سعت النخبة المثقفة بالمجتمع المصري في الآونة الأخيرة الي اثبات حضورها المتغيب منذ عدة أعوام؛ بفعل العديد من العوامل؛ والتي كان من أهمها: النظام السياسي السابق، الذي مارس أشكال التعتيم كافة بمختلف الأصعدة، خاصة علي الفكر ورواده ومن ثم كان لثورة 25 يناير الاثر البالغ في صحوة المثقفين والمبدعين احتجاجا علي الوضع الذي كبل حريتهم واسكت الافواه لسنوات طوال.. ثارت النخبة للتفاعل مع الأحداث الجارية لتؤكد علي أهمية دورها في المجتمع؛ وأصدرت اللجنة التحضيرية لمؤتمر المثقفين المستقلين عدة بيانات طالبت فيها بضرورة التغيير، ووقع العشرات من الكتاب والأدباء والمفكرين والمبدعين علي هذه المطالب؛ منهم: علاء الأسواني، وسيد حجاب، وبهاء طاهر، وصلاح فضل، وصفاء الطوخي وفتحية العسال، وغيرهم كثير. وجاء البيان الأول معلنا الالتحام الكامل للمثقفين والمفكرين والأدباء مع ثورة 25 يناير.. متبنين شعاراتها ومطالبها العادلة في مواجهة الفساد الشامل، وفي مقاومة سياسات الحزب الوطني في النهب المنظم لثروات مصر وأراضيها، والتفريط في مصالح مصر القومية إلي حدّ التبعية ووجوب رحيل منظومة الفساد القائمة، وضرورة محاكمة الفاسدين علي سرقة المال العام، والإضرار بالمصالح الوطنية، معانين وقوفهم مع مطالب الثورة المشروعة في إقامة حكومة ائتلاف وطني مؤقتة تضم ممثلين لمختلف الاتجاهات الوطنية والسياسية من خارج منظومة الفساد المعروفة لنا جميعا؛ علي أن تلتزم الحكومة بالإلغاء الفوري لقانون الطوارئ، والإفراج عن المعتقلين السياسيين كافة، وحل مجلسي الشعب والشوري، وتعديل الدستور، وإطلاق حرية الصحافة والأحزاب، وتحقيق مطالب الفقراء في العلاج، وإعانة البطالة، والحد الأدني للأجور. وجاء في ختام البيان كلمة من الموقعين عليه الي الثوار تنص علي: "ايها الثوار الأبرار ان انتصار الثورات هو ثمرة صبر دءوب، ونفس طويل، أنتم الآن تكملون ما بدأته طليعة أجيال متعاقبة من خيرة مثقفي مصر وكتابها وفنانيها وأدبائها الذين دفعوا من أجلها أحلي سنواتهم أعمارهم، واعلموا يا من فتحتم لمصر آفاق المستقبل، إن من يتخلي عنكم الآن كأنما يتخلي عن دماء شهدائنا الأبرار، إن ثقتنا كاملة بأثر ثورتكم في تغيير مقدرات مصر علي المستويين الاجتماعي والسياسي، وفي تغيير الواقع السياسي الرديء الذي تعاني منه مختلف أقطار الوطن العربي.. منكم ومعكم حتي النصر. أما في البيان الثاني، فقدم الموقعون عليه التحية للسادة أعضاء المجلس الأعلي للقوات المسلحة علي أدائهم البطولي المشرف في الحفاظ علي مصالح الشعب وحماية ثورته المجيدة، ومنجزاته التاريخية، وطالبوا بإتاحة الفرصة لممثلين لهم من أجل المشاركة في صوغ معالم المرحلة المقبلة علي المستويات القانونية والفكرية والثقافية؛ إيمانا بقدرة المثقف علي التفاعل الإيجابي والنقدي مع واقعه، وبمقدرته علي طرح الرؤي والبدائل، بعد أن درجت الأنظمة علي التعامل مع الثقافة بوصفها شيئًا ثانويا يقع في آخر سلمّ الكماليات. وأشار الموقعون الي أن مصر في هذه المرحلة الفارقة في تاريخها العظيم في أشد الحاجة إلي وضع رؤية ثقافية استراتيجية واضحة ومتكاملة علي مستوي كلي؛ بعد أن وجّه سوء التشخيص الاجتماعي والسياسي لمشكلاتنا أنظار الوعي العام إلي أن الاهتمام بمشكلتنا الحضارية يكمن أساسًا في الجوانب الاقتصادية دون غيرها! وقد أثر هذا التصور الخاطئ في وعي النخب السياسية ايضا، وقد طرحت ثورة 25 يناير سلوكيات جديدة وأكدت علي الضعف الفادح لمكانة الأحزاب السياسية؛ من أجل هذا حذر الموقعون من الخطأ الفادح الذي قد ينجم عن إقصاء الكتاب والمبدعين المصريين عن المشاركة الكاملة في وضع دستور جديد وفي تعديله كما يحذرون من خطورة تكرار أخطاء ثورات مصرية وعربية سابقة، اكتفت