تنسيق المرحلة الأولى 2025.. قرار من التعليم العالي بشأن تقليل الاغتراب    برلماني: المشاركة في انتخابات الشيوخ واجب وطني ورسالة لوحدة الصف    تجهيز 476 لجنة انتخابية ل«الشيوخ».. 12 مرشحا يتنافسون على 5 مقاعد فردي بالمنيا    بعد تأكيد الحكومة تجاوز الأزمة.. هل الأسعار في طريقها للانخفاض؟    الري: تنفيذ 87% من قناطر ديروط الجديدة.. وفتح بوابات قنطرة الإبراهيمية    في يوم حقلي بالبحيرة.. "الزراعة" تقدم هجن طماطم مصرية جديدة بإنتاجية عالية    عائلات المحتجزين الإسرائيليين تطالب حكومة نتنياهو بوقف «الجنون» في غزة    عبد المنعم سعيد عن منظمي الوقفات الاحتجاجية أمام سفارة مصر بتل أبيب: لا يستحقون عناء الرد    حكومة غزة: 73 شاحنة مساعدات دخلت القطاع يوم الجمعة ونهبت أغلبها    نقابة الموسيقيين تعلن دعمها الكامل للقيادة السياسية وتدين حملات التشويه ضد مصر    تفاؤل في لوس أنجلوس بإتمام صفقة سون    بدون ربيعة.. العين الإماراتي يهزم إلتشي الإسباني وديا    استقبال رسمي لبعثة التجديف بعد التألق في دورة الألعاب الأفريقية للمدارس    مهدد بالحبس.. القصة الكاملة لاتهام أشرف حكيمي بالاغتصاب خلال889 يوما    وزير الشباب والرياضة يفتتح ملعبًا بمركز شباب المعمورة - صور    انفاتينو يقضي إجازته في العلمين.. ومدبولي يهاتفه    إصابة 5 أشخاص إثر حادث انقلاب سيارة ميكروباص في الشرقية    تراجع منخفض الهند «عملاق الصيف».. بيان مهم بشأن حالة الطقس الأسبوع الجاري    إصابة 9 أشخاص في حادث انقلاب ميكروباص بالشرقية    حكم بعدم دستورية قرار وزاري بإنهاء عقود الوكالة التجارية لمجاوزته حدود القانون    حفل أسطوري .. عمرو دياب يحقق أعلى حضور جماهيري في مهرجان العلمين    نادية مصطفى تنعي محمود علي سليمان: رحل صاحب السيرة الطيبة والخلق الرفيع    ريستارت يصعد للمركز الرابع في شباك التذاكر.. والمشروع X يتراجع للمركز الخامس    وفاء عامر تنفي سفرها للخارج: أنا داخل مصر وأثق في نزاهة القضاء    رئيس جامعة بنها يصدر قرارات وتكليفات جديدة في وحدات ومراكز الجامعة    من الطور إلى نويبع.. عروض فنية ومواهب طفولية تضيء جنوب سيناء (صور)    لا تتسرع في الرد والتوقيع.. حظ برج الجوزاء في أغسطس 2025    أفضل أدعية جلب الرزق وقضاء الديون وفقًا للكتاب والسنة    ما حكم الدعاء داخل الصلاة بقضاء حاجة دنيوية وهل تبطل الصلاة بذلك؟.. الإفتاء تجيب    صلاة الأوابين.. الأزهر للفتوى يوضح أهم أحكام صلاة الضحى    الصحة: فحص 18.4 مليون مواطن ضمن مبادرة الأمراض المزمنة والاعتلال الكلوي    الصحة تُطلق منصة تفاعلية رقمية بمستشفيات أمانة المراكز الطبية المتخصصة    ولادة طفل من جنين مجمد منذ 30 عاما|القصة الكاملة    3 مستشفيات تعليمية تحصد جوائز التميز من المنظمة العالمية للسكتة الدماغية    استجابة ل1190 استغاثة... رئيس الوزراء يُتابع جهود اللجنة الطبية العليا والاستغاثات خلال شهر يوليو 2025    طعنة غادرة أنهت حياته.. مقتل نجار دفاعًا عن ابنتيه في كفر الشيخ    النقل: استمرار تلقي طلبات تأهيل سائقي الأتوبيسات والنقل الثقيل    «الخارجية الفلسطينية» تحذر من دعوات تحريضية لاقتحام واسع للمسجد الأقصى غدا    الاستعلامات: 86 مؤسسة إعلامية عالمية تشارك في تغطية انتخابات الشيوخ 2025    هل يشعر الأموات بما يدور حولهم؟ عالم أزهري يجيب    مراسل إكسترا نيوز: الوطنية للانتخابات تتواصل مع سفراء مصر بالخارج لضمان سلاسة التصويت    تعاون بين «الجمارك وتجارية القاهرة».. لتيسير الإجراءات الجمركية    المصريون بالسعودية يواصلون التصويت في انتخابات «الشيوخ»    انطلاق قمة «ستارت» لختام أنشطة وحدات التضامن الاجتماعي بالجامعات    «بيت الزكاة والصدقات»: غدًا صرف إعانة شهر أغسطس للمستحقين    تنسيق المرحلة الثانية للثانوية العامة 2025.. 5 نصائح تساعدك على اختيار الكلية المناسبة    شكل العام الدراسي الجديد 2026.. مواعيد بداية الدراسة والامتحانات| مستندات    أيمن يونس: شيكابالا سيتجه للإعلام.. وعبد الشافي سيكون بعيدا عن مجال كرة القدم    النشرة المرورية.. سيولة فى حركة السيارات على طرق القاهرة والجيزة    22 شهيدا في غزة.. بينهم 12 أثناء انتظار المساعدات    زلزال بقوة 5.6 درجة يضرب قبالة سواحل مدينة كوشيرو اليابانية    ترامب يخطو الخطوة الأولى في «سلم التصعيد النووي»    تعرف على أسعار اللحوم اليوم السبت 2 أغسطس 2025    90 دقيقة تأخيرات «بنها وبورسعيد».. السبت 2 أغسطس 2025    رسميًا.. وزارة التعليم العالي تعلن عن القائمة الكاملة ل الجامعات الحكومية والأهلية والخاصة والمعاهد المعتمدة في مصر    «خدوا بالكم منه».. إعلان عودة معلول ل الصفاقسي يهز مشاعر جماهير الأهلي    سعر الذهب اليوم السبت 2 أغسطس 2025 يقفز لأعلى مستوياته في أسبوع    محافظ سوهاج يقرر غلق محلين بسبب مشاجرة بعض العاملين وتعطيل حركة المواطنين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



آلان دونو يعلن زوال المفاهيم ورواج السطحية
نشر في صوت البلد يوم 31 - 05 - 2020

تبدو في هذه الآونة قراءة كتاب "نظام التفاهة"، بعنوانه الغريب والمستفز (دار سؤال 2020) لمؤلفه آلان دونو، محفوفة بمخاطر فخاخ طرح أسئلة مهمة وملحة تحضر مع كل فصل، في وقت تواجه فيه الإنسانية جمعاء لحظة مفصلية على مستوى طرح سؤال جوهري عن مدى صواب أنظمتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي بدت كلها مهتزة في مواجهة وباء فرض نفسه بقوة على العالم بأسره، ووضع الحكومات أمام مرايا شفافة وكاشفة، لمأساة تفضيل المادة عن الإنسان.
آلان دونو، وهو أستاذ فلسفة بجامعة كيبك الكندية، أكاديمي وناشط معروف بتصديه إلى النظام الرأسمالي، يعتبر أننا نعيش "مرحلة غير مسبوقة"، أدت إلى "زوال المفاهيم العميقة، وحلول السطحية مكانها"، وهذا لا يحدث على مستوى الأفراد، بل على مستوى الدولة الحديثة ككل، إذ تدهورت المستويات الرفيعة للمفاهيم والقيم، وحل مكانها نظام سطحي هش يُعلي من شأن الرداءة، ولا يستنكر التفاهة، لأن كل هذا يخدم في النتيجة أغراض السوق.
خُذ الكتاب بقوة
بهذه الفكرة الرئيسة يواجه هذا المفكر قراءه، مُعتبراً أن ثمة لعبة تهيمن على كل نشاط إنساني، سواء في السياسة أو الإعلام أو التجارة، أو غير ذلك، إذ لا تُجرى المجاهرة بقوانين هذه اللعبة أو الأطر العامة لها، بل تُمارس فعلياً حين تُستبعد القيم من الاعتبار، ويهيمن مقياس الربح والخسارة، ويُدير اللعبة أولئك الأشخاص الطامحون إلى النجاح السهل والسريع، وتكون لغتهم "اللغة الخشبية"، أي المحملة بالحقائق وتأكيدات المؤكد، إنه ذاك الخطاب الأجوف الصالح لكل زمان ومكان. وبالنسبة إلى السلطة، فإن الشخص التافه هو الفرد المعتاد الذي يستطيعون نقل تعليماتهم من خلاله، بما يسمح بترسيخ نظامهم. بالتالي يؤدي قانون المصالح هذا إلى تشوه الجسد الاجتماعي العام، وإلى انكفاء الفرد الجاد والحقيقي على نفسه، وانسحابه بالتدريج من المجتمع، لأنه محاط بأشخاص ينطبق عليهم قول نيتشه "يُكدّرون مياههم كي تبدو عميقة".
