وسط مد الحنين لعندليب الغناء العربي عبد الحليم حافظ الذي تحل اليوم الذكرى 38 لرحيله عن الحياة الدنيا، تتردد اسئلة عن أسباب عدم ظهور أصوات مثل صوت العندليب الأسمر، فضلا عن غياب ملحوظ لأغان تعبر عن ثورة يناير – يونيو مثلما عبرت أغاني عبد الحليم عن ثورة 23 يوليو، فيما يتساءل البعض عما اذا كنا نعاني من أزمة في المواهب الجديدة على وجه العموم؟!. قد لاتكون مثل هذه الاسئلة لها صلة بالحنين الذي يسكن بين الضلوع ويطل من فسحات العيون لأجيال عاصرت عندليب الغناء العربي، ولعلها ايضا متصلة بأسئلة مثل :"ماذا في هذا "الفتى اليتيم الموعود بالمجد والعذاب" لماذا يتربع في قلوب الملايين وهو الذي رحل عن الحياة الدنيا يوم الثلاثين من مارس عام 1977؟!. أتكون ملامحه المصرية الخالصة والمفعمة بالرومانسية وجسده النحيل الذي فعل فيه المرض افاعيله، أم صوته الصافي بمسحة حزن وحساسية فائقة، أم أنه هو ذاته كان "أيقونة الحنين"؟!.. أم أن السبب أن أحدا من المطربين لم يكن بمقدوره ان يضارع عبد الحليم حافظ منذ ان رحل عن الحياة الدنيا؟!. وإذا كان عبد الحليم حافظ يوصف بأنه "مطرب ثورة 23 يوليو 1952 وابن هذه الثورة وصوتها" فمنذ ثورة 25 يناير2011 وموجتها الثانية في 30 يونيو 2013، لم يظهر صوت مصري يعبر غنائيا عن قوة ما أحدثته هذه الثورة من تغيرات في المجتمع المصري وهي ملاحظة تمتد ايضا لمجالات ابداعية اخرى كالشعر والسينما والمسرح وحتى اللوحات التشكيلية. وفي وقت يتحدث فيه بعض الكتاب عن غياب الابداع او على الأقل عدم ظهور مواهب بحجم ام كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ في فن الغناء، فان هناك اتفاقا على أهمية توفير البيئة الابداعية المواتية لظهور مواهب جديدة في عصر اضحت فيه الموارد البشرية اكثر اهمية من الموارد الطبيعية وغدا الاستثمار في الانسان هو الأكثر فائدة وربحا. وكما يقول الكاتب والمحلل الدكتور وحيد عبد المجيد فان الابداع اذا لم يجد الظروف اللازمة لنموه يموت، فلا تبقى في الأمم التي تفقده قدرة على الحياة، مضيفا في زاويته بجريدة الأهرام: "وفي مصر الآن عدد كبير لانعرفه من الشباب الذين يحتاجون الى من يفتح الأبواب المغلقة امامهم ويوفر لهم الامكانات اللازمة لتطوير قدراتهم الابداعية". وفيما تألقت المطربة المصرية الصاعدة ياسمينا علواني في الموسم الأخير لبرنامج اكتشاف المواهب المعروف "بآراب جوت تالنت" فان صوتها اثار جدلا بين مطربين وموسيقيين عرب بقدر ما اثار اعجاب العديد من المتابعين فضلا عن جدل في بعض الصحف ووسائل الاعلام. وياسمينا التي ظهرت مؤخرا من جديد لتشدو في الحفل الختامي للدورة الثانية والعشرين للمهرجان الدولي لسينما وفنون الطفل تبدو بالفعل من اقوى واعذب الأصوات المصرية الصاعدة في السنوات الأخيرة، غير أن المحك الحقيقي لها كمطربة قد يكون امتلاكها صوتها الخاص بعيدا عن اداء اغاني كوكب الشرق وسيدة الغناء العربي أم كلثوم. ولن تكون الإجابة سهلة أو حاضرة بصورة فورية على سؤال مثل: "هل تكون ياسمينا بشيرا بأصوات مرحلة مابعد ثورة يناير – يونيو كما كان عبد الحليم حافظ صوت ثورة 23 يوليو بما احدثته من تغيرات عميقة في الواقع المصري"؟! غير أن هناك حقيقة لايمكن التغاضي عنها، وهي أن الفن الجديد يأتي جراء هزات عنيفة في اي مجتمع كما يقول مالكولم برادبري وجيمس ماكفارلن في كتابهما "الحداثة". ولايمكن في هذا السياق تناسي أن الفنان المصري الخالد الموسيقار سيد درويش كان ابن ثورة 1919 وصوت هذه الثورة الشعبية التي كانت بمثابة بعث حقيقي لروح الوطنية المصرية، وانعكست آثارها على شتى مناحي الحياة في ارض الكنانة. وإذا كانت ثورة 1919 قد فجرت عبقرية سيد درويش الموسيقية ليضع الأساس للألحان القومية بكلمات معبرة عن هموم المصريين وامانيهم وتطلعاتهم وبنغمات مصرية اصيلة، فان هذه الثورة دفعت محمود مختار ليضع بدوره الأساس الحقيقي لفن النحت المصري الحديث. والغناء جزء أصيل في تركيبة الشخصية المصرية، كما قال الكاتب والروائي الراحل خيري شلبي معتبرا أن رحلة الموسيقى الغنائية في مصر طوال القرن العشرين كانت في حقيقة الأمر جهودا مضنية وناجحة للتخلص من الطابع التركي الى أن تحررت منه تماما على يد سيد درويش ومن بعده كل من محمد عبد الوهاب ومحمد فوزي. وفي طرح بعنوان: "الغناء المصري في مائة