«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إن كنت ذاهباً الى جزيرة فأي كتاب تحمل معك؟
نشر في محيط يوم 14 - 07 - 2009

إن ما أعقب الثقافة التي كانت تروي المجتمع والكتاب جوهرها هو ذلك التواصل المقسم الذي بقدر ما يباح فيه كل كلام بقدر ما يكون فيه مستهانا.
هل مازال الرقم ثلاثة يمارس نفوذه السحري على العقول المعاصرة؟ إنه لا يسعنا إلا أن نسجل أن المصنفات التاريخية الفجة التي ترتب التاريخ في أطوار ثلاثة (يكون آخرها بطبيعة الحال أحسنها) تتمتع ببعض الحظوة لدى المتسرعين من الناس الذين يطمئنون بذلك على انضمامهم لعصر الفردوس الجديد.
و يُفترَض حسب هذا التصنيف النمطي المبتذل آن تكون هذه الأطوار الثلاثة هي :مجتمع شفهي (قديم إذ إنه بلا تقنية وبالتالي بلا تقدم وبلا تاريخ وبلا مساواة) يتلوه مجتمع الكتاب (الماضي على الطريق الصحيح نحو التقدم العلمي والحرية والمساواة بفضل المطبعة) ثم يأتي بعد ذلك مجتمع التواصل الإلكتروني.
ويبدو جليا لمن اهتم ولو قليلا بتاريخ الفكر أو تاريخ الحضارات، وبعلم الاجتماع أو الأناسةanthropologie أن هذا التصور شارد في محتواه بل وحتى في المنهج الذي يؤسس له؛ وهذا المنهج الذي يكمن في رسم جداول كبرى للمشهد العام يخلط فيها دون تمييز بين الابتكارات العلمية والتقنية وبين تطور العادات والتقاليد المجتمعية والسياسية من خلال إقامة روابط سببية بين هذه وتلك. إن دور ووظيفة الكتاب والقراءة ومن ثم وظيفة الكتابة لا يمكن مقاربتها بمثل هذه الطريقة المجازفة؛ ففي كل عصر بما في ذلك عصرنا تتعايش العديد من أصناف تواصل المعارف . ويجب الانتباه بالخصوص إلى الروابط المتعددة الأقطاب ذات العقليات المتعددة التي تقام بين التقنيات الحديثة والتحولات المسجلة داخل المجتمعات؛تلك الروابط التي لا تسمح بإرساء علاقة سببية أحادية الجانب بين التقنية والمجتمع.(1)
أما العلاقة بين الشفهي والكتاب فإنها تمر عبر مفهوم للقراءة هو أبعد من أن يكون أحادي المعنى؛ فلقد كانت القراءة في البدء عند اليونانيين القدماء شفهية وبصوت مرتفع(مع فصل وتمييز الحروف والمقاطع اللفظية) في حضور جمهور من المصغين [2] قبل أن تصير قراءة صامتة، أي فردية. فالانتقال من الصوت المرتفع الذي يستدعي النقد والمناقشة في فضاء عام إلى القراءة الصامتة التي لا يمكن أن تصير عامة إلا عند انتهائها يعتبر لحظة ذات معنى في تغير القيم والعادات بل وكذلك في تعريف مصطلحات مثل عام وخاص، وجماعة وفرد، وفي مناهج اكتساب المعرفة.
إننا نميز في اليونان القديمة- النموذج المثالي لفضائنا الديمقراطي- مواقف واضحة التباين بين معرفة تعبر عن ذاتها شفهيا ومعرفة تستدعي استناد كتابة ما. فلدى أفلاطون عديد من النصوص التي تبجل رفعة شأن المعرفة اللاكتابية ascriptural ( إذ تعتبر الكتابة أو النص المسجل عذرا للذاكرة يتسبب في الكسل الذهني)، بل أكثر من ذلك يكون القارئ في مرتبة المأمور، بحيث أنه يخضع للمكتوب الذي هو بصدد قراءته إلى حد يصير معه عبدا للناسخ scripteur، فتكون بذلك العلاقة بين القارئ والناسخ علاقة تلميذ خاضع لمعلمه. وتسمي لغة الإغريق القارئ دون أي حرج في التعبير بالمفعول فيه katapugon . ويوجد الناسخ في موضع قوة بالنسبة للآخرين في حين تعتبر الكتابة للذات فعل استبدال نسخة سيئة من الذاكرة ولعل هذا أصل النعت المحتقر الذي وجهه أفلاطون لأرسطو حين قال عنه إنه قرّاء، وهذا النعت الذي قد نرى فيه نحن اليوم نوعا من المدح نكتشف أنه يتضمن ذما .
