كان عمي رمضان يعمل فرَّانا في مخبز " أبو الدهب " الأفرنجي في بنها ، وبرغم أنه كان غير متعلم ، مثل الكثيرين من أبناء قريتنا ، إلا أنه كان الوحيد فيهم ، الذي يعشق أم كلثوم ؛ والغريب فيه أنه كان يطرب لها في الفصحى ، تماما مثلما كان يطرب لها في العامية . وكان كل يوم الساعة الخامسة ، موعد افتتاح إذاعة أم كلثوم ، يشغَّل الراديو على أعلى صوت ، ويفرش حصيرته في الخلاء الملاصق لبيته ، ويرِّيح عليها ، موسدا رأسه تحت يده اليمنى ، ومخبأ باليسرى عينيه من ضوء النهار وصهده . وكان يطلب من سمير ابنه ، أن يجلس بجوار رأسه ، وفي يده ورقة كرتون ، يهش بها ما يمكن أن يقع على رأسه من ذباب ، وفي الوقت نفسه يهوِّي بها عليه ؛ جالبا له طراوة لا تنقضي ، تخفف عنه الجو إذا كان حارا . وبينما كانت أم كلثوم تشدو ، كان ابنه سمير يمارس الهش والتهوية ، وعمي رمضان ساهما في خياله مع أم كلثوم ، بعيدا عن الذباب و الحر . وكان سمير ابنه عندما يشعر أن أبيه أخذته سنة من النوم ، يتوقف عن الهش والتهوية ثواني ليريح يديه ، وكان عمي رمضان ينتبه سريعا ويقول : يا ولد ، فيعاود سمير ابنه الهش والتهوية ، دون أن ينطق بكلمة واحدة . وظل الحال على ذلك لسنوات عدة ، هي عمر حياتي في شارعنا ؛ غناء بصوت أم كلثوم ، يقاطعه كل حين صوت عمي رمضان : يا ولد . ومنذ أيام تعرَّف عليَّ سمير ابنه في مدخل الأوبرا ، وقدَّم لي نفسه وزوجته وولديه ، وعرفت منه ؛ أنه أصبح دكتورا في أكاديمية الفنون ، وأن عم رمضان مات منذ زمن بعيد ، وأن الخلاء الملاصق لبيتهم صار برجا ، وأن الشارع فارقه معظم أهله إلى بنها . وبعدما واعدتُ الدكتور سمير ومضيتُ ، تذكرتُ أنني نسيتُ أن أقول له : إنني إلى الآن كلما استمعتُ إلى أم كلثوم ، يتواتر إلى سمعي صوت عمي رمضان ، وهو يقول له : يا ولد .