«الطفولة والأمومة» يتدخل لإنقاذ طفلة من الاستغلال في التسول بالإسماعيلية    «حكايات من الصين المتطورة: لقاء مع جوان هو» في أيام القاهرة لصناعة السينما| اليوم    «المشاط»: 637 مليار جنيه استثمارات عامة للمشروعات الخضراء بخطة 2025-2026    أسعار الفراخ في البورصة اليوم السبت 15 نوفمبر 2025    «الزراعة»: إصدار 429 ترخيص تشغيل لمشروعات الإنتاج الحيواني والداجني    آخر تطورات أسعار الفضة صباح اليوم السبت    الاثنين.. مجلس الأمن الدولي يصوت على مشروع القرار الأمريكي بشأن غزة    روسيا: استسلام جماعى لمقاتلين فى القوات الأوكرانية فى مقاطعة خاركوف    فليك يستعين بشاشة عملاقة لإعادة الانضباط الدفاعي إلى برشلونة    مواعيد مباريات اليوم السبت 15 نوفمبر.. البرازيل ضد السنغال    مصر الرياضية تتلألأ بمليارية سوبر وماراثون تاريخي    ضبط المتهم بإدارة صفحة لبيع الأسلحة «أون لاين» بالشرقية    بعد 100 يوم من حكم الإعدام.. سفاح المعمورة يحلم بالبراءة    إصابة 22 شخصا إثر انقلاب أتوبيس على الطريق الصحراوي بإسنا جنوب الأقصر    نيللي كريم نجمة مهرجانات 2025    عمرو سعد يكشف تطورات الحالة الصحية لشقيقه أحمد بعد حادث العين السخنة    غدا.. بدء منظومة جديدة لحجز تذاكر دخول المتحف المصري الكبير    أسيوط: الأتوبيس المتنقل لمكتبة مصر العامة ينشر المعرفة في القرى والمراكز    لو مريض سكر.. كيف تنظم مواعيد دواءك ووجباتك؟    أمريكي يعتدي على شباب مسلمين أثناء الصلاة في ولاية تكساس.. فيديو    تحاليل اختبار الجلوكوز.. ما هو معدل السكر الطبيعي في الدم؟    مدفعية الاحتلال تقصف شرق مدينة غزة ومسيرة تطلق نيرانها شمال القطاع    ترامب يلغي الرسوم الجمركية على اللحم البقري والقهوة والفواكه الاستوائية    22 نوفمبر.. محاكمة عاطل بتهمة سرقة المواطنين وحيازة سلاح أبيض بالزيتون    الطقس اليوم.. أمطار واضطراب بالملاحة على عدة مناطق    نشرة مرور "الفجر".. انتظام مروري بمحاور وميادين القاهرة والجيزة    بدء أولي جلسات استئناف حكم سائق التريلا المتسبب في وفاة فتيات العنب بالمنوفية    وزير الإنتاج الحربي: حياة كريمة تجربة تنموية مصرية رائدة تساهم في تحقيق العدالة الاجتماعية    وزارة التخطيط تقدّم الدعم الفني واللوچستي لإتمام انتخابات نادي هليوبوليس الرياضي    كولومبيا تعلن شراء 17 مقاتلة سويدية لتعزيز قدرتها الدفاعية    عمرو حسام: الشناوي وإمام عاشور الأفضل حاليا.. و"آزارو" كان مرعبا    النادي المصري ينعى مشجعه معتز مشكاك    الدفاع السورية: تشكيل لجنة تحقيق لتحديد مكان إطلاق الصواريخ على دمشق    مؤتمر السكان والتنمية.. وزير الصحة يبحث مع البنك الأوروبي تعزيز الاستثمارات وتطوير المنشآت الصحية    الأهلي يستأنف تدريباته اليوم استعدادًا لشبيبة القبائل بدوري الأبطال    جامعة القناة تقدم ندوة حول التوازن النفسي ومهارات التكيف مع المتغيرات بمدرسة الزهور الثانوية    الري: الاعتماد على البصمة المائية لتحديد المحاصيل التي يتم زراعتها بالمياه المعالجة    الصين تحذّر رعاياها من السفر إلى اليابان وسط توتر بشأن تايوان    آخر يوم.. فرص عمل جديدة في الأردن برواتب تصل إلى 33 ألف جنيه    جامعة القاهرة تطلق قافلة تنموية لقرية أم خنان بالحوامدية    ضوابط تلقي التبرعات في الدعاية الانتخاببة وفقا لقانون مباشرة الحقوق السياسية    الحماية المدنية تسيطر على حريق بمحل عطارة في