عام" يضيف الراحل المبدع خيري شلبي أن وسائل الاتصال الجماهيري التي حظى بها القرن العشرون حينما وفدت الى مصر، وجدت في المجتمع المصري بيئة موسيقية كاملة وحافلة بالعناصر الخلاقة. ولئن ذهب خيري شلبي إلى أن سيد درويش انتج موسيقى مصرية عربية صرفة تنبع من مزاج مصري خالص وتنحو منحى ثوريا سياسيا فلعل عبد الحليم حافظ الذي تمر اليوم 38 عاما على وفاته يشكل النموذج الأكثر وضوحا وجلاء لعلاقة الفن بالسياسة كعلاقة وثيقة لايمكن فصم عراها، كما أنه من الضروري ملاحظة أن الأغنية تكاد تنفرد كفن بامكانية تقديم رسالة كاملة الشكل والمضمون في دقائق معدودة بسلاسة ويسر. وعبد الحليم حافظ أو "صوت ثورة 23 يوليو 1952′′ قدم عشرات الأغنيات الوطنية التي عبرت عن كل الأحداث الكبرى في تلك المرحلة مثل :"السد العالي" و"بالأحضان" و"المسئولية" و"بستان الاشتراكية" و"الوحدة العربية" و"صورة" و"احنا الشعب" و"عاش اللي قال". وبقدر دعم عبد الحليم حافظ وغيره من الفنانين لأهداف ثورة 23 يوليو، كان الرئيس الراحل جمال عبد الناصر يقدر الفن والفنانين وهو الذي قال :"ان الفن اصبح من اقوى الأسلحة في معركة الحرية ضد الاستعمار والاستغلال". ولعلنا اليوم بحاجة لأغاني تعبر عن انجازات المصريين بعد ثورة يناير – يونيو مثل المشروع العملاق لقناة السويس الجديدة، كما غنى عبد الحليم حافظ وغيره وتغنى بانجازات المصريين في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين في تأكيد على حقيقة التلازم بين الثورة والفن بقدر ماعبرت اغاني عبد الحليم عن روح مصر وامتها العربية في تلك السنوات. ورغم مرور كل هذه السنوات على رحيل عبد الحليم حافظ فان العديد من الصحف المصرية والعربية تخصص هذه الأيام صفحات وصفحات "للعندليب" ناهيك عن حالة الطواريء التي تعلن في العديد من القنوات التلفزيونية والفضائيات مع حلول الذكرى كل عام وكلها تعبر ضمنا عن مد في مشاعر الحنين لزمن عبد الحليم. "فالعندليب" الذي قضي مع اطلالة الربيع اقترن زمنه بنهضة غنائية وموسيقية بل وطفرة ابداعية شملت المسرح والسينما والكتاب ، فيما تسكن اغانيه الوطنية والقومية الوجدان المصري والعربي جنبا الى جنب مع "أهواك " و"لحن الوفاء" و"صافيني مرة" و"على قد الشوق" و"حبيبتي من تكون" و"مغرور" و"تخونوه" و"ظلموه" و"حبك نار" و"الحلو حياتي" و"سواح" و"لست قلبي" و"اي دمعة حزن لا" و"رسالة من تحت الماء" و"حاول تفتكرني" و"قارئة الفنجان"!. وإذا كان بعض النقاد والكتاب وصفوا عبد الحليم حافظ بأنه "مطرب القرن العشرين في مصر والعالم العربي"، واذا كان جيل الانترنت لم يعش في زمن عبد الحليم وانما سمع عنه من الأهل او تعرف عليه عبر وسائل الاعلام ووسائط الميديا فهل يتعامل الأكبر سنا مع ذلك الزمن كما يفعل البعض مع ذكريات السفر اي الاحتفاظ فقط بالأوقات الساحرة ليكون الانطباع العام هو الشعور بمتعة الرحلة بغض النظر عن اى مشاق ؟!..ومن ثم هل كان "زمن عبد الحليم" خاليا من المشاكل ومنغصات الحياة ام أن للحنين آلياته التي تغير بعض الحقائق في خضم لعبة اعادة صياغة الماضي والاحتفاظ باللحظات الطيبة وحدها؟!. ويندد المؤلف ايريك هوبزباوم في كتابه الصادر بعد رحيله بتخلي الدولة في الغرب عن دعم الثقافة والفنون فيما كانت بداية انطلاقة عبد الحليم حافظ من فرقة اوركسترا الاذاعة المصرية التي تمولها الدولة كما شارك قبل ذيوع شهرته في العديد من الصور الغنائية والأوبريتات الاذاعية . ومرحلة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين التي تألق فيها عبد الحليم حافظ مع رفاق الدرب من ملحنين مثل كمال الطويل ومحمد الموجي وبليغ حمدي تجتذب العديد من الشباب حول العالم وهي ظاهرة تستغلها المسلسلات التلفزيونية لتقديم اعمال ناجحة كما تتجلى في اعادة طرح افلام ومسلسلات قديمة بصيغة جديدة سواء على الشاشة الكبيرة او الصغيرة فيما ازداد الولع بالقديم بصورة ملحوظة منذ مطلع القرن الواحد والعشرين وظهور مايعرف "بجيل الانترنت والاقتصاد الرقمي". ومهما مر الزمان لكن يبقى عبد الحليم او "العندليب الموعود بالمجد والعذاب" بكل هذا الحنين في مكانة عزيزة بالذاكرة المصرية والعربية..عبد الحليم حافظ :"ويدور الزمن بينا يغير لون ليالينا..بنتوه بين الزحام والناس ويمكن ننسى كل الناس..ولاننسى حبايبنا.. اعز الناس حبايبنا"