في بعض الأحيان، تكون النهايات مدهشة كما البدايات، بل إن النهاية تحمل في حدوثها فعل صدمة قد لا تحمله البدايات التي تتواطأ فيها أحداث وملابسات تجعل العالم يغض الطرف عنها.. لم نكن نعرف الكثير عن ليلي بن علي، حتي لحظة السقوط، وبداية النهاية، بعدها ظهر كتاب "حاكمة قرطاج" لكاتبيه نيكولا بو وكاترين جراسييه، وانتشر علي صفحات الإنترنت وكشف وقائع حياة تلك الحاكمة. وبالطبع ستظهر كتب أخري علي غرار هذا الكتاب تضيف وتحذف، تقدم وتؤخر من الأحداث والذكريات. كتاب "حاكمة قرطاج" يحكي عن سلطة ليلي بن علي وفساد عائلتها، وسيطرتها علي مقاليد الحكم في تونس.. وتقول المؤلفة المشاركة كاترين جراسيه إن ما ورد في الكتاب من معلومات ثمرة تحقيقات جادة، وأن الهدف منه هو رفع النقاب عن النظم التي تسير بها تونس. وأضافت أن الكل يتحدث عن الرئيس بن علي ولا أحد يذكر زوجته وما لها من دور سياسي مهم جدا يحدد مصائر البعض وينهي مسيرة آخرين ولها أيضا دور في استحواذ عائلتها علي الثروات الاقتصادية.. مشيرة إلي أن من موقعها حقق الكثير من الصفقات المشبوهة. لكن: ماذا سيحدث حين تظهر ليلي بن علي بعد سنوات طويلة لتكتب مذكراتها، بعد أن يمر زمن علي الأحداث وتنطوي صفحة الآن؟ وهل ستكون لديها الجرأة لتفعل ذلك كما فعلت "فرح ديبا" إمبراطورة إيران السابقة، والتي يتشابه خروجها من إيران، مع خروج ليلي بن علي من تونس؟ ففي كلا الحالتين كانت هناك ثورة وانقلاب علي الرئيس والإمبراطور، ومطالبتهما بمغادرة البلاد. ومع الفارق الزمني في الأحداث بين 1979 سنة مغادرة الأمبراطور الإيراني المخلوع وقيام الثورة الإيرانية، وبين 2011 سنة طرد الرئيس التونسي واندلاع ثورة الياسمين في تونس، فإن كلاهما رحل عن بلده بشكل يشينه تاريخيا، كلاهما تنقل من بلد إلي آخر بحثا عن بلد يستضيفه. لكن من المتعارف عليه أن أي شخص لا يقدم بسهولة علي كتابة مذكراته؛ لأن فكرة كتابة المذكرات تأتي من قناعة الشخص أن لديه أشياء مهمة في حق التاريخ، وكان شاهدا عليها، ويجب ألا تنطوي مع رحيله لأن البوح بها سوف يكشف حقائق مهمة للأجيال القادمة. من هنا تحظي كتب السير والمذكرات بنسبة كبيرة من القراءة، يقبل علي اكتشافها العامة والخاصة لمعرفة كيف عاش أصحاب هذه المذكرات. يمكننا ملاحظة أهمية المذكرات في الحياة السياسية عندما يكتب السياسيون مذكراتهم في الطفولة، أو كيف وصلوا إلي الحكم مثل مذكرات الرئيس أوباما (أحلام من أبي)، وأيضاً حين يكون السياسي شاهدا علي مراحل سياسية مضطربة كما في مذكرات كلينتون. لكن ربما يأتي وقت تكتب فيه حاكمة قرطاج مذكراتها من وجهة نظرها الشخصية، دفاعا عن نفسها، تجميلا لصورتها أو لأي سبب آخر لا نعلمه. """ منذ أسبوع، وقع بين يدي كتاب مذكرات فرح ديبا، زوجة شاه إيران السابق محمد رضا بهلوي. تحكي الشاهبانو، وهذا كان لقبها بعد زواجها من الشاه ويعني (الملكة) باللغة الفارسية، كيف تعرفت علي الملك، وكيف تزوجته، بعد أن كانت مجرد طالبة هندسة بسيطة من أسرة متوسطة الحال، لتنتقل بعد هذا الزواج لتقيم في قصر (المرمر)، وهو قصر العائلة المالكة الإيرانية. أتي زواج فرح ديبا من شاه إيران بعد إخفاقه بزيجتين؛ الأولي من الأميرة فوزية أخت الملك فاروق وأنجب منها ابنة وحيدة هي شاهناز، ثم تزوج الشاه بعدها (ثريا) وهي من أم ألمانية وأب فارسي، التقي بها الشاه في سفارة إيران في ألمانيا حيث كانت تعمل هناك، بهره جمالها الذي يجمع بين الشرق والغرب فتزوجها، ومنحها أيضا لقب إمبراطورة، وكان ينتظر أن تمنحه ولياً للعهد، لكن بعد ثلاث سنوات من الزواج تبين أن ثريا عاجزة عن الإنجاب، فاضطر إلي طلاقها رغم كل الحب الذي حمله لها. وفي مذكراتها، لا تتطرق فرح ديبا إلي هذه التفاصيل، بل تبدأ بسرد ذكرياتها من لحظة مغادرتها إيران برفقة الشاه بعد قيام الثورة الإيرانية، تقول: عندما أتذكر ذلك الصباح من يناير 1979 يعاودني إحساس الحزن الموجع نفسه بكل حدّته، كانت طهران تعاني هجوماً ضارياً منذ شهور، لكن صمتاً متوتراً يخيم الآن علي