تطور تدريجي
ويرى المؤلف أن لورنس ج بيتر وريموند هال هما أول من لاحظ التطور التدريجي للتفاهة، الذي شق طريقه بعد الحرب العالمية الثانية، ويتجلى بوضوح في ترك الموظفين ذوي الكفاءة الاعتيادية على الترقي حتى شغل مواقع السلطة، مُبعدين بذلك المنتمين إلى فئة ذوي الكفاءة العالية، وأيضاً فئة غير الأكفاء. يقول: "ما جوهر الشخص التافه؟ إنه القادر على التعرف إلى شخص تافه مثله، إذ يدعم التافهون بعضهم بعضاً، فيرفع كل منهما الآخر، لتقع السلطة بيد جماعة تكبر باستمرار، ومع ذلك يجب التنويه إلى أن التافهين لا يجلسون خاملين، بل إنهم يؤمنون بأنهم يعرفون كيف يعملون بجهد".
ينتقد دونو الجامعات الأميركية والكندية والغربية عموماً، معتبراً أنها لم تقم بالدور المنوط فعلاً، وهو مصالحة الطلاب مع ذاك الجزء من أنفسهم القادر على إيجاد الأسئلة الأولية، والأوضاع الجمالية المثيرة القلق، إلى درجة عميقة تدفع بهم إلى البحث والدهشة، واختبار حقول المعرفة التي ربما يظن البعض أنها باردة، مثل الفيزياء. في المقابل يوجد هوس بالحصول على الشهادات الجامعية العالية من ماجستير ودكتوراه، فالجامعة لا تركز على ترسيخ القيم العلمية في مطالبة الطلاب بالتفكير النقدي والفضول المعرفي، "إنما تسطح المعارف من خلال اهتمامها بتعميقها بدلاً من توسيعها"، بالتالي فإن الفقر الفكري في ازدياد، وهذا من أهم أصول التفاهة، لينتهي الأمر بهذه المؤسسات الأكاديمية العليا إلى إنتاج متخصصين ذوي التخصص الضيق، لا علماء ذوي أفق واسع قادرين على التعامل بجدية مع المشكلات الحياتية التي تواجه الإنسانية. فالجامعات أيضاً أصبحت أحد مكونات جهاز اليوم الصناعي والمالي والأيديولوجي. ويقدم دونو مثالاً على ذلك تصريح رئيس جامعة مونتريال، في خريف 2011، حين قال: "إن العقول يجب أن تُفصل وفق حاجات سوق العمل"، ومن هذا المنظور يمكن القول إنّ الجامعات لا تبيع نتاج بحوثها، إنما علاماتها التجارية.
ويرى الفيلسوف آلان دونو وبشكل تاريخي وجمعي أن الفساد يلاعب نفسه بنفسه، ويصل في أي حال إلى نهايته الخاصة، إنه ليس دماراً هامشياً، شراً محدوداً، علامة سطحية. ويستعين دونو بأرسطو لتوضيح فكرته عن الفساد، ففي كتاب أرسطو المعنون "حول الكون والفساد"، يوضح كيف "أن الفساد لا يحدث ببساطة بمجرد أن يتحول الشيء أو يُبلى. بل إن الفساد يقع عندما يتغير الشيء بشكل عميق، حتى لا يعود من الممكن التعرف إلى طبيعته". هنا يظهر عمل الفلسفة التي عليها أن تخرج بمفاهيم جديدة، تُمكن من استيعاب ما أدى إليه الفساد من وجود كيانات جديدة، ومن ثم العمل على عرقلتها مرة أخرى.