بولاق الدكرور    مواعيد مباريات اليوم السبت 15 نوفمبر 2025 والقنوات الناقلة    مواقيت الصلاه اليوم السبت 15نوفمبر 2025 فى المنيا    إقامة المتاحف ووضع التماثيل فيها جائز شرعًا    حكم شراء سيارة بالتقسيط.. الإفتاء تُجيب    الاتجار في أدوية التأمين الصحي «جريمة»    نقيب المهن الموسيقية يطمئن جمهور أحمد سعد بعد تعرضه لحادث    دعاء الفجر| اللهم ارزق كل مهموم بالفرج وافتح لي أبواب رزقك    مقتل 7 أشخاص وإصابة 27 إثر انفجار مركز شرطة جامو وكشمير    اشتباكات دعاية انتخابية بالبحيرة والفيوم.. الداخلية تكشف حقيقة الهتافات المتداولة وتضبط المحرضين    استقرار سعر الريال السعودي أمام الجنيه المصري خلال تعاملات السبت 15 نوفمبر 2025    عمرو عرفة يحتفل بزفاف ابنته بحضور ليلى علوي ومحمد ورامي إمام وحفيد الزعيم    جوائز برنامج دولة التلاوة.. 3.5 مليون جنيه الإجمالي (إنفوجراف)    باحث في شؤون الأسرة يكشف مخاطر الصداقات غير المنضبطة بين الولد والبنت    إبراهيم صلاح ل في الجول: أفضل اللعب أمام الأهلي عن الزمالك.. ونريد الوصول بعيدا في كأس مصر    بيان من مستشفى الحسينية المركزي بالشرقية للرد على مزاعم حالات الوفيات الجماعية    سنن الاستماع لخطبة الجمعة وآداب المسجد – دليلك للخشوع والفائدة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



آلان دونو يعلن زوال المفاهيم ورواج السطحية
نشر في صوت البلد يوم 31 - 05 - 2020

تبدو في هذه الآونة قراءة كتاب "نظام التفاهة"، بعنوانه الغريب والمستفز (دار سؤال 2020) لمؤلفه آلان دونو، محفوفة بمخاطر فخاخ طرح أسئلة مهمة وملحة تحضر مع كل فصل، في وقت تواجه فيه الإنسانية جمعاء لحظة مفصلية على مستوى طرح سؤال جوهري عن مدى صواب أنظمتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي بدت كلها مهتزة في مواجهة وباء فرض نفسه بقوة على العالم بأسره، ووضع الحكومات أمام مرايا شفافة وكاشفة، لمأساة تفضيل المادة عن الإنسان.
آلان دونو، وهو أستاذ فلسفة بجامعة كيبك الكندية، أكاديمي وناشط معروف بتصديه إلى النظام الرأسمالي، يعتبر أننا نعيش "مرحلة غير مسبوقة"، أدت إلى "زوال المفاهيم العميقة، وحلول السطحية مكانها"، وهذا لا يحدث على مستوى الأفراد، بل على مستوى الدولة الحديثة ككل، إذ تدهورت المستويات الرفيعة للمفاهيم والقيم، وحل مكانها نظام سطحي هش يُعلي من شأن الرداءة، ولا يستنكر التفاهة، لأن كل هذا يخدم في النتيجة أغراض السوق.
خُذ الكتاب بقوة
بهذه الفكرة الرئيسة يواجه هذا المفكر قراءه، مُعتبراً أن ثمة لعبة تهيمن على كل نشاط إنساني، سواء في السياسة أو الإعلام أو التجارة، أو غير ذلك، إذ لا تُجرى المجاهرة بقوانين هذه اللعبة أو الأطر العامة لها، بل تُمارس فعلياً حين تُستبعد القيم من الاعتبار، ويهيمن مقياس الربح والخسارة، ويُدير اللعبة أولئك الأشخاص الطامحون إلى النجاح السهل والسريع، وتكون لغتهم "اللغة الخشبية"، أي المحملة بالحقائق وتأكيدات المؤكد، إنه ذاك الخطاب الأجوف الصالح لكل زمان ومكان. وبالنسبة إلى السلطة، فإن الشخص التافه هو الفرد المعتاد الذي يستطيعون نقل تعليماتهم من خلاله، بما يسمح بترسيخ نظامهم. بالتالي يؤدي قانون المصالح هذا إلى تشوه الجسد الاجتماعي العام، وإلى انكفاء الفرد الجاد والحقيقي على نفسه، وانسحابه بالتدريج من المجتمع، لأنه محاط بأشخاص ينطبق عليهم قول نيتشه "يُكدّرون مياههم كي تبدو عميقة".
