موعد إعلان نتيجة تنسيق المرحلة الأولي 2025 لطلاب الثانوية العامة (رابط وقواعد القبول الجغرافي)    موعد إجازة المولد النبوي الشريف 2025 للقطاعين الحكومي والخاص    سعر سبيكه الذهب اليوم الأربعاء 30-7-2025 وال 50 جرامًا تتخطى ربع مليون جنيه    موعد مرتبات شهر أغسطس وسبتمبر.. جدول زيادة الحد الأدني لأجور المعلمين بعد زيادة يوليو    بعد هبوطه في 7 بنوك.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري الأربعاء 30-7-2025    "البترول" تتلقى إخطارًا باندلاع حريق في غرفة ماكينات مركب الحاويات PUMBA    «ساري المفعول».. أول تعليق من ترامب على موجات تسونامي اليوم    إعلام كندي: الحكومة تدرس الاعتراف بدولة فلسطين    ترامب: لن نسمح لحماس بالاستيلاء على المساعدات الغذائية المخصصة لغزة    ملك المغرب: الشعب الجزائري شقيق.. وتربطنا به علاقة إنسانية وتاريخية    «يو جيه»: الصين قوة اقتصادية عظمى لكن أنانية ومترددة إلى حد كبير    القنوات الناقلة مباشر لمباراة النصر وتولوز اليوم.. والموعد والمعلق    جدول مباريات بيراميدز في الدوري المصري الممتاز الموسم الجديد 2025-2026    «مألفناش اللائحة».. رد ناري من رابطة الأندية على تصريحات عضو مجلس الزمالك    توقعات الأبراج وحظك اليوم الأربعاء 30 يوليو 2025.. انفراجة مالية قوية تنتظر هذا البرج    السيد أمين شلبي يقدم «كبسولة فكرية» في الأدب والسياسة    ليلى علوي تسترجع ذكريات «حب البنات» بصور من الكواليس: «كل الحب»    فلكيًا.. موعد بداية شهر رمضان 1447-2026    لا تتبع الوزارة.. البترول: السيطرة على حريق سفينة حاويات قرب منصة جنوب شرق الحمد    وزير الثقافة: جوائز الدولة هذا العام ضمت نخبة عظيمة.. ونقدم برنامجا متكاملا بمهرجان العلمين    4 أرغفة ب دينار.. تسعيرة الخبز الجديدة تغضب أصحاب المخابز في ليبيا    محافظة الوادي الجديد تدفع بوحدة توليد جديدة لدعم كهرباء الفرافرة وتخفيف الأحمال    تنسيق الثانوية 2025.. ماذا تعرف عن دراسة "الأوتوترونكس" بجامعة حلوان التكنولوجية؟    تنسيق الجامعات 2025| كل ما تريد معرفته عن بكالوريوس إدارة وتشغيل الفنادق "ماريوت"    إبراهيم ربيع: «مرتزقة الإخوان» يفبركون الفيديوهات لنشر الفوضى    وفاة طالب أثناء أداء امتحانات الدور الثاني بكلية التجارة بجامعة الفيوم    القانون يحدد شروط لوضع الإعلانات.. تعرف عليها    متابعة تطورات حركة جماعة الإخوان الإرهابية مع الإعلامية آلاء شتا.. فيديو    الإعلامى حسام الغمرى: جماعة الإخوان تحاول تشويه موقف مصر الشريف تجاه فلسطين.. فيديو    مدير أمن سوهاج يتفقد الشوارع الرئيسية لمتابعة الحالة الأمنية والمرورية    الدقيقة بتفرق في إنقاذ حياة .. أعراض السكتة الدماغية    إخماد حريق في محول كهرباء في «أبو النمرس» بالجيزة    منافسة غنائية مثيرة في استاد الإسكندرية بين ريهام عبد الحكيم ونجوم الموسيقى العربية.. صور    تنسيق الجامعات 2025 .. تفاصيل برامج كلية التجارة جامعة عين شمس (مصروفات)    يسمح ب«تقسيط المصروفات».. حكاية معهد السياحة والفنادق بعد قضية تزوير رمضان صبحي    إنجاز غير مسبوق.. إجراء 52 عملية جراحية في يوم واحد بمستشفى نجع حمادي    مطران دشنا يترأس صلوات رفع بخور عشية بكنيسة الشهيد العظيم أبو سيفين (صور)    الجنايني يتحدث عن مفاوضات عبد القادر.. وعرض نيوم "الكوبري" وصدمة الجفالي    مصرع عامل اختل توازنه وسقط من أعلى سطح المنزل في شبين القناطر    رئيس مدينة الحسنة يعقد اجتماعا تنسيقيا تمهيدا للاستعداد لانتخابات الشيوخ 2025    أحمد فؤاد سليم: عشت مواجهة الخطر في الاستنزاف وأكتوبر.. وفخور بتجربتي ب "المستقبل المشرق"    وزير الخارجية يتوجه إلى واشنطن في زيارة ثنائية    ناشط فلسطيني: دور مصر مشرف وإسرائيل تتحمل انتشار المجاعة في غزة.. فيديو    أسامة نبيه يضم 33 لاعبا فى معسكر منتخب الشباب تحت 20 سنة    ترامب: الهند ستواجه تعريفة جمركية تتراوح بين 20% و25% على الأرجح    جدول امتحانات الثانوية العامة دور ثاني 2025 (اعرف التفاصيل)    «الجو هيقلب» .. بيان مهم بشأن حالة الطقس اليوم : أمطار وانخفاض «مفاجئ»    عاصم الجزار: لا مكان للمال السياسي في اختيار مرشحينا    الجنايني عن شروط عبدالله السعيد للتجديد مع الزمالك: "سيب اللي يفتي يفتي"    سبب غياب كريم فؤاد عن ودية الأهلي وإنبي وموعد عودته    عمرو الجناينى: تفاجأت باعتزال شيكابالا.. ولم أتفاوض مع أحمد عبد القادر    معلقة داخل الشقة.. جثة لمسن مشنوق تثير الذعر بين الجيران ببورسعيد    بدأت بصداع وتحولت إلى شلل كامل.. سكتة دماغية تصيب رجلًا ب«متلازمة الحبس»    طريقة عمل سلطة الطحينة للمشاوي، وصفة سريعة ولذيذة في دقائق    هل يُحاسب الطفل على الحسنات والسيئات قبل البلوغ؟.. واعظة تجيب    أمين الفتوى: الشبكة جزء من المهر يرد في هذه الحالة    ما الذي يُفِيدُه حديث النبي: (أفضل الأعمال الصلاة على وقتها)؟.. الإفتاء توضح    أمين الفتوى: مخالفات المرور الجسيمة إثم شرعي وليست مجرد تجاوز قانوني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الهوية الإبداعية بين الوحدة والانشطار
نشر في صوت البلد يوم 15 - 08 - 2020

لطالما كانت الإشكالية المتعلقة بقدرة الكاتب أو الفنان على الجمع بين شكلين أو أكثر من أشكال التعبير، مثار جدل واسع بين النقاد والدارسين وذوي الاختصاص. ولكن ما حفزني على مقاربة هذا الموضوع من جديد، هو تزايد حالات «الصبأ» الإبداعي من فن إلى فن، ومن حقل أدبي إلى حقل آخر. واللافت في هذا السياق أن مثل هذا النزوح لم يكن ملحوظاً من قبل، ولم تشهده الحياة الثقافية العربية إلا في العقدين الفائتين، وبعد أن باتت الرواية دون غيرها ديوان العرب، والعالم استتباعاً. إذ في ظل كساد الشعر وتراجعه اللافت، لا ينفك هذا النوع الأدبي يجتذب إليه المزيد من القراء، ويحقق أرقاماً عالية من المبيعات، ويحصد النسبة الأعلى من الجوائز القيمة، في المجالين المادي والمعنوي، ويحظى بالنصيب الأوفر من الترجمات إلى العديد من لغات العالم الحية.
وإذا كان لهذا الأمر من دلالة فهو يعني أن هجرة الشعراء، وسائر المشتغلين بالفنون الأخرى، باتجاه الرواية، لم تتم بشكل عفوي، ولا هي ثمرة إلحاح داخلي يفرض نفسه على الكاتب، بل هي بنسبة عالية وليدة إرادة وتصميم واعيين ومعلومي الأهداف. وإذا كنت قد حرصت على تجنب التعميم فلكي أتجنب الأحكام اليقينية والقاطعة من جهة، ولمعرفتي الشخصية بأن هناك شعراء، ولو قلة، يمتلكون موهبة السرد بشكل جلي، بحيث كان ذهابهم باتجاه الرواية محصلة طبيعية لشغفهم بها وتوقهم إلى كتابتها.
