كانت "عربة الحنطور" ذات الإطارات الخشبية أحد القواسم المشتركة القليلة بين أفلام السينما المصرية القديمة التى تصور بدايات القرن العشرين وما قبلها، وتلك التى تمثل العصور الوسطى فى قارة أوروبا؛ فكانت العربة الصغيرة المزينة بالألوان والزينات التى تجرها الخيول وتتبختر بين الطرقات هى وسيلة الانتقال الأساسية للمواطنين المصريين بين شوارع المحروسة وأزقتها قبل أن تواجه خطر الاندثار عقب دخول أول سيارة حديثة إلى مصر فى عشرينيات القرن الماضى. لم يقتصر استخدام "العربة الملكية" على الطبقة الحاكمة والفئات الأغنى في المجتمع كما يظهر فى الأعمال الدرامية التى تمثل حال ملوك وأمراء أوروبا فى العصور الوسطى والأسرة "العلوية" الحاكمة فى مصر منذ مطلع القرن التاسع عشر، بل استطاعت بخطوات هادئة تشبه خطوات "مُحركها ذي الحدوات" اختراق الحارة المصرية لتصبح "ركوبة " البطل في روايات الروائي المصري نجيب محفوظ الذي لم يغفل دور الحنطور في تحركات أبطال رواياته التى مثلت مرآة للواقع المصري بحاراته وأزقته وأحيائه. ذهبنا لنبحث عن أحد سائقى الحنطور ، فلم نجد منهم الكثير بمنطقة وسط المدينة وحول فنادق القاهرة التى كانوا يصطفون حولها قبل أن يهجرها السياح والمواطنون الراغبون فى التنزه بسبب الأحداث التى تشتهدها تلك المنطقة منذ ثلاث سنوات تقريباً. وجدنا وحيد بدر يجلس بجوار حنطوره أسفل كوبرى السادس من أكتوبر يحتمى هو وجواده وعربته من حر الشمس، وملل انتظار السائحين الذى انخفض عددهم بدرجة كبيرة فى تلك المنطقة؛ يبحث عن زبون الحنطور المفقود فى مناطق الاشتباكات التى اتسعت رقعتها خلال الفترة الأخيرة، فدفعت بسائقى عربات الحنطور للتمركز حول برج القاهرة وميدان الأوبرا والنادى الأهلى وهى المناطق التى تبقت لهم بعد تكرار الاشتباكات فى ميدان التحرير وقصر النيل والمناطق السياحية المحيطة. يقول "زى ما أنت شايف الحالة نايمة خالص، والسياح اختفوا من المنطقة تقريباً، قاعد مستنى رزقى بس الواحد تعب من الشغلانة دي والمنطقة بقت مكروهة من السياح والمصريين" . وحيد البالغ من العمر 45 عاماً بدأ العمل فى تلك المهنة وهو فى السابعة عشرة من عمره مع والده الذى علمه إياها، وساعده حتى أصبح لديه حنطور خاص به؛ يقول وحيد بدر عن ذلك "بدأت المهنة ده من زمان مع والدى وكانت مستورة والحمد لله، لأن الناس زمان كانت بتقضى كل مشاويرها بالحنطور غير إن السياحة كانت كتير والبلد فاضية عكس دلوقت". ثمانية وعشرين عاماً قضاها فى تلك المهنة التى وصفها بأنها "غايته" يتجول بحنطوره الخاص الذى اشتراه وهو فى سن العشرين بين المناطق السياحية بالقاهرة والفنادق الكبرى بالعاصمة ينقل السياح وأحياناً المواطنين المصريين الراغبين فى التنزه والاستمتاع بالهواء على ضفاف النيل فى العطلات والأعياد. يتحدث وحيد عن العائد الذى كانت تجلبه إليه عربة الحنطور قبل أن يهجر السياح وسط القاهرة، فيقول أنه كان من الممكن أن يكسب 150 جنيهاً فى اليوم الواحد يستطيع بها أن ينفق على عربته وجواده ونفسه وأسرته، بينما الآن قد لا يتعدى إيراده اليومى 40 جنيهاً بسبب انخفاض الإقبال على وسيلة الترفيه التراثية وهو ما تسبب فى هجرة الكثير من المشتغلين بتلك المهنة لها. يتابع "أنا متجوز وأنا فى سن 18 سنة وعندى دلوقت عندى 4 أولاد منهم شاب عايز يتجوز، وطبعاً المهنة بالشكل ده مينفعش أنها تعيش أسرة كاملة لأن إيراداتها قلت