تطور تدريجي
ويرى المؤلف أن لورنس ج بيتر وريموند هال هما أول من لاحظ التطور التدريجي للتفاهة، الذي شق طريقه بعد الحرب العالمية الثانية، ويتجلى بوضوح في ترك الموظفين ذوي الكفاءة الاعتيادية على الترقي حتى شغل مواقع السلطة، مُبعدين بذلك المنتمين إلى فئة ذوي الكفاءة العالية، وأيضاً فئة غير الأكفاء. يقول: "ما جوهر الشخص التافه؟ إنه القادر على التعرف إلى شخص تافه مثله، إذ يدعم التافهون بعضهم بعضاً، فيرفع كل منهما الآخر، لتقع السلطة بيد جماعة تكبر باستمرار، ومع ذلك يجب التنويه إلى أن التافهين لا يجلسون خاملين، بل إنهم يؤمنون بأنهم يعرفون كيف يعملون بجهد".
ينتقد دونو الجامعات الأميركية والكندية والغربية عموماً، معتبراً أنها لم تقم بالدور المنوط فعلاً، وهو مصالحة الطلاب مع ذاك الجزء من أنفسهم القادر على إيجاد الأسئلة الأولية، والأوضاع الجمالية المثيرة القلق، إلى درجة عميقة تدفع بهم إلى البحث والدهشة، واختبار حقول المعرفة التي ربما يظن البعض أنها باردة، مثل الفيزياء. في المقابل يوجد هوس بالحصول على الشهادات الجامعية العالية من ماجستير ودكتوراه، فالجامعة لا تركز على ترسيخ القيم العلمية في مطالبة الطلاب بالتفكير النقدي والفضول المعرفي، "إنما تسطح المعارف من خلال اهتمامها بتعميقها بدلاً من توسيعها"، بالتالي فإن الفقر الفكري في ازدياد، وهذا من أهم أصول التفاهة، لينتهي الأمر بهذه المؤسسات الأكاديمية العليا إلى إنتاج متخصصين ذوي التخصص الضيق، لا علماء ذوي أفق واسع قادرين على التعامل بجدية مع المشكلات الحياتية التي تواجه الإنسانية. فالجامعات أيضاً أصبحت أحد مكونات جهاز اليوم الصناعي والمالي والأيديولوجي. ويقدم دونو مثالاً على ذلك تصريح رئيس جامعة مونتريال، في خريف 2011، حين قال: "إن العقول يجب أن تُفصل وفق حاجات سوق العمل"، ومن هذا المنظور يمكن القول إنّ الجامعات لا تبيع نتاج بحوثها، إنما علاماتها التجارية.
ويرى الفيلسوف آلان دونو وبشكل تاريخي وجمعي أن الفساد يلاعب نفسه بنفسه، ويصل في أي حال إلى نهايته الخاصة، إنه ليس دماراً هامشياً، شراً محدوداً، علامة سطحية. ويستعين دونو بأرسطو لتوضيح فكرته عن الفساد، ففي كتاب أرسطو المعنون "حول الكون والفساد"، يوضح كيف "أن الفساد لا يحدث ببساطة بمجرد أن يتحول الشيء أو يُبلى. بل إن الفساد يقع عندما يتغير الشيء بشكل عميق، حتى لا يعود من الممكن التعرف إلى طبيعته". هنا يظهر عمل الفلسفة التي عليها أن تخرج بمفاهيم جديدة، تُمكن من استيعاب ما أدى إليه الفساد من وجود كيانات جديدة، ومن ثم العمل على عرقلتها مرة أخرى.
ثقافة الترفيه
أما الثقافة، فحدثت تحولات كبيرة لها، حين قلبت إلى مجرد صناعة للترفيه، واستعمار العقول من قِبل الإعلان التجاري، وسيطرة نظام التمويل على الاقتصاد، ويبدو الخطر الذي يواجهه مثقف اليوم، بالغرب كما في بقية أنحاء العالم، يكمن في موقف عام شامل يُسمى "المهنية"، لقد صارت هذه المهنية تقدم نفسها وكأنها التفاف ضمني بين منتجي المعرفة والخطاب من جهة، وملاك رأس المال من جهة أخرى.