المدينة كما لو أن عاصمة بلدنا تحبس أنفاسها فجأة، اليوم ال16 من الشهر، ونحن علي وشك مغادرة بلدنا، بعدما ارتأينا ان انسحاب الشاه مؤقتاً ربما يساعد علي تهدئة العصيان المسلح. ثم تعود بذاكرتها لأيام دراستها، ثم لقائها مع الشاه، الذي أعجب ببساطتها وتلقائيتها الشديدة، وهذا أمر طبيعي؛ لأنها لم تكن تنحدر من العائلة المالكة، لذا نظرت للأمبراطور بإجلال كبير ولم تكن تحلم بأن تكون عروسا له، لكن هذا ما حصل، حيث انقلبت حياتها بين ليلة وضحاها بعد إعلان اقتراب زواجها من الملك، تقول: كنت علي وشك أن أصبح ملكة في السراء والضراء، وهو ما لم أكن قادرة علي تخيله. وطلب مني الملك أن أحتفظ بالخبر سراً في الوقت الراهن. لم أستطع أن أخفيه عن أسرتي. كانت سعادة غامرة، وإثارة بالغة. وما إن عدت للمنزل حتي أبلغت والدتي وخالتي بكل شيء، أخبرت خالي أيضاً عندما عاد من مكتبه بعد قليل. وكان واضحاً أن والدتي بوغتت، وأمضت فترة عصيبة تحاول إخفاء قلقها خلف تعبيرات الفرح. شاركتني سعادتي بالطبع، لكنها اعترفت لي لاحقاً بأنها تساءلت فوراً فيما بينها وبين نفسها عما إذا كان والدي ليوافق؟.. كان يقول إن الحياة في القصر تحوطها المكائد، والنميمة في حق هذا وذاك، وان الملكة الأم كانت كذا، والأميرات كذلك.. فتساءلت والدتي: هل تستطيع فتاة ساذجة صريحة مثلي أن تجد لها مكاناً بين أناس نشأوا في البلاط، واعتادوا ألاعيب القوة، والنفاق، واعتبارات الدبلوماسية؟ لكن يبدو أن تلك الفتاة الساذجة والصريحة، التي لم تتربَ في القصور، كانت من الذكاء، وحُسن التصرف أنها تمكنت من الحصول علي اعجاب العائلة المالكة، ونالت رضا حماتها "تاج الملوك"، تلك المرأة المعروفة بطباعها الحادة، وصراحتها الفجة. تصف فرح ديبا هذا اللقاء بقولها: ولاشك أنه في ذلك اليوم رأت الدائرة القريبة من الملك أنني فتاة غير متكفلة، لا تعرف شيئاً عن عالمهم من الحاشية والدبلوماسيين. ومن ضمن أكثر المقاطع تأثيرا في الكتاب، حين تحكي فرح بهلوي عن السبب في كتابة هذه المذكرات، الحفاظ علي ذاكرتها وتاريخ عائلة بهلوي من الفناء، أن تقول لأحفادها إنهم يتحدرون من عائلة ملكية، وأن لهم أصولا عليهم المحافظة عليها، تقول: تقولين إننا إيرانيون، وتخبرينا بأننا أميرتان، لكننا لا نعرف بلدنا حتي. ما هي فائدة اطلاعنا علي كل هذه الصور الفوتوغرافية، وسرد كل هذه القصص علينا، إذا لم نكن نستطيع العودة إلي الوطن. ربما كان تعليقهما هو ما أمدني بالقوة لكتابة هذا الكتاب.. كان علي أن أخبر هاتين الصغيرتين المحرومتين من بلدهما كيف حدث كل هذا.. أن أحاول أن أشرح لهما كيف كان التاريخ قاسياً علي عمتهما ليلي، وظالماً لجدهما الذي تريان وجهه الجاد الصامت يومياً علي مكتب والدهما، وأن أخبرهما بأنهما تستطيعان أن تفخرا بأنهما حفيدتاه، وأن تفخرا بأنهما ابنتا رجل يكافح كي تستعيد إيران الازدهار والمكانة اللذين تمتعت بهما ذات يوم، أن أقول لهما، في الواقع، إنكما تستطيعان الفخر بكونهما إيرانيتين. وبمقدار ما جاءت مذكرات الإمبراطورة السابقة تعبيرا عن حياة شابة من اوساط الشعب، انتقلت فجأة لتصبح ملكة، ثم طريدة مع زوجها الملك في المنفي، فهي ايضا مثلت رؤية لبعض الأحداث في تاريخ ايران، مع تطورات العصر الحديث عقب اكتشاف البترول، ومن ثم الي واحدة من أهم ثورات القرن العشرين وأكثرها اثارة لجدل تواصل حتي يومنا هذا. لكن ما يبدو أنه غاب عن تلك المذكرات، كثير من الجرأة في الاعتراف بالخلل السياسي والاجتماعي الذي كان حاصلا في عهد الشاه، والذي أدي لاحتقان شعبي ضده، وأدي إلي تلك الثورة، تدافع فرح ديبا عن قرارات الشاه، ولا تدين للأحكام العرفية التي كان يصدرها نظامه، بل تبرر هذا بأن كل نظام يحتاج لوسائل تدافع عن وجوده. تمر فرح ديبا مرور الكرام علي أحداث مفصلية ومهمة، وكما لو أنها لم تؤد إلي نتائج جوهرية في حياتها وحياة الشعب الإيراني ككل، بل نراها تركز علي سرد انفعالاتها الشخصية، وأحزانها بعد المنفي، أكثر مما تستعرض بحكمة ونوع من الحياد أخطاء مراحل انتهت.