جداً عن الأول، وأنا ممكن أقعد 3 و4 أيام مشتغلش عشان مفيش حركة فى الشغل". أكد أنه كان يمتلك عربتى حنطور واضطر لبيع واحدة منهما لينفق على نفسه وأولاده بعدما أصبحت المهنة لا تساعده على المعيشة. المواطن المصرى يحب صفة الملكية ولا يفضل العمل عند الآخرين أبداً وهو ما يؤكده سائق الحنطور الذى يرفض فكرة ترك المهنة والعمل فى أى مهنة أخرى، فيقول "بعد م الواحد كان معلم وعنده شغله وملكه يبيعه ويروح يشتغل عن الناس مينفعش". يتحدث عن حال مهنته قبل ثلاث سنوات فيقول أنه رغم قيام الشرطة بالتضييق عليهم ومصادرة عرباتهم فى بعض الأوقات إلا أن هدوء الأوضاع والأمن وحركة السياحة كانت تساعدهم على العمل وزيادة إيراداتهم، ويشير إلى فصل الصيف الذى كان يمثل موسماً لسائقى الحنطور يقومون خلاله بإدخار آلاف الجنيهات لتُعينهم على بقية العام حتى لو انخفضت الإيرادات وقت الشتاء وهو ما لا يحدث الآن. يضيف أن وسط القاهرة كانت تزدحم بسيارات الحنطور التى كانت تتجاوز ال100 عربة ولكن مع تدهور أحوال المهنة وانخفاض حركة السياحة بتلك المناطق تراجعت أعدادها نتيجة قيام العديد من العاملين ببيع عرباتهم واتجاههم لمهن أخرى حتى انخفضت إلى النصف تقريباً. انخفاض إقبال السائحين جعل سائقى الحنطور لا يحددون أسعاراً مرتفعة للتنزه وتتراوح أسعاره ما بين 20 و30 جنيهاً وقد تقل عن ذلك فى أوقات الركود لاجتذاب الأسر المصرية متوسطة الدخل الذين يرغبون فى التنزه فى المواسم والأعياد، يقول وحيد. فى الإعياد تنشط وسائل الترفيه ويزداد إقبال المواطنين عليها، لكن وحيد لا يُبدى تفاؤلاً كبيراً خلال عيد الفطر القادم بسبب أحداث الاضطرابات الأخيرة وخوف المواطنين من تكرارها خصوصاً مع استمرار التوتر بين القوى السياسية، يقول "الناس كلها بقت خايفة من الإرهاب دلوقت ووسط البلد بقت كلها اشتباكات ومظاهرات حتى الفنادق الكبيرة زى شيبرد وسميراميس مبقاش عليها إقبال زى الأول بسبب الهجوم عليها أكتر من مرة عشان كده متضمنش الحال فى العيد هيبقى شكله إيه. يتعامل سائقى عربة الحنطور مع جيادهم معاملة خاصة فدائماً ما يحرصون على تنظيفهم وتجديد "الحدوة" التى توضع فى أقدامهم بالإضافة إلى احتياجهم كل فترة إلى "تصفيف شعرهم" لتتناسب مع وظيفة تلك العربة التى هدفها الأول فى تلك الأيام الترويج للسياحة، بالإضافة إلى التزامهم باشتراطات نظافة وضعتها عليهم الهيئات الحكومية لتسمح لهم بترخيص العربة. لذلك يقول وحيد "الحصان اللى انت شايفه ده بيصرف 1000 جنيه أقل حاجة فى الشهر أكل وتنظيف وحلاقة شعر، واحياناً لما الدنيا تبقى نايمة بشطر استلف علشان اوفره أكله واحتياجاته أحسن يموت منى". سائق الحنطور لا يهمه من يحكم الدولة ولا يُعرف له توجهات سياسية كل ما يشغله أن تهدأ الأوضاع وتنشط حركة السياحة فيزداد إيراده وتتحسن أحوال معيشته. لا يفكر وحيد فى الذهاب لميدان "رابعة العدوية" للمطالبة بعودة مرسى ولا لميدان التحرير لتأييد "الجيش" فانشغاله بأحواله الصعبة، وجواده الذى يحتاج إلى رعاية يومية وعربته التى يحرص دائماَ على تجديدها لتجذب أنظار السائحين، كل ذلك يغنيه ويمنعه عن الانشغال بالأحداث السياسية. يتمنى وحيد أن يتفق الفرقاء السياسيين على رؤية واضحة للمستقبل وأن يعلنوا نهاية العنف الذى استشرى خلال الفترة الأخيرة حتى تهدأ الأوضاع وتنشط السياحة التى تمثل مصدر رزق أساسى له ولملايين غيره من المواطنين.