لكن السؤال الأهم الذي ينبغي طرحه في هذا السياق، لا يتعلق بحق الكاتب في مقاربة ما يشاء من ضروب الكتابة والفن، وهو حق بديهي نابع من حرية الفرد الكاملة في التعبير عن نفسه، كما في اختيار مسيرته وأهدافه، بل يتعلق بقدرة أي منا على توزيع نفسه بين نوعين أدبيين أو لونين من الفنون، دون أن يعرضها للتشتت والفصام النفسي والتعبيري.
وإذا اعتبرنا، استتباعاً، بأن توفّر الموهبة هو الشرط المسبق والأساسي لكل نشاط إبداعي، فهل يمكن لأحد من المشتغلين بالأدب والفن أن يحظى بموهبتين اثنتين، أو بالعديد من المواهب، وبالمستوى نفسه من التأجج والاضطرام؟ على أن مثل هذه التساؤلات ليست منبتّة بأي حال عن أسئلة أخرى تتعلق بطبيعة الكتابة وشروطها، وما نجم عن ذلك من تباينات وفروق في الرؤية والمفهوم بين المدارس الأدبية والنقدية، التي يركز بعضها على ربط الإبداع بعناصر خارجة عن إرادة صاحبه كالموهبة والإلهام، كما يذهب الرومانسيون، وبين من يقفون على الطرف النقيض من هذه الرؤية، كما يفعل الرمزيون الذين أكدوا على أن في داخل كل فرد قابليات للتعلم وإمكانيات قابلة للتحقق، شرط أن يقرن الإرادة والتصميم، بعوامل الدربة والكدح والتحصيل المعرفي.
وإذا كانت كل مدرسة من المدارس النقدية تصر على الإمساك بطرف واحد من الحقيقة دون سواه، فإن الحقيقة الإبداعية تظل في مكان بعيد الغور، وتظل النصوص الإبداعية نفسها عصية على التدجين.
ومع ذلك فإننا لا نُعدم في الحقبة الأخيرة من يؤكد على الطبيعة «الحِرَفية» للفنون، بحيث ارتفعت أصوات الاعتراض على النخبوية الفاقعة للكتاب والفنانين، الذين أعلت حركة الحداثة من شأنهم، واعتبرتهم رسل الوحي وصفوة الجنس البشري.
وقد بدت حقبة ما بعد الحداثة بمثابة احتجاج صارخ على نزعة التمييز الحداثوي ذي النكهة «العنصرية»، منتصرة للفولكلور والتعبيرات الشارعية وفنون الكيتش والتجهيز والموسيقى والغناء الشعبيين، ومضيقة المسافة بين الفنون «العليا»، وبين السلع والأدوات التي تنتج بغرض الزينة أو الترفيه، أو الاستهلاك العادي. وقد بدأنا نلمس التأثير البارز لهذه المفاهيم، ليس فقط عبر عدد من المحترفات والورش الفنية التي قامت مؤخراً للتدرب على الرواية والقصة وفنون السرد، بل عبر ورش مماثلة لتعليم الشعر والتدرب على كتابته.
ومع الاعتراف بوجاهة هذه التجارب الرائدة وجرأتها، فإنني أميل إلى الاعتقاد بأن ما نحصل عليه بواسطتها لا يتعدى في أحسن الأحوال ما تقدمه لنا معاهد الرسم والموسيقى والمسرح من أسماء وتجارب متوسطة المستوى، في حين أن التحليق عالياً يتطلب أجنحة من نوع مختلف وإنصاتاً مرهفاً إلى مكابدات الداخل وأنين الأعالي.
الموهبة والكدح
وإذا كانت إشكالية العلاقة بين حصة الموهبة من العمل الفني وحصة الكدح والتصميم والتحصيل المعرفي، ليست موضع إجماع الدارسين والمهتمين، فإن ما تهدف هذه المقالة إلى مقاربته هو أمر آخر، يتعلق بثنائية الموهبة لدى بعض الكتاب والفنانين، من جهة، وبنزوح الكثيرين من حقل إبداعي إلى حقل آخر، من جهة أخرى.
ولو سلمنا جدلاً بأن كائناً ما، يشعر منذ الطفولة بأنه موزع بين نوعين من الميول الفنية، فهل بوسع هذه الثنائية أن تستمر طويلاً، أم أن غبار الحيرة لا بد أن ينجلي فيما بعد عن تثبت الشخص المعني من حقيقة نفسه، ومن الكنز الحقيقي الذي يمتلكه.