ثقافة الترفيه
أما الثقافة، فحدثت تحولات كبيرة لها، حين قلبت إلى مجرد صناعة للترفيه، واستعمار العقول من قِبل الإعلان التجاري، وسيطرة نظام التمويل على الاقتصاد، ويبدو الخطر الذي يواجهه مثقف اليوم، بالغرب كما في بقية أنحاء العالم، يكمن في موقف عام شامل يُسمى "المهنية"، لقد صارت هذه المهنية تقدم نفسها وكأنها التفاف ضمني بين منتجي المعرفة والخطاب من جهة، وملاك رأس المال من جهة أخرى.
لا يبدو دونو متفائلاً، رغم كونه مقاتلاً عنيداً تعرض لملاحقة قضائية من قِبل بعض أقطاب صناعة التعدين بعد إصداره كتاب "كندا السوداء النهب والإفساد والإجرام في أفريقيا". دونو لا يرى أنه سيكون هناك شخصية نيتشويه سوف تقوم بشجب التفاهة، فالاحتقار الذي كان يشعر به الناس في السابق نحو الجبناء والسطحيين والتافهين أصبح مكتوماً إن وجد، وأصبحت التفاهة تتجسد الآن بالمعايير المهنية، وبروتوكولات البحث، وغيرها من قوانين السوق المفروضة فرضاً على الإنسان.
يقودنا كتاب "نظام التفاهة" إلى التفكير بكل ما يحيط بنا: السياسة، والاقتصاد، والتجارة، والكتب، والتلفزيون، والعمل، والصحافة، والشبكات الاجتماعية، واللغة، واضمحلال الحرفة، وظهور المهنة، وسيطرة النظام الرأسمالي، وحرصه على تنظيم السوق، وضبطه على هواه.
وفي ختام الكتاب يطرح دونو سؤاله: "ما الذي يمكننا عمله؟"، ثم يستدرك حالة الفردانية التي غزت العالم ككل، فيعيد السؤال: "ما الذي يمكنني أنا فعله؟"، ثم يقدم إجابته: "هذا السؤال الفقير يكشف عن الحالة التي قام النظام الحالي باختزالنا إليها، ومع ذلك فإن السؤال يرفع من وعينا السياسي والاجتماعي. كيف يمكننا تفسير أننا في وضع ساكن، في عالم كانت فيه أفظع الكوارث متوقعة منذ عقود؟ أنا النكرة المسكين، ما الذي يمكنني عمله بهذا الصدد؟ التوقف عن السخط، والعمل بلا هوادة لخلق توليفة من القضايا الوجيهة، التقي آخرين في تجمعات بخلاف تلك الطائفية والشللية، اسخر من الأيديولوجيات، تجاوز أساليب السيطرة التي تمارسها المنظمات، وحاول خلق بُنى تشبهنا. كن راديكالياً".
يظل ما يجب التوقف بشأنه هو الترجمة، إذ ترجمت وعلقت مشاعل عبد العزيز الهاجري، وهي أستاذة في القانون بجامعة الكويت. وفي حقيقة الأمر ترجمتها الرفيعة، بما فيها الهوامش الدقيقة التي حرصت من خلالها على إيضاح فكرة المؤلف، بدت أشبه بمحاكاة والتحام صادق مع أفكار الكتاب ككل، خصوصاً أنها تكشف في مقدمتها مدى إعجابها بأفكار الفيلسوف آلان دونو، وأنها كانت ستضع في يوم ما كتاباً يتضمن أفكاراً مشابهة، ولمّا وجدت ما تودّ قوله في كتاب دونو هذا، آثرت ترجمته وتقديمه إلى القارئ العربي.
تبدو في هذه الآونة قراءة كتاب "نظام التفاهة"، بعنوانه الغريب والمستفز (دار سؤال 2020) لمؤلفه آلان دونو، محفوفة بمخاطر فخاخ طرح أسئلة مهمة وملحة تحضر مع كل فصل، في وقت تواجه فيه الإنسانية جمعاء لحظة مفصلية على مستوى طرح سؤال جوهري عن مدى صواب أنظمتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي بدت كلها مهتزة في مواجهة وباء فرض نفسه بقوة على العالم بأسره، ووضع الحكومات أمام مرايا شفافة وكاشفة، لمأساة تفضيل المادة عن الإنسان.
آلان دونو، وهو أستاذ فلسفة بجامعة كيبك الكندية، أكاديمي وناشط معروف بتصديه إلى النظام الرأسمالي، يعتبر أننا نعيش "مرحلة غير مسبوقة"، أدت إلى "زوال المفاهيم العميقة، وحلول السطحية مكانها"، وهذا لا يحدث على مستوى الأفراد، بل على مستوى الدولة الحديثة ككل، إذ تدهورت المستويات الرفيعة للمفاهيم والقيم، وحل مكانها نظام سطحي هش يُعلي من شأن الرداءة، ولا يستنكر التفاهة، لأن كل هذا يخدم في النتيجة أغراض السوق.