ويكون الفضاء العام الناشئ إذا هو الفضاء الذي تتجابه فيه حجاج شتى ضمن مناقشة يطبعها حسن النية بخصوص خطاب ملفوظ أو نص قرء جهرا (مثل فيدر الذي قرأ نص سيده ليزياس ضمن محاورة افلاطون التي تحمل اسمه).
يمكن أن تكون المناقشة شفهية أو كتابية في مسلسل النقد الذي يوجهه الكتاب الفلاسفة إلى أسلافهم أو معاصريهم.إن نقل هذا النقد في محاورات (أفلاطون) وتلبيسه في مسرح هزليات (أرسطوفان) تبينان الرباط المركب الذي يعقد بين الكتاب والكلام والمناقشة النقدية وهكذا تتراءى نصوص للقراءة متنوعة وملموسة بشكل متزامن ،و مرتبطة بالموقع الاجتماعي والحرفة وكذا بالنظام السياسي والديني. وإذا كان النص العامي lac موضوع مناقشات عمومية، فالنص الديني يعرض الكتاب الحق الذي يتبعه بالحرف قراء خاضعون؛ فتكون القراءة صامتة أو بوشوشة في إسرار قراءة حرفية ليقفل الفضاء العام لمدة من الزمن ويكف عن تقديم مقتضيات فضاء للمناقشات النقدية.
القارئ المؤول
لم يكن الشارح (للنصوص المقدسة أو لتلك التي كانت تعتبر منيعة مثل نصوص أرسطو ذاك المنعوت بالقراء) يحيد قيد أنملة عن الخط المرسوم فوجب بذلك التمرد على هذه القراءة الخنوعة واستدعاء تصور التأويل من أجل استعادة معنى الفضاء العام. ومن أجل إسناد هذا التحرير للقارئ سنكتف بالاستشهاد بسبينوزا حيث يقول: على كل واحد أن يحفظ حرية رأيه وحكمه وقدرته على تأويل الإيمان كما يفهمه ويمكن بل يجب منح الحرية الفردية للجميع من طرف الجماعة العموميةثميجب على القوة السائدة أن تدع لكل واحدالحرية في اعتقاد ما يشاء وفي التعبير عن فكره[3].إن سبينوزا يدفع بذلك كل صغار في الارتباط بالنصوص وكل إذعان للتطير أو للنبوءات...
إن التأويل قراءة ناقدة أو قراءة ثانية بل إنها كتابة ثانية كما يحلو ذلك لبارت. فيفترض أن يكون التأويل بهذه الحال لا نهائيا إذ يستدعي كل نص تأويلا يصير هو ذاته موضوع تأويل أخر...فللكتاب سلالة تكاد تكون بلا حد من خلال جمهور القراء المؤولين المتميزين تمييزا عن أولئك المفعول فيهم. إن التأويل عنصر فاصل في الفضاء العام الحر والناقد؛ غير إن المسألة لا تنحصر مع ذلك في مهارات المؤول بل فوق ذلك يجب أن يكون الفضاء العام-فضاء الأنوار- مايزال له وجود في الواقع. والمسألة ليست بتلك البساطة؛ فإذا كان القارئ المؤول مازال موجودا باعتباره عنصرا فعالا فإن الفضاء العام قد تبدل وقد غدا بعد الآن مجزئا إلى أقصى الحدود، بل قل إنه تلاشى وذاب...
إن كل ما يوجد هو شرح، ولا وجود للنص الابتدائي المطلق الذي يُفترض فيه أن يكون الضامن القطعي لحقيقة وجب رفع الحجاب عنها. فبعدما سجل موسى وصاياه العشر التي أملاها الرب اغتاظ على هارون وعجله الذهبي فرمى بالألواح المتضمنة للوصايا وتفتت إلى ألف جزء يستحيل ضمها إلى بعضها؛ مما اضطر موسى إلى إعادة نقلها على ألواح جديدة اعتمادا على ذاكرته. والنص الذي بين أيدينا اليوم هو ذات النص المنسوخ استظهارا. فالقصة التي يرويها العهد القديم محملة بالمعنى : لا يمكننا أبدا معرفة الأصل إلا من خلال الارتجال والبناء والشرح.