و هو إذ يقطع الشك باليقين، يشرع في تنكب المغامرة التي لا حدود لمباهجها ومشقاتها. وهو لكي يفعل ذلك يحتاج إلى كامل أعصابه وكامل تصميمه وكامل حياته. وإذا كان هذا الأمر ينسحب على الفنون كلها، فهو يصبح مع الشعر أكثر ضراوة ووطأة، ليس فقط لأن هذا الأخير يعمل على التكثيف والمجاز والإيماء، بل لأنه أقرب إلى رمية النرد، وفق مالارميه، ولأن نظام المصادفات اللانهائية، يحول اللغة إلى متاهة حقيقية، وإلى سلسلة من الاحتمالات، لا تكفي لاستنفادها حياة واحدة ومحدودة.
ولا يتعلق الأمر هنا بالنص المفتوح، أو بالتداخل بين الفنون داخل النص الواحد، وبسائر الأنماط المركبة التي اقترحتها الحداثة على المتعاطين بشؤون الكتابة والفن في العقود المنصرمة، بل بقدرة المبدع الفعلية على الجمع، وبالمستوى نفسه، بين شكلين أو أكثر من أشكال التعبير.
والحال أن ما نملكه من شواهد ملموسة يحيلنا إلى واقع مغاير، حيث يتعذر على الكاتب والفنان، أن يحقق فرادته، بالمعنى العميق للكلمة، إلا في مجال إبداعي واحد، فيما لا يتجاوز المستويات المتوسطة في المجالات الأخرى. وإذا كانت الأسماء المعنية بتعدد الهويات أغزر من أن تتسع لذكرها هذه المقالة، فإن ذلك لا يمنع من الإشارة إلى بعضها إلى الأقل، حيث بدت الفوارق واضحة بين «متن» المشروع الأصلي لهذه الأسماء وبين ما استتبعه من هوامش وتفرعات.
فالقصائد التي كتبها هايدغر، لا تقارن بأي حال مع أعماله الفلسفية والنقدية التي تجمع بين الحفر المعرفي واللغة المتوقدة. والأمر نفسه ينسحب على بورخيس الذي تفتقر أشعاره إلى ذلك الشرر الأخاذ الذي ينبثق عن قصصه القصيرة وكتاباته السردية والنقدية الأخاذة. كما أن رسوم لوركا وجبران على شفافيتها، لا تمتلك الفرادة نفسها التي يجسدها شعر الأول ونثر الثاني. أما رائد الحركة السوريالية أندريه بريتون فهو يبدو في روايته «نادجا» مجرد سارد عادي، بالقياس إلى لغته الشعرية الجامحة.
وإذا كانت ظاهرة الجمع بين الأنماط التعبيرية لا تختلف كثيراً على الصعيد العربي، فإن أكثر ما يلفت في هذه المرحلة هو نزوح الكثير من الشعراء باتجاه الكتابة السردية، والروائية على وجه الخصوص، والتي حاز بعضها على جوائز مرموقة، مثل «القوس والفراشة» لمحمد الأشعري، و«حرب الكلب الثانية» لإبراهيم نصر الله، و«خريف البراءة» لعباس بيضون.
ومع أنه لم يتسن لي حتى الآن قراءة مجمل الأعمال الروائية للشعراء العرب، فإن ما تيسرت لي قراءته يؤكد، عدا استثناءات قليلة، على أن الهوية الإبداعية تظل مفردة في عمقها الأخير. وهي ولو قبلت القسمة على اثنين أو أكثر من الأنواع فغالباً ما يحدث الأمر على حساب واحد منها. وهو ما ينسحب بشكل واضح على الهوية المركبة لجبرا إبراهيم جبرا، وهو المثقف والناقد والمترجم والروائي والشاعر، والذي لم يتردد رغم ذلك في العزوف عن كتابة الشعر والتوجه نحو الرواية، بعد أن بدت تجربته الشعرية أقرب إلى التأليف والاشتغال الذهني منها إلى التفجر الروحي الداخلي.
ولعل الكاتب اللبناني رشيد الضعيف هو واحد من القلائل الذين أدركوا استحالة الاستمرار حتى النهاية في الجمع بين الهويتين الروائية والشعرية، ولهذا السبب فإن صاحب «لا شيء يفوق الوصف» ما لبث أن تخلى عن الشعر، على أهمية ما أنجزه من أعمال، لينقطع إلى لغة السرد التي ذهب بها إلى عوالم وكشوف أكثر رحابة واتساعاً. وقد لا أكون مجافياً للحقيقة إذا قلت إن الفلسطيني إبراهيم نصر الله هو الكاتب العربي الوحيد الذي وزع نفسه بالتساوي بين الشعر والرواية، ودون أن يطغى أي جانب منهما على الآخر بشكل حاسم.