خُذ الكتاب بقوة
بهذه الفكرة الرئيسة يواجه هذا المفكر قراءه، مُعتبراً أن ثمة لعبة تهيمن على كل نشاط إنساني، سواء في السياسة أو الإعلام أو التجارة، أو غير ذلك، إذ لا تُجرى المجاهرة بقوانين هذه اللعبة أو الأطر العامة لها، بل تُمارس فعلياً حين تُستبعد القيم من الاعتبار، ويهيمن مقياس الربح والخسارة، ويُدير اللعبة أولئك الأشخاص الطامحون إلى النجاح السهل والسريع، وتكون لغتهم "اللغة الخشبية"، أي المحملة بالحقائق وتأكيدات المؤكد، إنه ذاك الخطاب الأجوف الصالح لكل زمان ومكان. وبالنسبة إلى السلطة، فإن الشخص التافه هو الفرد المعتاد الذي يستطيعون نقل تعليماتهم من خلاله، بما يسمح بترسيخ نظامهم. بالتالي يؤدي قانون المصالح هذا إلى تشوه الجسد الاجتماعي العام، وإلى انكفاء الفرد الجاد والحقيقي على نفسه، وانسحابه بالتدريج من المجتمع، لأنه محاط بأشخاص ينطبق عليهم قول نيتشه "يُكدّرون مياههم كي تبدو عميقة".
تطور تدريجي
ويرى المؤلف أن لورنس ج بيتر وريموند هال هما أول من لاحظ التطور التدريجي للتفاهة، الذي شق طريقه بعد الحرب العالمية الثانية، ويتجلى بوضوح في ترك الموظفين ذوي الكفاءة الاعتيادية على الترقي حتى شغل مواقع السلطة، مُبعدين بذلك المنتمين إلى فئة ذوي الكفاءة العالية، وأيضاً فئة غير الأكفاء. يقول: "ما جوهر الشخص التافه؟ إنه القادر على التعرف إلى شخص تافه مثله، إذ يدعم التافهون بعضهم بعضاً، فيرفع كل منهما الآخر، لتقع السلطة بيد جماعة تكبر باستمرار، ومع ذلك يجب التنويه إلى أن التافهين لا يجلسون خاملين، بل إنهم يؤمنون بأنهم يعرفون كيف يعملون بجهد".
ينتقد دونو الجامعات الأميركية والكندية والغربية عموماً، معتبراً أنها لم تقم بالدور المنوط فعلاً، وهو مصالحة الطلاب مع ذاك الجزء من أنفسهم القادر على إيجاد الأسئلة الأولية، والأوضاع الجمالية المثيرة القلق، إلى درجة عميقة تدفع بهم إلى البحث والدهشة، واختبار حقول المعرفة التي ربما يظن البعض أنها باردة، مثل الفيزياء. في المقابل يوجد هوس بالحصول على الشهادات الجامعية العالية من ماجستير ودكتوراه، فالجامعة لا تركز على ترسيخ القيم العلمية في مطالبة الطلاب بالتفكير النقدي والفضول المعرفي، "إنما تسطح المعارف من خلال اهتمامها بتعميقها بدلاً من توسيعها"، بالتالي فإن الفقر الفكري في ازدياد، وهذا من أهم أصول التفاهة، لينتهي الأمر بهذه المؤسسات الأكاديمية العليا إلى إنتاج متخصصين ذوي التخصص الضيق، لا علماء ذوي أفق واسع قادرين على التعامل بجدية مع المشكلات الحياتية التي تواجه الإنسانية. فالجامعات أيضاً أصبحت أحد مكونات جهاز اليوم الصناعي والمالي والأيديولوجي. ويقدم دونو مثالاً على ذلك تصريح رئيس جامعة مونتريال، في خريف 2011، حين قال: "إن العقول يجب أن تُفصل وفق حاجات سوق العمل"، ومن هذا المنظور يمكن القول إنّ الجامعات لا تبيع نتاج بحوثها، إنما علاماتها التجارية.