بالناشطين السياسيين، ولم تعط مساحة المشاركة الفاعلة لكتاب ومبدعين من شعراء مصر وروائييها، وأدبائها، ومفكريها، وفنانيها، في وضع معالم المرحلة القادمة علي الصعد كافة، وذلك في ضوء الأهمية التي باتت تحتلها الثقافة الآن وقد اعلن اتحاد كتاب مصر بكامل أعضائه تبنيه لهذا البيان. وأوضح البيان الثالث تعرض المثقف المصري في العقدين الأخيرين الي أشكال مختلفة من العنف الرمزي وعدم قيام مثقفين فاعلين بأدوارهم علي مستوي الممارسة مما أخر تأثيرهم في موقعهم الاجتماعي المفروض أن يكونوا فيه وأدي الي استمرار فئة تكنوقراطية صغيرة تتحكم في واقعنا الثقافي والإعلامي، منفردة بإدارته من أسماء قديمة ومحنطة لمثقفين وأنصاف مثقفين -أكاديميين وغير أكاديميين- شغلت الجهاز الإداري والإعلامي لوزارة الثقافة ومؤسساتها سنوات طويلة، حاجبة حق الأجيال الجديدة في صنع مستقبلها الثقافي، والمشاركة فيه، استخدمتهم المؤسسات السابقة كما استخدموها، وتلاعبت بهم كما تلاعبوا بها، بعد أن أصيبت بالعماء، وأصاب الشلل والعجز أقدامها؛ فأعلن المثقفون والأدباء والكتاب والمفكرون الموقعون علي هذا البيان رفضهم الكامل لاستمرار رؤساء الهيئات والمراكز والمجالس الثقافية؛ ممن كانوا أدوات أفسدت الحياة الثقافية، من قيادات الأجهزة الإعلامية، ورؤساء هيئة قصور الثقافة، والهيئة العامة للكتاب، ودار الكتب والوثائق القومية، والمجلس الأعلي للثقافة، والمركز القومي للمسرح، والمجلس الأعلي للآثار، وقطاع الفنون التشكيلية، وأكاديمية الفنون.. إلخ؛ بصفاتهم، ويعلن الموقعون علي هذا البيان ومن يلحق بهم من كتاب وأدباء، سحب الثقة منهم، ويطالبون بمحاسبة المسيئين ممن أهدروا المال العام، وأفسدوا علي مدار عقدين الحضور الثقافي المصري علي المستويين العربي والدولي. وكان د. علاء عبد الهادي المنسق العام لمؤتمر المستقلين، قد دعا إلي أن بيان المثقفين الذي طالب فيه برحيل منظومة الفساد كان إرهاصًا ثقافيا ببدء ثورة ممتدة ضد هذا النظام، مؤكدا أهمية الثقافة في القيام بثورة التغيير، ومواجهة الفساد الشامل، والتفريط في مصالح مصر القومية إلي حدّ التبعية، ومحاكمة الفاسدين علي سرقة المال العام، والإضرار بالمصالح الوطنية، كما أشار البيان فيما أشار إليه إلي النهب المنظم لآثار مصر، بصورة مستمرة، ومتتابعة، تورط فيها مسئولون كبار في الوزارة، وعلي رأسها قضية الآثار الكبري، فضلاً عن نهب دار الكتب والوثائق القومية علي مدار العقدين الأخيرين، وحريق المسافر خانة، وحريق بني سويف الذي راح ضحيته عشرات المسرحيين، وحريق المسرح القومي، إضافة إلي سوء سياسات المؤسسات القائمة التي أدت إلي الإجهاز علي المسرح المصري، فضلاً عن غياب إنتاج سينمائي يليق باسم مصر الفني، إضافة إلي القضاء علي المجلات الأدبية المتخصصة؛ "فمعظم إنتاجنا النقدي والثقافي يذهب إلي الدوريات العربية والأجنبية، مثله في ذلك مثل جزء كبير من فننا وتراثنا التشكيلي، وغياب مراكز ثقافية مشعة لها دور فاعل في محلياتها، هذا إضافة إلي مهازل الترشيح والاختيار لجوائز الدولة، التي أصبحت حكرا علي أعضاء هذه اللجنة التي يسجب المثقفون المصريون الثقة من جميع أعضائها دون استثناء، هذا فضلا عن مهرجانات المجالس المحنطة للمجلس الأعلي للثقافة التي لا يحضرها أحد، والقضايا المتتابعة لكبار موظفي الوزير وحاشيته التي ارتبطت بالسرقة والفساد.. إلخ. وكانت آخر مصائبنا هي تفريط الوزير وبطانته في ثروة مصر القومية في الفن التشكيلي، فقد شهدنا في الآونة الأخيرة سرقة تسع لوحات أثرية من قصر محمد علي، فضلاً عن سرقة لوحة الخشخاش مرة ثانية بعد سرقتها الأولي في 1978، فبتنا بذلك شهودًا علي سرقة تاريخ مصر الثقافي، وتشويهه علي المستويين المادي والرمزي.