وإذا كان قراء نصر الله ومتابعوه قد لاحظوا أن الشاعر الكاتب، قد أفرد لتجربته الروائية في الآونة الأخيرة، المساحة الأوسع من وقته وجهده لتجربته، إلا أنهم يدركون في الآن نفسه أن تلك الانعطافة قد حدثت على حساب الشعر بالذات، حيث كان يمكن لصاحب «الفتى النهر والجنرال» أن يذهب في هذا الإطار إلى التخوم الأخيرة التي يشتهي بلوغها.
لا يعني ذلك بالطبع أننا لا نعثر فيما أصدره الشعراء العرب من مؤلفات سردية على أعمال متميزة ورفيعة المستوى، إلا أن ذلك لا يلغي حقيقة كون الإنجاز الأهم للشعراء الحقيقيين، يتمثل في دواوينهم ومجموعاتهم الشعرية بالذات، حيث تلمع النواة الماسية الصلبة لبروق اللغة واستعاراتها الأخاذة.
وعلينا ألا نغفل في هذا الإطار أن بعض الشعراء يوظفون لغتهم الشعرية بشكل خاطئ ومتعسف داخل العمل الروائي، ودون أي مسوغ مشروع، بما يشبه «وضع الندى في موضع السيف»، بما يفضي إلى إعاقة السرد وتهجين العمل برمته.
وثمة من ناحية ثانية عامل آخر لا يصب في مصلحة الغالبية من الشعراء الروائيين، وهو التضخم النرجسي المرضي الذي يحول دون تخفف الأنا من «أنويتها» الطاغية، ودون تواريها بالكامل خلف أبطال الرواية وهواجسهم وأزمنتهم المغايرة.
وأنا أعتقد تبعاً لذلك، وحتى يثبت العكس، بأن أفضل الاستثمارات التعبيرية للشعراء، تتجلى في الإطار النقدي الذي يتيح لثقافتهم الواسعة ولاختباراتهم الإبداعية والروحية أن تأخذ طريقها إلى التوهج والانبثاق، وهو ما بدا جلياً في الكتابات النقدية لأدونيس وعبد المعطي حجازي وأنسي الحاج وتوفيق صايغ ومحمد بنيس وعلي جعفر العلاق وعز الدين المناصرة وعلوي الهاشمي وعباس بيضون ومنصف الوهايبي، وكثر غيرهم.
أما في الجانب السردي، فقد تكون كتابة السيرة والمذكرات والاعترافات، هي المجال الحيوي الأكثر ملاءمة لطبائع الشعراء ونوازعهم، حيث تعمل الأنا الفردية على الحفر في ترابها الحميم، متسلحة بالشواهد الحية والأدلة الملموسة في صراعها مع النسيان.
ولعل ضرب هذا النوع من الكتابة على الوتر الأكثر حساسية لافتتان الشعراء بأنفسهم، هو الذي يجعل من سيرهم الشخصية التي تولوا كتابتها بأنفسهم أيقونات أدبية رفيعة، كما هو حال بابلو نيرودا في سيرته الرائعة «أعترف أنني قد عشت»، ورسول حمزاتوف في سيرته المماثلة «داغستان بلدي»، ومحمود درويش في سيرته الموزعة بين «يوميات الحزن العادي» و«ذاكرة للنسيان»، ومريد البرغوثي في «رأيت رام الله»، على سبيل المثال لا الحصر.
لطالما كانت الإشكالية المتعلقة بقدرة الكاتب أو الفنان على الجمع بين شكلين أو أكثر من أشكال التعبير، مثار جدل واسع بين النقاد والدارسين وذوي الاختصاص. ولكن ما حفزني على مقاربة هذا الموضوع من جديد، هو تزايد حالات «الصبأ» الإبداعي من فن إلى فن، ومن حقل أدبي إلى حقل آخر. واللافت في هذا السياق أن مثل هذا النزوح لم يكن ملحوظاً من قبل، ولم تشهده الحياة الثقافية العربية إلا في العقدين الفائتين، وبعد أن باتت الرواية دون غيرها ديوان العرب، والعالم استتباعاً. إذ في ظل كساد الشعر وتراجعه اللافت، لا ينفك هذا النوع الأدبي يجتذب إليه المزيد من القراء، ويحقق أرقاماً عالية من المبيعات، ويحصد النسبة الأعلى من الجوائز القيمة، في المجالين المادي والمعنوي، ويحظى بالنصيب الأوفر من الترجمات إلى العديد من لغات العالم الحية.
