بالرجوع لعصر الجاهلية وما بعد ظهور الإسلام وما تبعه في فترة الدولة الأموية والعباسية والفاطمية ، لم تكن ظاهرة النقد الأدبي موجودة بشكلها الأدبي الحالي الأكثر شيوعًا وعلمًا .. وقد برزت رقعته في عصرنا الحالي أكثر اتساعًا وشمولًا .. فالنّقد والتّحليل مهمّةٌ تحتاج لناقدٍ حاصلٍ على درجة الدكتوراة في الآداب والنّقد والتّحليل وعلم اللغة وعلم العروض .. ليتمكن من وضع اليد على الثغرات السالبة في النّص وعملية إصلاحها وإنعاشها .. وعلى الجوانب المشرقة في النّصّ وعملية دعمها وتشجيعها .. فالنّقد الحقيقي السليم يقوم على أساسياتٍ لا يدرك كلّ جوانبها إلّا أصحاب الإختصاص في النقد والأدب واللغة وعلم العروض .. ومن يقحم نفسه في النقد من غير أهل الإختصاص لن يعطي النّصّ حقّه ولن يقوّمه كما يفعل الناقد الأكاديمي المختص فيه . ولا يغيب عن أذهاننا إنّه علمٌ مُكتسبٌ وفنٌ من الفنون التابعة للأدب وليس هواية تمارس وقت الحاجة للتلميع أو للتسفيه وفق متطلباتهم النفسية وما تقتضيه مصالحهم .. وقد أثبتت الدراسات النقدية جدارتها في إصلاح الضعف الأدبي لدى الأديب وفي دعمه للأفضل إذا كان النقد من قِبل أهل الإختصاص به وليس كما ذكرت ممن يسرقون ثوب الناقد ! وللأسف وكما أنّ هنالك من يسرق النصوص الأدبية هنالك من يسرقُ ثوب الناقد من الناقد الأكاديمي الحقيقي المؤهّل لذلك .. ويطلق على نفسه مسمى ” ناقد ” وهو أبعد وأجهل الناس بماهية النقد الحقيقي ولو كان يدرك ماهية النقد الحقيقي وشروطه لما أقحم نفسه في هذه الورطة الكبيرة وحمل فؤوس الهدم للأدب العربي وللكتّاب وللشعر وللشعراء إلاّ أن يكون قاصدًا ذلك .. فه يفتقر للمؤهلات العلمية التي تجيز له ممارسة مهنة ودور الناقد الحقيقي .. فأكبر واحدٍ ممن يسرقون ثوب النقد لا يتعدى حصوله على بكالوريوس في اللغة العربية ! ويحاول إيهام الناس بأنه من أهل الإختصاص في النقد !!! وأما البقية منهم فأكثرهم لا يجيد سطرًا سليمًا في الإملاء والنحو !! أمثالُ هؤلاء من سارقي ثوبَ النقد وليسوا بنّقادٍ في المنظومة الأكاديمية لهم دوافعهم النفسية المعتلة أذكر منها : 1/ الفشل الأدبي وتعرّض ما يكتبونه للنقد اللأذع من قِبل أهل الإختصاص .. لذلك نراهم يسعون لإسماع الأدباء ذات النقد على نصوصهم ليشفوا به غيضهم وعللهم النفسية . 2/ غلبة الهوى وغلبة العنصرية والتّوجّهات السياسية . 3/ الطائفية والمذهبية . تسعى هذه الشرذمة لهدم كيان الأديب بكثرة تشريح النّص الأدبي والمبالغة في غربلته والتصغير من شأن صاحب النّص ( الأديب ) طبعا كلّ ذلك من ورائه بعض النوايا أو ردّات فعلٍ لديهم سابقة غير آبهةٍ للأخلاق والإنصاف وبما سيترتب عليه ذلك من إراقة ماء وجوههم حيث اقحموا أنفسهم فيما ليسوا بأهلٍ له من العلم الأكاديمي والمعرفة .. وعلى الأدباء التصدي لأمثال هذه الشرذمة ورفض أيّ نقدٍ منهم وإن كان فيه تفخيمٌ لنصوصهم .. قبول نقدهم هذا سيجعلهم يصدّقون كذبتهم والثوب المسروق الذي لبسوه دجلا . وللنقد الأدبي الإصلاحي أسسٌ وقواعدَ وشروط يجب توفّرها في النّاقد والمحلّل وأهمها : 1- الدّراسات العليا الأكاديمية التخصصية كالدكتوراة والماجستير في مجال النقد والأدب وعلم اللغة والنحو والصرف وعلم العروض . 2- الموهبة والخبرة في ذات النّصوص المطروحة للنقد كالشعر العروضي والقصة بأنواعها والرواية والخاطرة والنثر .. وعلى الناقد بأن يكون مُلمًا بقواعد اللون الأدبي المراد نقده وبروائع الأدب العربي المعاصر ومدارسه . 3/ النّزاهة والإنصاف التّام والشفافية .. وعدم التّحيّز .. واستبعاد المحسوبية .. وتجنب فتل العضلات مع مراعاة عدم صناعة الإحباط لدي الكاتب . 4 – إمتلاك الثقافة الإجتماعية والدينية ولباقة الحديث والطّرح ليتمكّن من إصلاح الفاسد في النّص وبصورةٍ لبقةٍ تنعش النّصّ وتسدد الكاتب للأصوب . 