أراد جابرييل جارسيا ماركيز أن يخلد ذكرى إقامته مع جديه في إحدى القرية الكولومبية المتواضعة في رواية تستحق أن تُقرأ، لكن الفكرة تأبّت عليه أشهرا، حتى زهد فيها ونزع يده منها دون أن تخرج بيضاء أو تلطخ بحبر الكلمات. لكنه ذات يوم، وأثناء مرافقته لأسرته إلى قرية أوكابولكو، صعقته الفكرة بلا استئذان، فأدار دون وعي عجلة القيادة بين يديه وكر راجعا. وبدأ نقيع فكره ينساب على الصفحات البيضاء ليضخ دماء حياة في عروق أول جنين أدبي له. صحيح أنها لم تكن التجربة الأولى لرجل ترك كلية الحقوق عن سابق تخطيط وكامل وعي ليلتحق بمهنة الشقاء الصحفي، إلا أنها كانت أول سابقة روائية لماركيز الذي قرر فور الإمساك بذيل الرواية التفرغ التام لشهوتها، فباع سيارته كي تنفق أسرتها من ثمنها ريثما ينتهي هو من إفراغ شحناته الوجودية في رواية من العيار الثقيل. ولبث الرجل في صومعته ثمانية عشر شهرا حتى وضع القلم. وحين خرج على زوجته يزف إليها نبأ اكتمال رائعته "مئة عام من العزلة"، لم تصدق المرأة بعلها. وكان على ماركيز أن يواجه إثر خروجه من عزلة اختيارية قضاها رهين غرفة بعيدة عن ضوضاء العالم وصخبه أن يسدد ديون الجزار والخباز وإيجارا تراكم عليه وفشلت كل محاولات التدبير المنزلية في تسديده. لكن خروج القصة إلى النور خفف كثيرا من حدة الألم النفسي التي نكَّصت علي ماركيز أيام وحدته. فقد شقت له هذه الرواية طريقا في بحر الشهرة يبسا، ومكنت الرجل من تسنم أعلى القمم الأدبية بنيله جائزتين أدبيتين يسيل لهما لعاب كل أديب. فنال الرجل جائزتي روميلو جاليجوس وجائزة نوبل للأدب عن جدارة واستحقاق. ونال شهرة عالمية واسعة بعد أن تعرض أدبه الليبرالي (الذي غرس بذوره في أعماقه جده الجنرال الذي كان يدافع عن الحريات ولا تأخذه في الحق لومة لائم من إرباب السياسة الكولومبية) لمئات المقالات النقدية بكافة الأحرف الكونية. لكن ما يؤخذ على جابرييل الذي لم يستسلم قلمه العنيد لاثني عشر ألف دولار من الديون أنه غض طرفه عن أفعال صديقه الحميم فيديل كاسترو الذي ارتكب مآس بالغة القسوة في حق الإنسانية، بل واعتبره صديقا يُستنصح، فكان يعرض عليه مقالاته قبل أن ينشرها ويستمع إلى ملاحظاته الأدبية بكل توق، ويعيد صياغة أفكاره لتتماهى مع أفكار الديكتاتور الكوبي. لكن أحدا لا يستطيع أن يجزم أن ما فعله الرجل كان ضريبة ولاء دفعها الكاتب عن طيب خاطر لرجل أغرق ستوكهولم بألف وخمسمئة زجاجة من الخمر فور حصول صديقه على جائزة نوبل للأدب عام 1982. للكاتب الحق أن يصاحب من يشاء من الدكتاتوريين، لكن من حق قرائه عليه أن يدافع عن مظالمهم بمداد يسبق ألسنتهم ويعلو فوق هتافاتهم. من حق الناس على سفراء الكلمات أن ينوبوا عن آلامهم ويترجموا مآسيهم، ولا يبادلوا زجاجات الروم المسكرة بزجاجات دماء لزجة تسيل على محيط البلاد من أقصاها إلى أقصاها. ومن حق البلاد على أصحاب الرأي فيها أن يزرعوا كلماتهم الصادقة في باحات الميادين وساحات الحكام دون أن تأخذهم في الحق لومة فاجر أو عتاب رفيق. فالكلمة أمانة عند حاملي الأقلام لابد وأن يستردها أهل البلاد وقت الحاجة. والصمت عند الحاكم الظالم خيانة وعند أهل الباطل من المعارضين ممالأة للباطل لا يستحق صاحبها الانحناء حتى وإن لُف حول جيده أنواط التكريم من كافة العواصم. مع انحسار ثورتنا الكوبية الملهمة، حملت الصحوة هوام الكتاب على قشرتها ورمت بهم فوق مستنقع جرائد رخيصة تهدف إلى التهييج والإثارة والتصفيق وإن على حساب الفكرة والانتماء والحقيقة. وتحول بغاث الكتاب إلى فريقين متخاصمين يمجد أحدهما رئيس البلاد ويمتدح أفعاله التي لم تُختبر، وفي الجهة الأخرى من الجهالة وقف فريق من الكتاب يقدح الأفعال ويحاسب على النوايا وما حوت الصدور. وبينهما انقسم الشعب إلى ضدين لا يلتقيان وخصمين لا يعرف خصومتَهما شرف. بينما اعتكف فريق ثالث وانطوى على ذاته إيثارا للسلامة وتجنبا لأسلاك النقد الشائكة وصونا للذات من التجريح أو التعديل. فسلكوا سبيل ماركيز الذي أنسته نشوة الجائزة وصداقة الديكتاتور ذات يوم حقوق المطحونين واستغاثات الملهوفين من أبناء وطن يتعرض للذبح من الوريد إلى الوريد. لكن عزلة ماركيز الاختيارية التي أسهمت في ارتقائه أعلى منصات الأدب، فنصبته كأول كولومبي يحصل على جائزة نوبل ورابع من يحصل عليها من بين روائيي أمريكا اللاتينية، إلا أنها باعدت بينه وبين منصات الحقيقة، رغم ميله للاعتماد على أدب الواقع في رواياته. وها هو اليوم جابرييل جارسيا ماركيز يعود اليوم إلى عزلته بعد أن بلغ 85 عاما من حياة حافلة بمئات المعازل، لكنه يعود إليها اليوم مرغما بعد أن أصيب بخرف الشيخوخة الذي حال بينه وبين تمييز أقرب الأصوات إليه. يجلس الرجل اليوم مرغما على كرسي الحياة غير المتحرك في انتظار وعي جديد تاه عنه يوم تخلى طواعية عن منصة كانت أحوج ما تكون إلى كلماته، لكن المؤكد أن الرجل لن يعود من عزلته هذه المرة، لأن الوعي الذي يتخلى الكاتب عنه مختارا ذات إغراء لا يعود أبدا على بغلة عمر وخطه المشيب وفارقه الوعي إلى غير رجعة. أديب مصري مقيم بالإمارات هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.