وإذا كان لهذا الأمر من دلالة فهو يعني أن هجرة الشعراء، وسائر المشتغلين بالفنون الأخرى، باتجاه الرواية، لم تتم بشكل عفوي، ولا هي ثمرة إلحاح داخلي يفرض نفسه على الكاتب، بل هي بنسبة عالية وليدة إرادة وتصميم واعيين ومعلومي الأهداف. وإذا كنت قد حرصت على تجنب التعميم فلكي أتجنب الأحكام اليقينية والقاطعة من جهة، ولمعرفتي الشخصية بأن هناك شعراء، ولو قلة، يمتلكون موهبة السرد بشكل جلي، بحيث كان ذهابهم باتجاه الرواية محصلة طبيعية لشغفهم بها وتوقهم إلى كتابتها.
لكن السؤال الأهم الذي ينبغي طرحه في هذا السياق، لا يتعلق بحق الكاتب في مقاربة ما يشاء من ضروب الكتابة والفن، وهو حق بديهي نابع من حرية الفرد الكاملة في التعبير عن نفسه، كما في اختيار مسيرته وأهدافه، بل يتعلق بقدرة أي منا على توزيع نفسه بين نوعين أدبيين أو لونين من الفنون، دون أن يعرضها للتشتت والفصام النفسي والتعبيري.
وإذا اعتبرنا، استتباعاً، بأن توفّر الموهبة هو الشرط المسبق والأساسي لكل نشاط إبداعي، فهل يمكن لأحد من المشتغلين بالأدب والفن أن يحظى بموهبتين اثنتين، أو بالعديد من المواهب، وبالمستوى نفسه من التأجج والاضطرام؟ على أن مثل هذه التساؤلات ليست منبتّة بأي حال عن أسئلة أخرى تتعلق بطبيعة الكتابة وشروطها، وما نجم عن ذلك من تباينات وفروق في الرؤية والمفهوم بين المدارس الأدبية والنقدية، التي يركز بعضها على ربط الإبداع بعناصر خارجة عن إرادة صاحبه كالموهبة والإلهام، كما يذهب الرومانسيون، وبين من يقفون على الطرف النقيض من هذه الرؤية، كما يفعل الرمزيون الذين أكدوا على أن في داخل كل فرد قابليات للتعلم وإمكانيات قابلة للتحقق، شرط أن يقرن الإرادة والتصميم، بعوامل الدربة والكدح والتحصيل المعرفي.
وإذا كانت كل مدرسة من المدارس النقدية تصر على الإمساك بطرف واحد من الحقيقة دون سواه، فإن الحقيقة الإبداعية تظل في مكان بعيد الغور، وتظل النصوص الإبداعية نفسها عصية على التدجين.
ومع ذلك فإننا لا نُعدم في الحقبة الأخيرة من يؤكد على الطبيعة «الحِرَفية» للفنون، بحيث ارتفعت أصوات الاعتراض على النخبوية الفاقعة للكتاب والفنانين، الذين أعلت حركة الحداثة من شأنهم، واعتبرتهم رسل الوحي وصفوة الجنس البشري.
وقد بدت حقبة ما بعد الحداثة بمثابة احتجاج صارخ على نزعة التمييز الحداثوي ذي النكهة «العنصرية»، منتصرة للفولكلور والتعبيرات الشارعية وفنون الكيتش والتجهيز والموسيقى والغناء الشعبيين، ومضيقة المسافة بين الفنون «العليا»، وبين السلع والأدوات التي تنتج بغرض الزينة أو الترفيه، أو الاستهلاك العادي. وقد بدأنا نلمس التأثير البارز لهذه المفاهيم، ليس فقط عبر عدد من المحترفات والورش الفنية التي قامت مؤخراً للتدرب على الرواية والقصة وفنون السرد، بل عبر ورش مماثلة لتعليم الشعر والتدرب على كتابته.
ومع الاعتراف بوجاهة هذه التجارب الرائدة وجرأتها، فإنني أميل إلى الاعتقاد بأن ما نحصل عليه بواسطتها لا يتعدى في أحسن الأحوال ما تقدمه لنا معاهد الرسم والموسيقى والمسرح من أسماء وتجارب متوسطة المستوى، في حين أن التحليق عالياً يتطلب أجنحة من نوع مختلف وإنصاتاً مرهفاً إلى مكابدات الداخل وأنين الأعالي.