وإذا كانت فكرة ارتقاء مطلق يكاد يكون سماويا،أي فكرة جدة جذرية قد شكلت جزء امن أخرويات القرن العشرين-كالشيوعية أو الفاشية- فإنها غدت بعد اليوم بائدة. الأنبياء الوحيدون الباقون في عصرنا هم علماء التقنية الذين يحتفون بكل جديد تكنولوجي في مجالات الاتصال .ففي السنوات الستين سيكون التلفزيون هو من سيغير نظام العالم؛ وفي السنوات السبعين سيكون الهاتف التلفزيوني؛وفي الثمانينيات المانيتوسكوب والفيديو ؛أما في التسعينيات فهو الانترنيت.كل عقد من الزمن كان يهتز على صيحات الخلاص هذه .فها هي السعادة قادمة والمساواة والانسجام الاجتماعي ونوع من التفاهم الشفاف بين كل الناس فوق هذه الأرض. فالتقنية تقوم بواجبها بضبطها مباشرة للمشاكل الاجتماعية كما العلاقات بين الأفراد.
إن للقارئ المؤول متطلبات أخرى فهو يعي كم يلزم من الوقت ومن المسافة ومن المحاذير حتى يبلغ بعض الإثباتات؛ تماما مثل العالم الذي يعرف أن علمه وقتي بين علم الماضي الذي تمكن من دحضه وعلم المستقبل الذي سيدحض علمه هو. القارئ المؤول الحديث يقرأ على انفراد في خلوة مع النفس وربما كان في مكتب عمله بل وكذلك في الشارع وفي المقهى وعلى الشاطئ. لا يهم الضجيج وتحرك الآخرين ولا حتى إزعاج الهذر الخارجي. يكفي أن يكون هادئا ومستعدا وجاهزا. كل ذلك مرتبط طبعا باختلاف الثقافات؛ أعني العادات.فإذا كان المترو في طوكيو مكان للنوم فإنه في فرنسا مكان للقراءة كما هو الحال عند الحلاق أو في المقهى.
إن للقراء المؤولين قراءة مختلفة بحسب كونهم يكتفون بالقراءة أو أنهم يكتبون أيضا. فالكاتب سينظر أولا إن كان يُستشهد به وهو ما قد يقوده من اللامبالاة إلى العداوة، وسيتفحص الاستشهادات الأخرى والمواد المشكلة للكتاب.و بعد قراءة متنبهة للفهرس وللغلاف ولفصل أو فصلين سيستنبط توجه الكتاب. قد يقرأ المؤول الكاتب بانتباه فقرة تلو فقرة والقلم في يده ليضع خطا تحت المقاطع المهمة أو للاعتراض عليها. إنها جعل القراءة أداة في خدمة كتابته النثرية القادمة. لكن هذه القراءة التي تقدم ميزة الخطوة خطوة المتينة تقدم كذلك عيب البطء الشديد. والحضور القوي للآخر تحول دون أن يفكرالمرء بنفسه.
سيملك شخص آخر كتابا ويرفض قراءته طالما لم ينته من كتابته؛ لكن الأمر لا يهمه كثيرا لأنه يعلم أن كل شيء هو دائما شرح وأن شرحه هو سيكون بالضرورة مغايرا للنصوص التي سبقته كما يعلم أنه من الأفضل القراءة جانبا lire ê ct بدل القراءة داخلlire dedans متخلصا بذلك من دوار القراءة داخل الأشبه ما يكون بالتنويم المغناطيسي والذي ينقلك خارج ذاتك وبعيدا عما تريد فعله وما ترتبط به.
على البحث والخيال أن يبقيا على الجانب من هذين القطبين المفرطين أي التوثيق المستنفذ الذي قد نغرق داخله والقراءة جانبا التي قد تغدو نوعا من الصيد بالصنارة.
