«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مصر.. سيرة الحب العربية


حسن صبرا : جزء من سيرة ذاتية
كنت فى الثامنة من عمرى عندما تابعت عبر أثير مذياع والدى أبو على نشيد «الله أكبر»، وهو يثير حمية المصريين والعرب للرد على العدوان الثلاثى البريطانى- الفرنسى - الصهيونى على مصر عام .1956
لم أستطع أن أنسى منظر جدى «أبو أحمد» واقفاً على باب الدار فى زاروب العانوتى فى منطقة المصيطبة فى بيروت غروب ذات يوم من أيام نوفمبر 1956 رافعاً يديه إلى السماء داعياً أن ينصر الله جمال عبدالناصر.
إنها المرة الأولى التى حفظت ذاكرتى فيها اسم «جمال» من جدى.. ثم قرأت على جدران شوارع بيروت عبارة ظلت محفوظة لسنوات بألوان مختلفة.. «فلسطين بعد القنال.. يا جمال»! لم تكن سنى ودراستى فى مدرسة الشيخ على موماى قبالة دار الزعيم صائب سلام فى المصيطبة، تسمحان لى بالقراءة المتقنة لصحف ومجلات بيروت التى تناولت العدوان الثلاثى هذا على مصر.. لكن خيالى لم يستطع حتى الآن نسيان عنوان جريدة السياسة البيروتية المؤيدة لمصر، وهو مكتوب باللون الأحمر «6500 قتيل بريطانى وفرنسى فى السويس».
وبعد مرور عدة أشهر على صمود مصر وانتصارها السياسى على العدوان، توافرت فى بيروت مجلات مصر الأساسية: «المصور، آخر ساعة، روزاليوسف».. التى كان حلاقو بيروت يعرضونها فى صالوناتهم لجذب الزبائن إليهم، حيث كنت فى كل مرة أذهب فيها إلى مصطفى الحلاق «أى المزّين» أصرف عدة ساعات فى قراءة أعداد المجلات المصرية المتوافرة، حتى بت أعرف عن مصر وجمال عبدالناصر وحكوماته وضباطه والفنانين المصريين والسينما والمثقفين والأدباء والصحفيين الكثير الكثير، بما يسمح لى بمجادلة زملائى ورفاقى فى الحى والمدرسة والشارع متفوقاً عليهم فى المعرفة عن مصر فى كل المجالات.
كان المذياع صلة اللبنانيين والعرب بمصر.. حيث كان يندر أن تستمع فى بيروت إلى أى محطة أخرى غير صوت العرب أو البرنامج العام.. حتى لو كانت إذاعة بيروت، وكانت المسلسلات المصرية فى إذاعة القاهرة مركز جذب المستمع اللبنانى بشكل عام والبيروتى بشكل خاص.
ويعود الفضل لوالدتى الحاجة أم على التى عودتنا سماع مسلسلات مصر عبر المذياع فى الخامسة والربع بعد ظهر كل يوم.. ويعاد عرضها فى الثانية والربع بعد ظهر اليوم التالى.
العسل المر
ولن أنسى ما حييت اسم مسلسل «العسل المر» الذى كان بطولة الفنانين كمال الشناوى «هشام» وكريمة مختار «سوسن» وزوزو حمدى الحكيم «نزاغة» وعبدالوارث عسر والد سوسن.. فضلاً عن المسلسلات الأخرى بالمئات طيلة السنوات المستمرة.. حتى الآن.. ومازالت والدتى- أطال الله عمرها - تتابع مسلسلات مصر عبر إذاعة القاهرة حتى اليوم.. ولعل أفضل هدية أحملها إليها كل عدة سنوات هو الراديو الترانزستور الذى لا يغادر مؤشره خط إذاعة القاهرة لمتابعة مسلسلات الخامسة والربع مساء كل يوم.
وعندما كانت إذاعة القاهرة تبث مسلسلاتها، كان أبناء بيروت يتحلقون حول المذياع فى أى منزل يستقبلهم بالداورة لمتابعة هذه المسلسلات.