الموهبة والكدح
وإذا كانت إشكالية العلاقة بين حصة الموهبة من العمل الفني وحصة الكدح والتصميم والتحصيل المعرفي، ليست موضع إجماع الدارسين والمهتمين، فإن ما تهدف هذه المقالة إلى مقاربته هو أمر آخر، يتعلق بثنائية الموهبة لدى بعض الكتاب والفنانين، من جهة، وبنزوح الكثيرين من حقل إبداعي إلى حقل آخر، من جهة أخرى.
ولو سلمنا جدلاً بأن كائناً ما، يشعر منذ الطفولة بأنه موزع بين نوعين من الميول الفنية، فهل بوسع هذه الثنائية أن تستمر طويلاً، أم أن غبار الحيرة لا بد أن ينجلي فيما بعد عن تثبت الشخص المعني من حقيقة نفسه، ومن الكنز الحقيقي الذي يمتلكه.
و هو إذ يقطع الشك باليقين، يشرع في تنكب المغامرة التي لا حدود لمباهجها ومشقاتها. وهو لكي يفعل ذلك يحتاج إلى كامل أعصابه وكامل تصميمه وكامل حياته. وإذا كان هذا الأمر ينسحب على الفنون كلها، فهو يصبح مع الشعر أكثر ضراوة ووطأة، ليس فقط لأن هذا الأخير يعمل على التكثيف والمجاز والإيماء، بل لأنه أقرب إلى رمية النرد، وفق مالارميه، ولأن نظام المصادفات اللانهائية، يحول اللغة إلى متاهة حقيقية، وإلى سلسلة من الاحتمالات، لا تكفي لاستنفادها حياة واحدة ومحدودة.
ولا يتعلق الأمر هنا بالنص المفتوح، أو بالتداخل بين الفنون داخل النص الواحد، وبسائر الأنماط المركبة التي اقترحتها الحداثة على المتعاطين بشؤون الكتابة والفن في العقود المنصرمة، بل بقدرة المبدع الفعلية على الجمع، وبالمستوى نفسه، بين شكلين أو أكثر من أشكال التعبير.
والحال أن ما نملكه من شواهد ملموسة يحيلنا إلى واقع مغاير، حيث يتعذر على الكاتب والفنان، أن يحقق فرادته، بالمعنى العميق للكلمة، إلا في مجال إبداعي واحد، فيما لا يتجاوز المستويات المتوسطة في المجالات الأخرى. وإذا كانت الأسماء المعنية بتعدد الهويات أغزر من أن تتسع لذكرها هذه المقالة، فإن ذلك لا يمنع من الإشارة إلى بعضها إلى الأقل، حيث بدت الفوارق واضحة بين «متن» المشروع الأصلي لهذه الأسماء وبين ما استتبعه من هوامش وتفرعات.
فالقصائد التي كتبها هايدغر، لا تقارن بأي حال مع أعماله الفلسفية والنقدية التي تجمع بين الحفر المعرفي واللغة المتوقدة. والأمر نفسه ينسحب على بورخيس الذي تفتقر أشعاره إلى ذلك الشرر الأخاذ الذي ينبثق عن قصصه القصيرة وكتاباته السردية والنقدية الأخاذة. كما أن رسوم لوركا وجبران على شفافيتها، لا تمتلك الفرادة نفسها التي يجسدها شعر الأول ونثر الثاني. أما رائد الحركة السوريالية أندريه بريتون فهو يبدو في روايته «نادجا» مجرد سارد عادي، بالقياس إلى لغته الشعرية الجامحة.
وإذا كانت ظاهرة الجمع بين الأنماط التعبيرية لا تختلف كثيراً على الصعيد العربي، فإن أكثر ما يلفت في هذه المرحلة هو نزوح الكثير من الشعراء باتجاه الكتابة السردية، والروائية على وجه الخصوص، والتي حاز بعضها على جوائز مرموقة، مثل «القوس والفراشة» لمحمد الأشعري، و«حرب الكلب الثانية» لإبراهيم نصر الله، و«خريف البراءة» لعباس بيضون.
ومع أنه لم يتسن لي حتى الآن قراءة مجمل الأعمال الروائية للشعراء العرب، فإن ما تيسرت لي قراءته يؤكد، عدا استثناءات قليلة، على أن الهوية الإبداعية تظل مفردة في عمقها الأخير. وهي ولو قبلت القسمة على اثنين أو أكثر من الأنواع فغالباً ما يحدث الأمر على حساب واحد منها. وهو ما ينسحب بشكل واضح على الهوية المركبة لجبرا إبراهيم جبرا، وهو المثقف والناقد والمترجم والروائي والشاعر، والذي لم يتردد رغم ذلك في العزوف عن كتابة الشعر والتوجه نحو الرواية، بعد أن بدت تجربته الشعرية أقرب إلى التأليف والاشتغال الذهني منها إلى التفجر الروحي الداخلي.
