في يوم من أيام أكتوبر المجيدة، الرابع عشر من عام 1973، لم تكن سماء الدلتا مجرد فضاء يعلو الحقول والنيل، بل تحولت إلى ميدان تتلاقى فيه الإرادة بالعزم، والنور بالنار، والحق بالصمود. هناك، في سماء المنصورة، كتب نسور مصر صفحة خالدة في سجل البطولات، صفحة سطرتها الأجنحة لا الأقلام، ووقعتها الشجاعة بمدادٍ من الدم والعزة. كانت الحرب في أوجها، ومعارك العبور على جبهة القناة تشتعل، حين قرر العدو أن يهاجم قلب الدلتا، طامعا في كسر الإرادة المصرية، أو لعله كان يظن أنه قادر على أن يطفىء شمس أكتوبر في وضح النهار. فانطلقت عشرات الطائرات الإسرائيلية، محملة بالغرور، نحو المنصورة وتطاوي وشربين، تبتغي تدمير قواعدنا الجوية وتحطيم معنوياتنا. لكن ما لم يدره العدو، أن في السماء رجالا لا يعرفون الانكسار. انطلقت صافرات الإنذار، وتقدم النسور المصريون إلى طائراتهم بقلوبٍ ثابتة ونفوس تفيض إيمانا بالوطن. لم ينتظروا أوامر طويلة، فكل ما كان يقال في تلك اللحظة: "اضرب.. فالأرض تنتظر صقورك." بدأت المعركة التي استمرت أكثر من خمسين دقيقة، أطول معركة جوية في التاريخ الحديث. كانت السماء تضج بأزيز المحركات وصليل الصواريخ، والغبار يختلط بضوء الشمس، في مشهد يشبه الأسطورة. أكثر من مائة وخمسين طائرة تتقاتل في فضاءٍ واحد، كأنها رقصة نارية على إيقاع القدر. قاتل الطيار المصري بعقيدة مختلفة؛ لم يكن يقاتل ليقتل، بل ليحيا وطنه. كان يرى في كل مناورة صورة أمه، وفي كل قذيفة أمنية طفل ينتظر النصر. ورغم تفوّق العدو في العدد والعتاد، ظل النسور المصريون يهاجمون في موجات متتابعة، لا يهابون الموت بل يحتضنونه إن كان ثمنا للكرامة. وحين انقشع الغبار، كانت المفاجأة: خسائر العدو تجاوزت سبع عشرة طائرة، بينما عادت أغلب طائراتنا إلى قواعدها سالمة. تلك كانت معركة المنصورة الجوية، يوم انتصر الإيمان على التقنية، والعزيمة على الغرور، والحق على الطغيان. ومنذ ذلك اليوم، صار الرابع عشر من أكتوبر يوما خالدا في وجدان الأمة، عيدا للقوات الجوية المصرية، لا لأنه يوم معركة فحسب، بل لأنه يوم أثبت فيه المصري أنّه حين يقاتل من أجل الوطن، تصبح المستحيلات جسورا للانتصار.