ويرى الفيلسوف آلان دونو وبشكل تاريخي وجمعي أن الفساد يلاعب نفسه بنفسه، ويصل في أي حال إلى نهايته الخاصة، إنه ليس دماراً هامشياً، شراً محدوداً، علامة سطحية. ويستعين دونو بأرسطو لتوضيح فكرته عن الفساد، ففي كتاب أرسطو المعنون "حول الكون والفساد"، يوضح كيف "أن الفساد لا يحدث ببساطة بمجرد أن يتحول الشيء أو يُبلى. بل إن الفساد يقع عندما يتغير الشيء بشكل عميق، حتى لا يعود من الممكن التعرف إلى طبيعته". هنا يظهر عمل الفلسفة التي عليها أن تخرج بمفاهيم جديدة، تُمكن من استيعاب ما أدى إليه الفساد من وجود كيانات جديدة، ومن ثم العمل على عرقلتها مرة أخرى.
ثقافة الترفيه
أما الثقافة، فحدثت تحولات كبيرة لها، حين قلبت إلى مجرد صناعة للترفيه، واستعمار العقول من قِبل الإعلان التجاري، وسيطرة نظام التمويل على الاقتصاد، ويبدو الخطر الذي يواجهه مثقف اليوم، بالغرب كما في بقية أنحاء العالم، يكمن في موقف عام شامل يُسمى "المهنية"، لقد صارت هذه المهنية تقدم نفسها وكأنها التفاف ضمني بين منتجي المعرفة والخطاب من جهة، وملاك رأس المال من جهة أخرى.
لا يبدو دونو متفائلاً، رغم كونه مقاتلاً عنيداً تعرض لملاحقة قضائية من قِبل بعض أقطاب صناعة التعدين بعد إصداره كتاب "كندا السوداء النهب والإفساد والإجرام في أفريقيا". دونو لا يرى أنه سيكون هناك شخصية نيتشويه سوف تقوم بشجب التفاهة، فالاحتقار الذي كان يشعر به الناس في السابق نحو الجبناء والسطحيين والتافهين أصبح مكتوماً إن وجد، وأصبحت التفاهة تتجسد الآن بالمعايير المهنية، وبروتوكولات البحث، وغيرها من قوانين السوق المفروضة فرضاً على الإنسان.
يقودنا كتاب "نظام التفاهة" إلى التفكير بكل ما يحيط بنا: السياسة، والاقتصاد، والتجارة، والكتب، والتلفزيون، والعمل، والصحافة، والشبكات الاجتماعية، واللغة، واضمحلال الحرفة، وظهور المهنة، وسيطرة النظام الرأسمالي، وحرصه على تنظيم السوق، وضبطه على هواه.
وفي ختام الكتاب يطرح دونو سؤاله: "ما الذي يمكننا عمله؟"، ثم يستدرك حالة الفردانية التي غزت العالم ككل، فيعيد السؤال: "ما الذي يمكنني أنا فعله؟"، ثم يقدم إجابته: "هذا السؤال الفقير يكشف عن الحالة التي قام النظام الحالي باختزالنا إليها، ومع ذلك فإن السؤال يرفع من وعينا السياسي والاجتماعي. كيف يمكننا تفسير أننا في وضع ساكن، في عالم كانت فيه أفظع الكوارث متوقعة منذ عقود؟ أنا النكرة المسكين، ما الذي يمكنني عمله بهذا الصدد؟ التوقف عن السخط، والعمل بلا هوادة لخلق توليفة من القضايا الوجيهة، التقي آخرين في تجمعات بخلاف تلك الطائفية والشللية، اسخر من الأيديولوجيات، تجاوز أساليب السيطرة التي تمارسها المنظمات، وحاول خلق بُنى تشبهنا. كن راديكالياً".
يظل ما يجب التوقف بشأنه هو الترجمة، إذ ترجمت وعلقت مشاعل عبد العزيز الهاجري، وهي أستاذة في القانون بجامعة الكويت. وفي حقيقة الأمر ترجمتها الرفيعة، بما فيها الهوامش الدقيقة التي حرصت من خلالها على إيضاح فكرة المؤلف، بدت أشبه بمحاكاة والتحام صادق مع أفكار الكتاب ككل، خصوصاً أنها تكشف في مقدمتها مدى إعجابها بأفكار الفيلسوف آلان دونو، وأنها كانت ستضع في يوم ما كتاباً يتضمن أفكاراً مشابهة، ولمّا وجدت ما تودّ قوله في كتاب دونو هذا، آثرت ترجمته وتقديمه إلى القارئ العربي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.