لا يبدو دونو متفائلاً، رغم كونه مقاتلاً عنيداً تعرض لملاحقة قضائية من قِبل بعض أقطاب صناعة التعدين بعد إصداره كتاب "كندا السوداء النهب والإفساد والإجرام في أفريقيا". دونو لا يرى أنه سيكون هناك شخصية نيتشويه سوف تقوم بشجب التفاهة، فالاحتقار الذي كان يشعر به الناس في السابق نحو الجبناء والسطحيين والتافهين أصبح مكتوماً إن وجد، وأصبحت التفاهة تتجسد الآن بالمعايير المهنية، وبروتوكولات البحث، وغيرها من قوانين السوق المفروضة فرضاً على الإنسان.
يقودنا كتاب "نظام التفاهة" إلى التفكير بكل ما يحيط بنا: السياسة، والاقتصاد، والتجارة، والكتب، والتلفزيون، والعمل، والصحافة، والشبكات الاجتماعية، واللغة، واضمحلال الحرفة، وظهور المهنة، وسيطرة النظام الرأسمالي، وحرصه على تنظيم السوق، وضبطه على هواه.
وفي ختام الكتاب يطرح دونو سؤاله: "ما الذي يمكننا عمله؟"، ثم يستدرك حالة الفردانية التي غزت العالم ككل، فيعيد السؤال: "ما الذي يمكنني أنا فعله؟"، ثم يقدم إجابته: "هذا السؤال الفقير يكشف عن الحالة التي قام النظام الحالي باختزالنا إليها، ومع ذلك فإن السؤال يرفع من وعينا السياسي والاجتماعي. كيف يمكننا تفسير أننا في وضع ساكن، في عالم كانت فيه أفظع الكوارث متوقعة منذ عقود؟ أنا النكرة المسكين، ما الذي يمكنني عمله بهذا الصدد؟ التوقف عن السخط، والعمل بلا هوادة لخلق توليفة من القضايا الوجيهة، التقي آخرين في تجمعات بخلاف تلك الطائفية والشللية، اسخر من الأيديولوجيات، تجاوز أساليب السيطرة التي تمارسها المنظمات، وحاول خلق بُنى تشبهنا. كن راديكالياً".
يظل ما يجب التوقف بشأنه هو الترجمة، إذ ترجمت وعلقت مشاعل عبد العزيز الهاجري، وهي أستاذة في القانون بجامعة الكويت. وفي حقيقة الأمر ترجمتها الرفيعة، بما فيها الهوامش الدقيقة التي حرصت من خلالها على إيضاح فكرة المؤلف، بدت أشبه بمحاكاة والتحام صادق مع أفكار الكتاب ككل، خصوصاً أنها تكشف في مقدمتها مدى إعجابها بأفكار الفيلسوف آلان دونو، وأنها كانت ستضع في يوم ما كتاباً يتضمن أفكاراً مشابهة، ولمّا وجدت ما تودّ قوله في كتاب دونو هذا، آثرت ترجمته وتقديمه إلى القارئ العربي.
تبدو في هذه الآونة قراءة كتاب "نظام التفاهة"، بعنوانه الغريب والمستفز (دار سؤال 2020) لمؤلفه آلان دونو، محفوفة بمخاطر فخاخ طرح أسئلة مهمة وملحة تحضر مع كل فصل، في وقت تواجه فيه الإنسانية جمعاء لحظة مفصلية على مستوى طرح سؤال جوهري عن مدى صواب أنظمتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي بدت كلها مهتزة في مواجهة وباء فرض نفسه بقوة على العالم بأسره، ووضع الحكومات أمام مرايا شفافة وكاشفة، لمأساة تفضيل المادة عن الإنسان.
آلان دونو، وهو أستاذ فلسفة بجامعة كيبك الكندية، أكاديمي وناشط معروف بتصديه إلى النظام الرأسمالي، يعتبر أننا نعيش "مرحلة غير مسبوقة"، أدت إلى "زوال المفاهيم العميقة، وحلول السطحية مكانها"، وهذا لا يحدث على مستوى الأفراد، بل على مستوى الدولة الحديثة ككل، إذ تدهورت المستويات الرفيعة للمفاهيم والقيم، وحل مكانها نظام سطحي هش يُعلي من شأن الرداءة، ولا يستنكر التفاهة، لأن كل هذا يخدم في النتيجة أغراض السوق.