ولعل الكاتب اللبناني رشيد الضعيف هو واحد من القلائل الذين أدركوا استحالة الاستمرار حتى النهاية في الجمع بين الهويتين الروائية والشعرية، ولهذا السبب فإن صاحب «لا شيء يفوق الوصف» ما لبث أن تخلى عن الشعر، على أهمية ما أنجزه من أعمال، لينقطع إلى لغة السرد التي ذهب بها إلى عوالم وكشوف أكثر رحابة واتساعاً. وقد لا أكون مجافياً للحقيقة إذا قلت إن الفلسطيني إبراهيم نصر الله هو الكاتب العربي الوحيد الذي وزع نفسه بالتساوي بين الشعر والرواية، ودون أن يطغى أي جانب منهما على الآخر بشكل حاسم.
وإذا كان قراء نصر الله ومتابعوه قد لاحظوا أن الشاعر الكاتب، قد أفرد لتجربته الروائية في الآونة الأخيرة، المساحة الأوسع من وقته وجهده لتجربته، إلا أنهم يدركون في الآن نفسه أن تلك الانعطافة قد حدثت على حساب الشعر بالذات، حيث كان يمكن لصاحب «الفتى النهر والجنرال» أن يذهب في هذا الإطار إلى التخوم الأخيرة التي يشتهي بلوغها.
لا يعني ذلك بالطبع أننا لا نعثر فيما أصدره الشعراء العرب من مؤلفات سردية على أعمال متميزة ورفيعة المستوى، إلا أن ذلك لا يلغي حقيقة كون الإنجاز الأهم للشعراء الحقيقيين، يتمثل في دواوينهم ومجموعاتهم الشعرية بالذات، حيث تلمع النواة الماسية الصلبة لبروق اللغة واستعاراتها الأخاذة.
وعلينا ألا نغفل في هذا الإطار أن بعض الشعراء يوظفون لغتهم الشعرية بشكل خاطئ ومتعسف داخل العمل الروائي، ودون أي مسوغ مشروع، بما يشبه «وضع الندى في موضع السيف»، بما يفضي إلى إعاقة السرد وتهجين العمل برمته.
وثمة من ناحية ثانية عامل آخر لا يصب في مصلحة الغالبية من الشعراء الروائيين، وهو التضخم النرجسي المرضي الذي يحول دون تخفف الأنا من «أنويتها» الطاغية، ودون تواريها بالكامل خلف أبطال الرواية وهواجسهم وأزمنتهم المغايرة.
وأنا أعتقد تبعاً لذلك، وحتى يثبت العكس، بأن أفضل الاستثمارات التعبيرية للشعراء، تتجلى في الإطار النقدي الذي يتيح لثقافتهم الواسعة ولاختباراتهم الإبداعية والروحية أن تأخذ طريقها إلى التوهج والانبثاق، وهو ما بدا جلياً في الكتابات النقدية لأدونيس وعبد المعطي حجازي وأنسي الحاج وتوفيق صايغ ومحمد بنيس وعلي جعفر العلاق وعز الدين المناصرة وعلوي الهاشمي وعباس بيضون ومنصف الوهايبي، وكثر غيرهم.
أما في الجانب السردي، فقد تكون كتابة السيرة والمذكرات والاعترافات، هي المجال الحيوي الأكثر ملاءمة لطبائع الشعراء ونوازعهم، حيث تعمل الأنا الفردية على الحفر في ترابها الحميم، متسلحة بالشواهد الحية والأدلة الملموسة في صراعها مع النسيان.
ولعل ضرب هذا النوع من الكتابة على الوتر الأكثر حساسية لافتتان الشعراء بأنفسهم، هو الذي يجعل من سيرهم الشخصية التي تولوا كتابتها بأنفسهم أيقونات أدبية رفيعة، كما هو حال بابلو نيرودا في سيرته الرائعة «أعترف أنني قد عشت»، ورسول حمزاتوف في سيرته المماثلة «داغستان بلدي»، ومحمود درويش في سيرته الموزعة بين «يوميات الحزن العادي» و«ذاكرة للنسيان»، ومريد البرغوثي في «رأيت رام الله»، على سبيل المثال لا الحصر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.