الأغانى المصرية
كان أبناء بيروت يتسابقون للإعلان عن أن إذاعة القاهرة ستبث أغنية لمحمد عبدالوهاب أو ليلى مراد أو فريد الأطرش أو عبدالحليم حافظ.. أو شادية.. أما أم كلثوم فإن أول خميس من كل شهر ابتداء من شهر أكتوبر حتى أبريل كان البيروتيون على موعد معها، كى يستمعوا إلى أغنياتها المحببة فضلاً عن أغنيتها الجديدة.
وقد سهرت بيروت كما القاهرة على لقاء السحاب كما وصفته صحف القاهرة أغنية «أنت عمرى» التى لحنها الموسيقار عبدالوهاب لسيدة الغناء العربى أم كلثوم بناء على رغبة جمال عبدالناصر.
وبمناسبة الحديث عن أم كلثوم فإن كوكب الشرق كانت تحيى كل عام تقريباً حفلة مشهورة فى لبنان كانت كلها تتم تحت رعاية رئيس الوزراء.. وتظل بيروت ولبنان لأسابيع تتحدث عنها بإعجاب وترداد لمقاطع منها.
كان أبناء بيروت يتوحدون حول جمال عبدالناصر حباً وإعجاباً وعاطفة ومشاعر قومية.. حتى لو اختلفوا حول الكثير فى مصر.
فقد انقسم أبناء بيروت حول حب عباقرة الفن المصرى فى الغناء والتمثيل والقصص. فالقسم الأعظم كان مع عبدالوهاب وأم كلثوم وعبدالحليم وكان نصيب فريد الأطرش رغم كبره أقل من موسيقار الأجيال والعندليب، أما ليلى مراد فكانت ذات شعبية طاغية.
وفى هذا المجال دعونا نذكر أن المسلمين فى لبنان كانوا دائماً من أنصار الفنانين المصريين.. ولم تكن المطربة اللبنانية «فيروز» تحظى بحب المسلمين كثيراً، واقتصر حبها أول الأمر على المسيحيين.. ثم انقلب الحال وبات لفيروز منذ سنوات أنصار من الجميع.. فهى مازالت على قيد الحياة، وغاب عن مصر عباقرة الغناء والفن لمصلحة التفاهة والضحالة والأصوات العادية والألحان والكلمات.
وفى الرياضة التف البيارتة- أى أبناء بيروت- حول اسم بطل السباحة «عبداللطيف أبو هيف» الذى قهر المانش و«عبدالحميد الجندى» بطل كمال الأجسام المصرى.. مثلما عشقوا «عبدالحليم حافظ» وهو يغنى بالأحضان.. وناصر يا حرية.. ناصر يا وطنية.
لكنهم وزعوا المحبة على النادى الأهلى لكرة القدم فكان له الجمهور الأعظم وتبعه نادى الزمالك فى نصيب المحبة وتبعهما الإسماعيلى، ويكاد اسم النادى الأهلى يتكرر فى عدة مدن لبنانية، وإن كان نشأ فى بيروت «نادى واحد» باسم الزمالك ثم تحول اسمه بعد ذلك إلى «تضامن بيروت».
عندما جاء نادى الإسماعيلى بالرباعى الشهير رضا «رحمه الله» وشحته والعربى وسيد بازوكا إلى بيروت عام 1964 ليلعب مباراة ودية مع نادى النجمة وهو أبرز وأعرق أندية لبنان لكرة القدم وكان ومازال نادى المسلمين الأول، كانت هتافات الجماهير اللبنانية حتى المؤيدة لنادى النجمة تصدح: ناصر، ناصر، ناصر عند كل هدف يسجله النادى الإسماعيلى فى ناديهم المحبب النجمة.
وكنا نتباهى بحصول الفرقة الموسيقية العسكرية المصرية على جائزة أفضل فرقة موسيقية فى العالم خمس سنوات متتالية، وكنا نحفظ مارش ناصر العربى تعزفه هذه الفرقة، وقد أصبح لازمة فى عزف فرق الموسيقى للكشاف فى لبنان (كشافة الجراح، الكشاف الشرقى، كشافة المقاصد).. ودائما إلى جانب نشيد «الله أكبر» للموسيقار محمود الشريف.