خُذ الكتاب بقوة
بهذه الفكرة الرئيسة يواجه هذا المفكر قراءه، مُعتبراً أن ثمة لعبة تهيمن على كل نشاط إنساني، سواء في السياسة أو الإعلام أو التجارة، أو غير ذلك، إذ لا تُجرى المجاهرة بقوانين هذه اللعبة أو الأطر العامة لها، بل تُمارس فعلياً حين تُستبعد القيم من الاعتبار، ويهيمن مقياس الربح والخسارة، ويُدير اللعبة أولئك الأشخاص الطامحون إلى النجاح السهل والسريع، وتكون لغتهم "اللغة الخشبية"، أي المحملة بالحقائق وتأكيدات المؤكد، إنه ذاك الخطاب الأجوف الصالح لكل زمان ومكان. وبالنسبة إلى السلطة، فإن الشخص التافه هو الفرد المعتاد الذي يستطيعون نقل تعليماتهم من خلاله، بما يسمح بترسيخ نظامهم. بالتالي يؤدي قانون المصالح هذا إلى تشوه الجسد الاجتماعي العام، وإلى انكفاء الفرد الجاد والحقيقي على نفسه، وانسحابه بالتدريج من المجتمع، لأنه محاط بأشخاص ينطبق عليهم قول نيتشه "يُكدّرون مياههم كي تبدو عميقة".
تطور تدريجي
ويرى المؤلف أن لورنس ج بيتر وريموند هال هما أول من لاحظ التطور التدريجي للتفاهة، الذي شق طريقه بعد الحرب العالمية الثانية، ويتجلى بوضوح في ترك الموظفين ذوي الكفاءة الاعتيادية على الترقي حتى شغل مواقع السلطة، مُبعدين بذلك المنتمين إلى فئة ذوي الكفاءة العالية، وأيضاً فئة غير الأكفاء. يقول: "ما جوهر الشخص التافه؟ إنه القادر على التعرف إلى شخص تافه مثله، إذ يدعم التافهون بعضهم بعضاً، فيرفع كل منهما الآخر، لتقع السلطة بيد جماعة تكبر باستمرار، ومع ذلك يجب التنويه إلى أن التافهين لا يجلسون خاملين، بل إنهم يؤمنون بأنهم يعرفون كيف يعملون بجهد".
ينتقد دونو الجامعات الأميركية والكندية والغربية عموماً، معتبراً أنها لم تقم بالدور المنوط فعلاً، وهو مصالحة الطلاب مع ذاك الجزء من أنفسهم القادر على إيجاد الأسئلة الأولية، والأوضاع الجمالية المثيرة القلق، إلى درجة عميقة تدفع بهم إلى البحث والدهشة، واختبار حقول المعرفة التي ربما يظن البعض أنها باردة، مثل الفيزياء. في المقابل يوجد هوس بالحصول على الشهادات الجامعية العالية من ماجستير ودكتوراه، فالجامعة لا تركز على ترسيخ القيم العلمية في مطالبة الطلاب بالتفكير النقدي والفضول المعرفي، "إنما تسطح المعارف من خلال اهتمامها بتعميقها بدلاً من توسيعها"، بالتالي فإن الفقر الفكري في ازدياد، وهذا من أهم أصول التفاهة، لينتهي الأمر بهذه المؤسسات الأكاديمية العليا إلى إنتاج متخصصين ذوي التخصص الضيق، لا علماء ذوي أفق واسع قادرين على التعامل بجدية مع المشكلات الحياتية التي تواجه الإنسانية. فالجامعات أيضاً أصبحت أحد مكونات جهاز اليوم الصناعي والمالي والأيديولوجي. ويقدم دونو مثالاً على ذلك تصريح رئيس جامعة مونتريال، في خريف 2011، حين قال: "إن العقول يجب أن تُفصل وفق حاجات سوق العمل"، ومن هذا المنظور يمكن القول إنّ الجامعات لا تبيع نتاج بحوثها، إنما علاماتها التجارية.
