مصر على رفوف كتب عادية، بحيث يطالها أي أذى؟ ولماذا يحرق هذا المبنى تحديدا؟ كيف لم تتمكن الشرطة والجيش والمطافئ من انقاذه، مع العلم أن مبنى المطافئ على بعد أمتار قليلة من موقع الحريق،في حين تمكن الجيش من حماية سائر المباني الحكومية! ولم تم التعامل مع هذا المبنى بدرجة أهمية اقل من مبنى مجلس الوزراء مثلا؟ حيث لا يمكن إغفال وجود تواطؤ مريب وصادم، في عدم تحرك عربات المطافئ لإخماد النيران، فقد أكد أحد شهود العيان فى واقعة المجمع العلمى ان ادارة المطافئ لم تتحرك، عن عمد، وقابلت الأمر بقدر من اللامبالاة والاستهانة بخطورة الموقف، وأكد عضو بالمجمع - رفض نشر اسمه - أنه كان فى الإمكان أطفاء الحريق فى بدايته.. هل ترك المجمع العلمي يحترق يحمل رسالة معينة للمثقفين؟ والأهم لم لا يوجد – في عصر التكنولوجيا- موقع على الانترنت للمجمع العلمي المصري، يتضمن قاعدة بيانات لكل الكتب في المجمع، وتكون متاحه للقارئ والباحث؟ أم أن حاله لم يكن أفضل بكثير من حال المستشفيات، والمدارس، والمباني الحكومية البائسة التي تآكلت بفعل الزمن والإهمال! سيذكر التاريخ أن نابليون بونابرت أنشأ المجمع العلمي في مصر وأنه أحرق و دمر بأيد مصرية في أعقاب ثورة 25 يناير 2011،وستسجل الفعلة ضد مجهول؛ لأنه حتى الآن لم يُعرف من كان وراء حريق القاهرة 1952، ولم تتم محاسبة من أشعله، وسننتظر لنرى إن كان ثمة من سيكشف عن حريق المجمع العلمي في 2011 . مفاجأة ما بعد الحريق كانت أولى ردود الفعل العالمية، أن جاءت من فرنسا، حيث طالبت فرنسا السلطات المصرية بإجراء "تحقيق مفصل وشفاف حول الأسباب والمسؤوليات" في احتراق مبنى المجمع العلمي في القاهرة.وقال المتحدث باسم الخارجية الفرنسية "برنار فاليرو" أن إحراق المبنى على هامش مواجهات بين متظاهرين وقوات الأمن هو "كارثة للثقافة العالمية ويعبر عن المخاطر التي تهدد التراث الإنساني الموجود في مصر". وعلى المستوى المصري جاءت ردود الأفعال متباكية على ما حدث، أو تدين الحريق، فقال مسلم شلتوت، وهو عضو بالمجمع العلمي المصري، بأن حرق المجمع عملية قذرة، مطالباً ب"إعدام وحرق من قام بذلك العمل، لأنها مصيبة كبيرة"، واصفاً من أحرقوه بأنهم ليسوا ثواراً، قائلا : " إن المجمع يضم وثائق نادرة وكتب تؤرخ للعلم من أيام الحملة الفرنسية، ولتاريخ العلم الحديث" وأضاف: "الخوف أن تصل النيران إلى الجمعية الجغرافية التي تحتوى تاريخ اكتشاف منابع النيل، كما أن المجمع يضم أول تصنيف للنباتات المصرية، والنباتات التي تنمو في الصحراء، وكذلك للحيوانات البرية والمستأنسة". ووصف عضو المجمع د. يحيى الجمل،حريق المجمع العلمي المصري "بالإجرام في حق مصر فهو يضم وثائق نادرة في العالم". أما رئيس المجلس العلمي د. حافظ شمس الدين فأوضح أن مكتبة المجمع العلمي تصنف قيمتها عالميا بأنها الأعظم والاكثر قيمة من مكتبة الكونغرس الاميركي، وقال إن عضويته تشمل أهم 100 عالم مصري في تخصصاتهم، وتضم مكتبته نوادر المطبوعات الأوروبية التي توجد منها نسخ نادرة على مستوى العالم، والتي لا تخص المصريين فقط. كما يضم كتب الرحالة الأجانب، ونسخاً للدوريات العلمية النادرة منذ عام.1920 وقال إنه يوم أسود في تاريخ مصر. د. عبد المنعم أبو الفتوح - المرشح المحتمل لرئاسة الجمهورية - قال في رأي منصف للثورة والثوار : " أن حريق المجمع العلمي لم يكن صدفة أو اعتباطا، بل هو حادث مدبر من الدرجة الأولي، بهدف إحراق الاتفاقات الدولية والخرائط والوثائق الخاصة بالأمن القومي لمصر. وأضاف ان تلك الخرائط لم يطلع عليها أحد، وضياعها كان مقصودا ليظل ما فيها مجهولا