خطابات عبدالناصر
أما نشرات الأخبار فكان اللبنانيون جميعا يتوجهون إلى إذاعة القاهرة وتحديدا صوت العرب للإنصات إليها وهى تتحدث عن أخبار جمال عبدالناصر واستقبالاته.. أما خطاباته فكان اللبنانيون خاصة فى بيروت يتهيأون لسماعها قبل عدة أيام ويتبادلون الأحاديث عن توقيتها، وعن كيفية ومكان سماعها.. لأن عدد أجهزة المذياع لم يكن كبيرا فى حيِّنا (زاروب العانوتى) فى المصيّطبة. أثناء خطابات الرئيس كان اللبنانيون يتسمرون أمام أجهزة المذياع، وكنت إذا مررت فى شوارع بيروت تستمع إلى الخطاب كله حتى لو سرت ساعات، حيث كانت المحلات والمنازل والمكاتب ترفع صوت المذياع فيها ليصل إلى كل الناس.
ويظل ما ورد فى خطاب الرئيس عبدالناصر مسيطرا على أحاديث سهرات الكبار وأحاديث الشباب وحتى الصغار كانوا يتبارون فى ترداد ما حفظوه من خطاب الرئيس.. دون أن ننسى اهتمامات صحافة بيروت التى كانت مرآة سياسة العرب المختلفة والمتعادية ومازلت حتى الآن أحفظ من أخبار بورصة مصر التى كانت إذاعة القاهرة توردها بعد نشرة أخبار الساعة الخامسة.. عبارة: القطن طويل التيلة جود فرى جود «very good» «good».
الشيخ عبدالباسط
كنا أطفالا فى زاروب العانوتى نجتمع صباح كل يوم دراسى حول مذياع والدى أبوعلى - رحمه الله، كى ننصت إلى القرآن الكريم من إذاعة القاهرة، وكان معظمنا من أنصار القارئ الشيخ «عبدالباسط محمد عبدالصمد»، وكنا حريصين على متابعة أخباره التى تنشرها المجلات المصرية وكان هناك ولد واحد فقط هو ابن عمى أحمد صبرا من أنصار الشيخ مصطفى إسماعيل! كان القرآن الكريم يبث من السابعة إلا الربع صباحا حتى الساعة السابعة وبعده تنطلق المقدمة الموسيقية لها بعد رنات جامعة القاهرة معلنة الوقت.. ولا نترك المنزل إلى المدرسة التى كنا جميعا طلابا فيها إلا بعد سماع موجز الأخبار.. ولم يكن أكبرنا تتجاوز سنه تسع سنوات.
رمضان بيروت الشيعى على التوقيت المصرى
فى شهر رمضان كان الخلاف (ومازال) فى التوقيت ببدئه لا فى نهايته، فى لحظة الإفطار، ولحظة الإمساك قائما بين السنة والشيعة.
كان السنة فى بيروت ومازالوا يلتزمون غياب الشمس لبدء الإفطار، لكن شيعة بيروت والجنوب ينتظرون إطلاق مدفع الإفطار عبر إذاعة القاهرة كى يحلّوا الإفطار.. وكذلك الإمساك. أما السحور.. فكنت تستمع إلى إذاعة القاهرة وهى تبث خلاله مسلسل «ألف ليلة وليلة» بصوت العظيمة زوزو نبيل عن قصة طاهر أبوفاشا.
مصرى فى زاروب العانوتى
لاينسى أبناء زاروب العانوتى (الحى الذى ولدت فيه) واقعة حضور شاب مصرى على عكازين مبتورة رجله اليمنى إلى الزاروب، حيث تحلق حوله سكان الحى كلهم شباباً وشيباً وأطفالاً ونساء وفتيات فرشوا له حصيرة وسط الزاروب يجلس فوقها والجميع يتسابق لتقديم الضيافة له: شاى، قهوة، تسالى، فاكهة.. والجميع حوله منصت إلى لهجته المصرية الجميلة، والفتيات يتضاحكن ويتهامسن من عذوبة اللهجة ورقتها وهذه تقول: يا الله أنا لا أصدق أننى أقابل مصريا، وهذه تدندن لعبدالحليم يا مواعدنى بكرة.. وهو يشرح كيف بترت رجله فى عدوان .56
الوحدة مع سوريا
عندما قامت الوحدة المصرية - السورية عام 1958 بإعلان الجمهورية العربية المتحدة ازدانت بيروت قبل القاهرة ودمشق وحلب بصور جمال عبدالناصر، وتسابق الزعماء اللبنانيون المسلمون خاصة فى نشر صورهم مع جمال عبدالناصر، وفرش أبناء المصيطبة أرض منطقتهم بالرمل ورفعوا سعف النخيل زينة مع الأضواء الملونة واللافتات التى تحيى الوحدة - وتسابقنا أطفالا خلف خطاط من آل قرانوح نحمل له السلم وجرادل البويا ليخط على حيطان بيروت عبارات «عاشت الجمهورية العربية المتحدة، عاش جمال عبدالناصر».