إننا لن نبجل هنا المصادفة لأننا نعلم جيدا خصوصية المكتبات ورفوفها حيث نمضي إلى بعض المكتبات ولا نمضي إلى أخرى وإلى بعض الرفوف دون غيرها وهكذا يمكن تشجيع بروز ضربة الحظ وظهور الكتاب الجيد الذي قد يوافق حتى لو لم يكن ما يفيد فيه بحق غير فقرة واحدة أو فصل واحد. لكنها وقت إذ الفرحة والسقوط في النشوة هذا ما كنت أبحث عنه ولم أجده منذ ستة شهور نفس الأمر بالطبع على الانترنيت حيث يمكننا دوما ممارسة نوع من الترحال الغير المنتظم والذي ينتهي بنا مع ذلك إلى الاستخبار عن الموزع serveur المناسب ومن ثم الالتزام باستخدامه لوحده.
إن القراءة الاحترافية قراءة أداتية نفعية ستميل إلى إبعاد ما لن يكون مفيدا للكتابة القادمة بينما سيستقبل القارئ الأمين بحفاوة كل كتاب قابل لأن يقدم معلومة جديدة أو إدراكا حديثا أو رؤية مختلفة للعالم.
المهم هو أن كل هذه الأصناف بتشعيباتها تشكل جزءا من مناقشة داخل الفضاء العام وإن كان ذلك بصيغ متباينة. لكن هل بقي هذا الفضاء العام هو ذات الفضاء العام لعصر الأنوار؟(قد نتساءل أيضا إن وجد أصلا في يوم من الأيام الفضاء العام الموحد) لكن لنطرح هذا الافتراض:الفضاء العام كما عرفه هابرماس[4] هو مكان رمزي يشق فيه العقل العام لنفسه طريقا عبر المناقشة بعيدا عن المصالح الخاصة والمشاريع الحرفية.إنه مكان تبادل العقل العام وليس من قبيل المصادفة أن يهتم هابرماس لاحقا بهذا العقل التبادلي raison changiste الذي سماه بالتواصل النشيط communication active.[5]
تعرض هذا العقل العام الموحَّد والموحِّد الذي تجسده الدولة الهيغيلية الناشئة لإصابات عديدة؛ أولا بالأفضلية الممنوحة للنجاح بالنسبة للوفاق، ثم وبخاصة لأن الفضاء العام نفسه قد تغير أو على الأقل قد عمق تقسيماته.
لا بد أن نسجل قبل كل شيء صفته التجزئة فيه فقد كان الفضاء العام هو الوصول الكل المتساوي لمصادر محدودة:القليل من الكتب ومن المسرحيات والتمثيليات الغنائية ثم في ما بعد القليل من الأفلام القيمة وقنوات تلفزية ناذرة.كان بالإمكان فتح مناقشة حول نفس المواضيع. داخل ساحات الاستراحة كان التلاميذ قد رأوا نفس الفيلم على التلفزيون وكان يتحدثون عنه ونفس الأمر بالنسبة للمدرسين في قاعات الأساتذة والعمال في ورشاتهم. أما اليوم لم يعد احد يرى نفس الفيلم أو يمتلك نفس المعلومات بسبب تعدد القنوات المبرومة والأقمار الاصطناعية والرقمية والإنترنيت.
إن الإفراط في المعلومة يقتل المعلومة. هذا الأمر ينطبق كذلك على الكتاب فباعة الكتب مثقلون بمؤلفات غير متساوية القيمة. كيف يمكن الاختيار والاهتداء بينها؟ كانت القنوات تقدم قديما برامج جيدة لنقد الكتب.ما زالت هذه البرامج إلى يومنا لكنها تأخر إلى ساعات متأخرة من الليل. إن الكتاب لا يموت من النقصان بل من الإفراط. هناك عدد أكبر من الكتاب وعدد أكبر من المؤلفات وعدد أقل من النسخ المطبوعة [6] ومن ثم أثمان مرتفعة وقراء أقل.إن الإشباع والتجزئة اللامتناهتين لأماكن المناقشة والنقد هما الخطران الذين يهددان الكتاب.