عن الشعب المصري؛ وأن من بين الوثائق معاهدة كامب ديفيد والتى لم يطلع عليها البرلمان بل انه طلب فى احدى المرات نسخة منها من أحد وزراء الخارجية وأكد له انه لم يرها على الاطلاق. واستنكر ابو الفتوح إشعال الحرائق من قبل البلطجية الذين يجب القبض عليهم ومعاقبتهم أشد العقاب على جرائم تستهدف إجهاض الثورة وتشويه صورة المتظاهرين لدى الرأي العام، مؤكداً ضرورة التفرقة بين الثائر الشريف والبلطجي المتآمر. لكن المفاجأة الحقيقة في قضية حريق المجمع كانت حين فجر الشيخ سلطان القاسمي حاكم امارة الشارقة مفاجأة باعلانه نيته في التكفل باعادة بناء مبني المجمع العلمي المصري الذي احترق مؤخرا في أحداث مجلس الوزراء قائلا ان نسخا من الوثائق والكتب التي احترقت موجودة لديه في مكتبته الخاصة سواء كتاب "وصف مصر" في طبعاته الفرنسية التي تعود لعام1861 والمخطوطات الأثرية وغيرها من الدوريات النادرة في نسخها الأصلية ومعظمها موجودة لديه ومنها ما ليس موجود الا لديه مثل خرائط نادرة تخص الأمير يوسف كمال مطالبا المسئولين في مصر بارسال قائمة كاملة بمحتويات المجمع التي احترقت لارسالها كهدية لمصر ومجمعها العلمي. ويأتي هذا الكشف، ليزيد الموقف التباسا، حول كيفية وصول كل هذه الوثائق إلى الشيخ سلطان القاسمي؟! كان من الأجدى أن يحتفظ القائمون على المجمع العلمي بنسخ من هذه الوثائق، لكن أن تتم معرفة أن الوثائق موجودة أساسا خارج مصر فهذا مثير للاستغراب، ولا يمكن تفسيره. ويقول د. خالد العزب المشرف علي مشروع " ذاكرة مصر المعاصرة " بمكتبة الاسكندرية، أن المسئول عن إدارة المجمع العلمي هو مجلس الإدارة الذي يضم 100 فرد من أبرز علماء مصر في كل التخصصات والمجمع يمتلكه المجتمع المدني المصري وليس الدولة. والقانون المصري جعل ملكية المجمع للشئون الاجتماعية وهذا وضع خاطئ لأنه يجب أن يتبع وزارة البحث العلمي أو وزارة الثقافة. وأشار إلي أنه في الماضي كان يتبع للملك ولذلك يجب أن يتم تعديل القانون لان الجمعية الجغرافية والمجمع العلمي وجمعية الاقتصاد السياسي والتشريعي كان الملك أو رئيس الجمهورية هو المسئول عن تعيينهم ولكن هذا لم يحدث بسبب تراجع الاهتمام بالعلم في مصر. وعن دعم المجمع قال د. العزب أن وزارة الثقافة هي التي كانت تتولي رعاية المجمع وأيضا من مكتبة الإسكندرية، مضيفا أن المجمع يتلقى في إطار التبادل والإهداء مجموعة من أندر الكتب وأن بعض النسخ من المجمع موجود بدول أخرى وان كتاب وصف مصر يوجد منه 11 نسخة في مصر. المجمع العلمي في سطورالمجمع العلمي : يعتبر أثرا إسلاميا،يعود بناء المبنى لأوائل القرن العشرين، حيث تم إنشاؤه في القاهرة يوم 20 أغسطس عام 1798 بقرار من نابليون بونابرت، وتم نقله إلى الإسكندرية عام 1859 ثم عاد للقاهرة عام 1880. ويحتوى المجمع على مكتبة تضم 40 ألف كتاب أبرزها، المؤلفَ الموسوعي الضخم المعروف ب"وصف مصر" الذي يعتبر أهم مرجع لكل من تناول أي موضوع يتصل بمصر، كتاب «وصف مصر» الذي جمع فيه علماء الحملة الفرنسية خلاصة أبحاثهم ودراساتهم عن مصر، تاريخاً وجغرافيا، بل وكل ما يخص مصر بعمق تاريخها، أيضا أطلس عن فنون الهند القديمة، وأطلس باسم مصر الدنيا والعليا مكتوب عام 1752، وأطلس ألماني عن مصر وأثيوبيا يعود للعام 1842، وأطلس ليسوس وهو ليس له نظير في العالم وكان يمتلكه الأمير محمد علي ولي عهد مصر الأسبق. ويتكون المجمع من عدة شعب، وهي الرياضيات والفيزياء والطب والزراعة والتاريخ، وفى عام 1918 أصبح مهتماً بالآداب والفنون الجميلة وعلم الآثار، والعلوم الفلسفية أيضا. كما يصدر مجلة سنوية ومطبوعات خاصة.