وكنا نتخاطف صور عبدالناصر وشكرى القوتلى لرفعها على الحيطان ونخبئ البعض منها لنحملها إلى منازلنا لنلصقها على حيطاننا فى الداخل والخارج.
كان أبناء بيروت يعيشون فى عيد كلما جاء جمال عبدالناصر إلى دمشق فى عيد الوحدة، وتتقاطر مواكب السيارات لرحلة العمر السنوية إلى دمشق لتحية جمال عبدالناصر، الذى كان يطل عليها من على شرفة قصر الضيافة فى دمشق محييا بكلتا يديه، ومازالت بيوت بيروت تحمل وترفع صورا لأصحابها مع عبدالناصر فى دمشق، ولا أنسى حديث الفتاة البيروتية ابنة الخامسة عشرة من عمرها والتى جاءت إلى منزلنا بعد عودتها من زيارة دمشق لتحدثنا وسط حسرتنا عن مشاهدتها لجمال عبدالناصر واحتضانه وطبع قبلة على خده، وهى فى فخر شديد كيف أن العملاق الأسمر أحنى قامته كى يسمح لها أن تطبع قبلتها على خده.
هدايا بصور مصرية
كان كل من يريد أن يروج لسلعته خاصة بين الأطفال يقدم هدايا يرتبط الحصول عليها بالمعرفة والحفظ عن مصر تحديدا، فمعمل هوليوود للحلويات الخاصة بالصغار كان يقدم هدية لكل من يجمع صورا لقادة مصريين (وعرب من أنصار عبدالناصر) وكان الرقم 9 يحمل صورة عبدالحكيم عامر ومن يحصل عليها ينال جائزة تسعد الأطفال.. ومازلت احتفظ فى منزل أهلى بفانوس صغير حصلت عليه بعد أن جمعت الصور المطلوبة، رغم مرور نصف قرن على الجائزة.
سيارة نصر
تلقى رئيس حزب النجادة فى لبنان صاحب شعار بلاد العرب للعرب، سيارة نصر هدية من المصانع الحربية فى مصر، فكان أبناء بيروت يتحلقون حول السيارة فى أى مكان تجوب فيه شوارعها ليتباهوا بالصناعة المصرية.، مثلما يتباهون بالنسيج المصرى وقميص اللينو الأزرق الذى كان عبدالناصر يظهر فيه.. بعد أن أصبح التليفزيون العربى ملونا.
ومازلنا نذكر كيف أن جريدة النهار عندما أدخلت الألوان إلى طباعتها، نشرت صورة لجمال عبدالناصر وهو يتفقد أحد المصانع المشيدة حديثا «يومها» فى حلوان ونشرت الصورة فى صدر صفحتها الأولى تحت عنوان «أول صورة بالألوان.. عبدالناصر فى حلوان»، رغم أن سياسة جريدة النهار البيروتية يومها كانت تضج بالعداء لعبدالناصر.
ومازال أبناء مؤسس جريدة الأنوار التى كانت ناصرية سعيد فريحة يذكرون أن الرجل أسس بعد الجريدة فرقة شعبية للرقص الشعبى سماها فرقة الأنوار، وعند موعد افتتاحها أبى أن يدخل القاعة لإعلان الافتتاح إلا إذا أذاع للناس برقية تهنئة من جمال عبدالناصر مقسما أنه سينتحر على باب قاعة العرض إذا لم يتلق هذه البرقية ورعاية عبدالناصر للحفل. كان إذا شتم أحدهم مصر أو جمال عبدالناصر فى مقهى أو مكان عام يقتل على يد شاب يحب مصر وجمال عبدالناصر ويهرب لتحميه الناس، ويظل متخفيا إلى أن تسقط عقوبته بالتقادم، وبعضهم هرب إلى مصر وعاش فيها ردحا من الزمن.