مواجهة افتراضية
لكن هناك نظاما شموليا جديدا قد انطلق وإنا لا أفكر هنا في الفتوى التي أصدرها الخميني ضد الكاتب سلمان رشدي ثمرة نزعة شمولية صلبة وقاسية totalitarisme hard بل بالأحرى أفكر في ألان دولون وفي النزعة الشمولية اللينة totalitarisme soft القصة معروفة أراد صحافي كتابة سيرة الممثل ألان دولون فسلم مخطوطته لناشره بهذه النية. علم دولون بالأمر فتوصل بالكتاب ثم طلب بأن لا ينشر الكتاب (الذي لم يوجد بعد). بالفعل ردت دعوى دولون من طرف المحكمة الإبتدائية لكنها كانت المرة الأولى التي أريد فيها منع كتاب لم يكن قد كتب. تلك فضيحة كبرى بالنسبة للقانون العام التقليدي الذي يجعل الوقاية مقابلا للقمع في مجال الحريات العامة المكونة للفضاء العام . إن النظام الشمولي نظام وقائي يمارس الرقابة على كل ما لا يسير مستقيما. تلك عودة لنموذج قانون المشبوهين في الثورة الفرنسية الذي كان بإمكانه جر أي شخص مشبوه في خلافه مع الثورة إلى المحاكم والحكم عليه بالموت. أما النظام الليبرالي فعلى العكس من ذلك نظام قمعي يردع بعد ما تكون الجنحة قد تشكلت .ذلك دور قضاة القضايا المستعجلة الذين يوقفون على وجه العجلة كتابا قيد النشر.
وفي حال الشك يمكن لقاضي المستعجلات أن يلحق القضية بالمحكمة المختصة وانتظار أن يأخذ القاضي المختص وقته ليحلل النص المجرَّم بدقة وإحكام.إن هذا التوازن الهش لنظام الحكم هو ما يُتَّهَم من خلال محاولة هذا الممثل . إننا حين نتحدث عن الفضاء العام فإننا نتحدث عن الحرية في إطار القانون: ذلك القانون-الحرية الذي هذبته عشرات السنين والذي قد يتم اليوم تحويله عن اتجاهه.
ثم إن مفهوم الفضاء العام ذاته قد أسيئت معاملته . فإذا كان في تعريفه يعتبر فضاء شاملا وكليا مفتوحا للجميع في كل نقاطه فإنه صار على الأنترنيت مكانا خاصا وشخصيا بما أن بلوغه يتطلب الأداء والموزع الالكتروني وبما أن الناس الدردشة داخله تتم في صيغة مواجهة افتراضية.والحال أن الفضاء العام هو بعكس ذلك تماما: إنه فضاء تصاغ فيه لحقيقة المدينة أمام جمهور الشعب المجتمع Agora أو أمام جميع ممثليه (غرفة النواب) فما عمومي ليس ما هو كلي وشامل .فعمومية الوصول للانترنيت التي تتلاشى بغياب التساوي في المعارف وبالفوارق الاجتماعية ليست كلية وشمولية.[7)
لكن بالمحصلة هل يعمل الانترنيت على إنجاح الكتاب؟ الجواب لا لأن الانترنيت مكتوب- شفهي (أي مكتوب بأسلوب المحادثة) لا لأنه يساهم في تعميق تجزئة الفضاء العام إلى عشرات الملايين من الفضاءات الزمانية العالمية.لكنه يشجع الثقافة والانفتاح على الآخر وفورية الوصول إلى النصوص (بما في ذلك الكتاب) التي لم تكن لتعرف أبدا لولاه أو لربما عرفت بعد التأخر الكبير للترجمات .إن نقدنا للتكنولوجيات الجديدة (بما فيها القنوات التلفزية المتشظية) أقل من نقدنا للخطابات التوفيقية والتبريرية والكاذبة المصاحبة لها.
كل يعرف السؤال التقليدي: إذا كان عليك العيش في جزيرة خالية ما هو الكتاب لذي قد تحمله معك؟ صار هذا السؤال اليوم مختزلا ومبسطا : لو كان الذهاب إلى جزيرة خالية ما هي الأشياء التي قد تحملها معك؟ سيكون الجواب:حاسبي المحمول، وهاتفي المحمول؟و الكتاب؟ سيكون بالتأكيد هناك كتاب، لكن أي كتاب؟ إنه لن يكونا كتاب الجار ولا كتاب الزميل أو ابن العمومة؛ بل سيكون كتابا مجهولا من بين ملايين الكتب التي أثمرتها التجزئة المفرطة للفضاء العام.
** ترجمة المبارك الغروسي
** منشور بصحيفة "القدس العربي" 14 يوليو 2009


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.