ويرى الفيلسوف آلان دونو وبشكل تاريخي وجمعي أن الفساد يلاعب نفسه بنفسه، ويصل في أي حال إلى نهايته الخاصة، إنه ليس دماراً هامشياً، شراً محدوداً، علامة سطحية. ويستعين دونو بأرسطو لتوضيح فكرته عن الفساد، ففي كتاب أرسطو المعنون "حول الكون والفساد"، يوضح كيف "أن الفساد لا يحدث ببساطة بمجرد أن يتحول الشيء أو يُبلى. بل إن الفساد يقع عندما يتغير الشيء بشكل عميق، حتى لا يعود من الممكن التعرف إلى طبيعته". هنا يظهر عمل الفلسفة التي عليها أن تخرج بمفاهيم جديدة، تُمكن من استيعاب ما أدى إليه الفساد من وجود كيانات جديدة، ومن ثم العمل على عرقلتها مرة أخرى.
ثقافة الترفيه
أما الثقافة، فحدثت تحولات كبيرة لها، حين قلبت إلى مجرد صناعة للترفيه، واستعمار العقول من قِبل الإعلان التجاري، وسيطرة نظام التمويل على الاقتصاد، ويبدو الخطر الذي يواجهه مثقف اليوم، بالغرب كما في بقية أنحاء العالم، يكمن في موقف عام شامل يُسمى "المهنية"، لقد صارت هذه المهنية تقدم نفسها وكأنها التفاف ضمني بين منتجي المعرفة والخطاب من جهة، وملاك رأس المال من جهة أخرى.
لا يبدو دونو متفائلاً، رغم كونه مقاتلاً عنيداً تعرض لملاحقة قضائية من قِبل بعض أقطاب صناعة التعدين بعد إصداره كتاب "كندا السوداء النهب والإفساد والإجرام في أفريقيا". دونو لا يرى أنه سيكون هناك شخصية نيتشويه سوف تقوم بشجب التفاهة، فالاحتقار الذي كان يشعر به الناس في السابق نحو الجبناء والسطحيين والتافهين أصبح مكتوماً إن وجد، وأصبحت التفاهة تتجسد الآن بالمعايير المهنية، وبروتوكولات البحث، وغيرها من قوانين السوق المفروضة فرضاً على الإنسان.
يقودنا كتاب "نظام التفاهة" إلى التفكير بكل ما يحيط بنا: السياسة، والاقتصاد، والتجارة، والكتب، والتلفزيون، والعمل، والصحافة، والشبكات الاجتماعية، واللغة، واضمحلال الحرفة، وظهور المهنة، وسيطرة النظام الرأسمالي، وحرصه على تنظيم السوق، وضبطه على هواه.
وفي ختام الكتاب يطرح دونو سؤاله: "ما الذي يمكننا عمله؟"، ثم يستدرك حالة الفردانية التي غزت العالم ككل، فيعيد السؤال: "ما الذي يمكنني أنا فعله؟"، ثم يقدم إجابته: "هذا السؤال الفقير يكشف عن الحالة التي قام النظام الحالي باختزالنا إليها، ومع ذلك فإن السؤال يرفع من وعينا السياسي والاجتماعي. كيف يمكننا تفسير أننا في وضع ساكن، في عالم كانت فيه أفظع الكوارث متوقعة منذ عقود؟ أنا النكرة المسكين، ما الذي يمكنني عمله بهذا الصدد؟ التوقف عن السخط، والعمل بلا هوادة لخلق توليفة من القضايا الوجيهة، التقي آخرين في تجمعات بخلاف تلك الطائفية والشللية، اسخر من الأيديولوجيات، تجاوز أساليب السيطرة التي تمارسها المنظمات، وحاول خلق بُنى تشبهنا. كن راديكالياً".
يظل ما يجب التوقف بشأنه هو الترجمة، إذ ترجمت وعلقت مشاعل عبد العزيز الهاجري، وهي أستاذة في القانون بجامعة الكويت. وفي حقيقة الأمر ترجمتها الرفيعة، بما فيها الهوامش الدقيقة التي حرصت من خلالها على إيضاح فكرة المؤلف، بدت أشبه بمحاكاة والتحام صادق مع أفكار الكتاب ككل، خصوصاً أنها تكشف في مقدمتها مدى إعجابها بأفكار الفيلسوف آلان دونو، وأنها كانت ستضع في يوم ما كتاباً يتضمن أفكاراً مشابهة، ولمّا وجدت ما تودّ قوله في كتاب دونو هذا، آثرت ترجمته وتقديمه إلى القارئ العربي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.