لماذا لم يزر عبدالناصر لبنان؟!
كان كثير من اللبنانيين يأملون ويتمنون زيارة جمال عبدالناصر لبلدهم ليحملوا سيارته على الأكتاف مثلما كان يحصل فى كل بلد عربى يزوره عبدالناصر.. اليمن، سوريا، الجزائر، السودان،... لكن جمال عبدالناصر رفض القيام بزيارة لبلد ينقسم أبناؤه حول هذه الزيارة، حيث يؤيدها نصف مواطنيه ويعارضها النصف الآخر ويعتبرها استفزازية.
كان جمال حريصا على وحدة لبنان وشعبه، وعندما كان رئيسا للجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا زار لبنان للقاء رئيسه يومها «1959» اللواء فؤاد شهاب، وعقد معه مباحثات تاريخية فى خيمة نصبت على الحدود حتى لا يستفز أحدا من اللبنانيين.
على كل لقد كتب لخالد جمال عبدالناصر أن يزور لبنان على رأس فريق لكرة اليد، لخوض مباريات ودية مع أندية لبنانية وكان استقباله تاريخياً من اللبنانيين وعلى رأسهم هذه المرة المسيحيون قبل المسلمين، الذين جعلوه رئيساً فخرياً لنادى النجوم لكرة اليد أهم فرق لبنان بهذه اللعبة يومها.
جامعة بيروت العربية
أنشأت مصر فى لبنان جامعة بيروت العربية التى احتفلت منذ أسابيع بعيد تأسيسها الخمسين، وهى خرَّجت خلال هذه السنوات عشرات الآلاف من المهندسين والمحامين والأطباء والصيادلة وأساتذة الجامعات والسفراء ورجال الأعمال اللبنانيين والعرب، فقد كانت أيضاً جامعة بسطاء الخليج العربى وحتى أغنياؤهم، وأحدثت توازنا فى لبنان بين المسلمين والمسيحيين بعد أن كانت نقابات المهن فى لبنان حكراً على المسيحيين بات بعض النقباء مسلمين، وبات بإمكان الفقراء ومتوسطى الحال تلقى التعليم العالى فى فترة كانت فيه جامعات لبنان أمريكية - يسوعية فرنسية - بريطانية أما الجامعة اللبنانية فكان طلابها والأحزاب الوطنية تتظاهر لغرض إنشاء كليات تطبيقية فيها.
عندما أنشئت جامعة بيروت العربية بدعم مصرى، نظم محامو لبنان إضراباً عاما احتجاجاً على إدخال تعليم الحقوق فى جامعة بيروت العربية، ووقفت قوى سياسية بقيادة حزب الكتائب ضد الحقوق فى العربية، زعما بأن تدريس الحقوق فى جامعة بيروت العربية سيخرِّج محامين لبنانيين متعاطفين مع القضايا والقوانين العربية «المصرية دائماً» مما أدى إلى منع تدريس الحقوق فى جامعة بيروت العربية لسنوات طويلة.
وإلى جانب جامعة بيروت العربية، أنشأت مصر المركز الثقافى العربى، الذى كان مركز استقطاب الشباب اللبنانى «المسلم تحديداً» من كل المناطق للقراءة والثقافة والرياضة الذهنية والتجمعات الشبابية والشرائط المصرية الرسمية «جريدة مصر»، وكان مجرد ظهور صورة جمال عبدالناصر فى صالة العرض يلهب حماس الشباب فيضج بالتصفيق والهتاف داخل الصالة تماماً مثلما كان يحصل فى صالات السينما للسبب نفسه.
وبعد الحصار الاقتصادى على مصر عام 1965 بسبب سياستها توقفت مصر عن الصرف على المركز الثقافى العربى وتحول إلى جمعية متخرجى جامعة بيروت العربية الذى مازال حتى الآن يؤدى الدور نفسه.. إنما دون سياسة مع إضافة نشاطات أخرى، كلقاء الطلاب فى مناسبات الفرح والحزن والتشاور.