5 – القدرة على تحليل النّصّ واكتشاف خفاياه كالتّورية وإيجابياته وسلبياته والتّأني في قراءة النّصّ ولأكثر من مرةٍ قبل المبادرة بالتّحليل والنّقد . 6 – إختيار الوقت الهادئ والمناسب للتّحليل والنّقد .. ولايغفل النّاقد عن حالته النّفسية أيضًا بحيث يكون في حالته الطّبيعية والهادئة وليس في حالة الإنفعال أو ضيق الوقت . 7 – عدم إضافة أيّة كلمةٍ على النّصّ والإلتزام بمفردات النّصّ تمامًا ، والبحث عن جماليات النّصّ .. دون الإقتصار على عيوبه .. وتشكيك الكاتب في قدرته الأدبية وتثبيطه .. فلا يكون النّاقد معولًا للهدم من خلال نقدٍ سقيمٍ يضرّ ولا ينفع . فالشّعر والنّصّ الأدبي بأنواعه غالبًا ما يحلّل نفسه بنفسه من خلال عرض الكاتب لمحتوى أفكار القصيدة أو القصة وغير ذلك من النّصوص الأدبية .. إلاّ أنّ هنالك بعض القصائد ليست بالقليلة مما يغلب عليها أسلوب التّورية وهذا النّوع من كتابة الشعر بالتّلغيز والتّرميز نوعٌ فريدٌ وعذبٌ يبثّ في المُتلقي روح الفضول في البحث عمّا خلف كواليس القصيدة وعن مكنوناتها التي لم يفصح الشاعر عنها في قصيدته فخلف قصيدته قصيدة لم تظهر على واجهة القصيدة .. حيث أنّ لغة التّورية في القصيدة جعلت للقصيدة ظاهرةً مميزةً وهي ظاهرة واجهة القصيدة وبطن القصيدة المغاير تمامًا للغة الواجهة الترميزية . 8 – البحث في النّصّ عن جماليات اللّغة كالبديعيات والمحسنات والإيقاع وإحداث الصّدمة لدى الكاتب من خلال نصّه . . وتماسك التّحليل وترابطه بين فقرات القصيدة والتصوير المنهجي لها مثل الإسلوب المستخدم والخيال والمعنى ومستوى التدفق العاطفي . 9 – خاتمة النّقد والتّحليل وعليه أن يلتزم النّاقد المحلّل بما أبداه من رأيٍ في القصيدة بالآتي : أ / البينة والبرهان بصورةٍ دقيقةٍ وواضحة دون الخروج عما ورد في النّصّ أو الإسترسال الممل في التّحليل .. مع ملاحظةٍ مهمةٍ ترفعُ الرّوح المعنوية لدى الكاتب والشّاعر .. لا أن يخرج المحللُ والنّاقد ومناشيره تقطر دمًا من تشريح الشاعر وقصيدته أو الكاتب . ب / إعتماد النّقد الأمثل والناجح على عدّة أساليب تجعله نقدًا بنّاءً يتكون من العبارات الجزلة والقويّة والعلمية في ذات الوقت .. والتي تعبّر عن الحالة العاطفية والعقلية والفنية والأدبية والنحوية لدي الشاعر والكاتب . ت / أن لا ينسى النّاقد السّمات الجمالية في ذلك أو السّلبية ومدى تدفق الواقعية لدى الشاعر ومدى تدفق البلاغة الشعرية لديه والبديعية والتشبيهية ومظاهر الإنفعال ومظاهر السكون لدى الشاعر .. وكما أنّ الشعر لابدّ من توفّر عنصر الإثارة فيه بالإضافة إلى ماتمّ ذكره وإحداث الصّدمة الشعرية للمتلقي .. كذلك النقد فهو وسيلةٌ وصناعة أدبية رآقية لا يُستهان بها إذا ما سارت في مسارها الصحيح وفق ما جاء في القصيدة أو النّصّ الأدبي ..وتختلف رؤى النقد من ناقدٍ لآخر وفق رؤاه التي يراها في النّصّ من صورٍ حقيقية أو مجازية بلاغية وأفكارٍ يقوم عليها بنيان القصيدة من الإيقاع والإنطباع لدى الشاعر .. وعلى الناقد أن يعيش في قلب الحدث .. قلب حدث النّصّ أو القصيدة بحذافيرها .. لا أن يكون النّصّ في وادٍ والنّقد في وادٍ آخر .. ليس المطلوب في النّقد طرح بضع كلمات تمتدح النّصّ وصاحبه .. أو تذمه بنقدٍ لاذعٍ .. بل المطلوب المصداقية التّامة في تحليل ونقد النّصّ دون المبالغة في المدح ودون الطعن المؤدي لتثبيط كاتب النّص .. النقد أمانةٌ حرفية لابدّ من تأديتها على أكمل وجه وبأفضل إداءٍ لكي تتعلم منه أيضًا الأقلام الجديدة في ممارسة فنّ النّقد وأن لا يعتمد على تتبع عثرات الكاتب أو صناعة العيب من اللاعيب .. النّقد رسالةٌ أدبيةٌ نبيلة لا يجبد صناعتها إلّا ذو الإختصاص .. الهدف منها تقويم القلم الأدبي بأنواعه ودعم المسيرة الأدبية لإخراج نخبةٍ من الأدباء الأماجد الذين يليقون بمجتمعاتهم ويكملون مسيرة الحضارة الأدبية لأوطانهم .