ولعلنى أدين شخصياً لمصر فى تخرجى من جامعة بيروت العربية قسم التاريخ عام 1972 وحملى لدبلوم الماجستير من جامعة القاهرة عام 1973 على يد الدكتور الراحل محمد أنيس وكذلك للمركز الثقافى الذى أنشأته مصر بمستوى من الوعى تمتعت به باكراً بالقضايا القومية والوطنية.
ربما من أجل هذا واعترافا منى بجميل مصر علىّ وعلى الملايين من العرب.. وعندما بدأ عدوان 5 حزيران - يونيو 1967 صباح ذلك الاثنين الأسود، توجهت مع نحو 50 طالبا لبنانيا إلى نادى الصيد بالدقى للتطوع للقتال دفاعاً عن مصر، واشترطنا جميعاً على العقيد الذى تولى تدريبنا ونحن نلبس الجزم العادية وبملابسنا الصيفية أن يتم إرسالنا إلى الجبهة للقتال المباشر ضد العدو.. بعد التدريب رافضين أن يتم تركنا فى القاهرة لحراسة الكبارى والمرافق العامة.
وعندما وصلنا إلى صباح الجمعة فى 9 يونيو 1967 لم ندخل مرمح التدريب كالمعتاد بل نادانا العقيد المصرى وهو يضع نظارة سوداء على عينيه ليقول لنا بصوت صارخ.. لو كان عندنا دم.. فعلينا أن نتوجه الآن إلى السفارة السوفيتية.. أولاد ال.. ونحرقها علشان سابونا فى المصيبة اللى إحنا فيها.
وبعد ظهر يوم السبت فى 6 أكتوبر عام 1973 الموافق 10 رمضان، كنت أدرس فى حديقة المتحف الزراعى عندما سمعت من مذياع مقصف الحديقة صوت مذيع إذاعة القاهرة يعلن فى الساعة الثانية وعشرين دقيقة بعد الظهر أن العدو الصيونى بدأ عدواناً على مصر وأن قواتنا المسلحة ترد بما يلزم.
توجهت بعد أن أقفلت كتابى نحو قسم الدقى لأطلب من الضابط الشاب قبول تطوعى فى الجيش المصرى للقتال ضد العدو الصهيونى، شارحاً للضابط أننى حاولت ذلك عام 1967 لكن الحرب انتهت قبل أن تبدأ، والآن يجب أن أؤدى واجبى نحو مصر وفاءً وحباً.. نهض الضابط من خلف مكتبه واتجه نحوى فاتحا ذراعيه مطمئناً: رجالتنا عبروا القنال وحندى أولاد الكلب دول الدرس اللازم.
وبعد
إنها ربما تكون بعضا من سيرتى الذاتية.. لكنها أيضاً سيرة جيل بأكمله تعلم من مصر، وقرأ ثقافتها وكتابها وصحفييها ومجلاتها وصحفها، وتعلم منها ومن سياستها، ونهل من معارفها وتكون وجدانه من أبطالها السياسيين والمثقفين والفنانين، فأول مرة سمعت فيها أغنية بعد نشيد الله أكبر كانت أغنية عبدالحليم حافظ: عشانك ياقمر، وعندما سألت ابن جيراننا: من الذى يقول هذا الذى تردده؟.. قال إنه عبدالحليم.. وتصورت عبدالحليم مرتديا روبا أسود يقف عند سبيل ماء يوزعه على الصبايا.
لم أكن وحدى عاشقا عبدالحليم أو عبدالوهاب أو ليلى مراد.. بل أجيال بأكملها. لم أ كن وحدى عاشقا جمال عبدالناصر والسد العالى وتأميم القناة وتوزيع الأراضى التى سرقها الإقطاع على الفلاحين.. بل أجيال بأكملها.
لم أكن وحدى الذى ردد خلف أم كلثوم مصر التى فى خاطرى، وثوار ثوار ولآخر مدى، وطوف وشوف، بل ملايين العرب من المحيط إلى الخليج.. حسنا إنها ليست سيرة أو جزءا من سيرة حسن صبرا فى حب مصر.. بل هى سيرة ملايين العرب.. ولن نوفى مصر حقها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.