حسن صبرا : جزء من سيرة ذاتية كنت فى الثامنة من عمرى عندما تابعت عبر أثير مذياع والدى أبو على نشيد «الله أكبر»، وهو يثير حمية المصريين والعرب للرد على العدوان الثلاثى البريطانى- الفرنسى - الصهيونى على مصر عام .1956 لم أستطع أن أنسى منظر جدى «أبو أحمد» واقفاً على باب الدار فى زاروب العانوتى فى منطقة المصيطبة فى بيروت غروب ذات يوم من أيام نوفمبر 1956 رافعاً يديه إلى السماء داعياً أن ينصر الله جمال عبدالناصر. إنها المرة الأولى التى حفظت ذاكرتى فيها اسم «جمال» من جدى.. ثم قرأت على جدران شوارع بيروت عبارة ظلت محفوظة لسنوات بألوان مختلفة.. «فلسطين بعد القنال.. يا جمال»! لم تكن سنى ودراستى فى مدرسة الشيخ على موماى قبالة دار الزعيم صائب سلام فى المصيطبة، تسمحان لى بالقراءة المتقنة لصحف ومجلات بيروت التى تناولت العدوان الثلاثى هذا على مصر.. لكن خيالى لم يستطع حتى الآن نسيان عنوان جريدة السياسة البيروتية المؤيدة لمصر، وهو مكتوب باللون الأحمر «6500 قتيل بريطانى وفرنسى فى السويس». وبعد مرور عدة أشهر على صمود مصر وانتصارها السياسى على العدوان، توافرت فى بيروت مجلات مصر الأساسية: «المصور، آخر ساعة، روزاليوسف».. التى كان حلاقو بيروت يعرضونها فى صالوناتهم لجذب الزبائن إليهم، حيث كنت فى كل مرة أذهب فيها إلى مصطفى الحلاق «أى المزّين» أصرف عدة ساعات فى قراءة أعداد المجلات المصرية المتوافرة، حتى بت أعرف عن مصر وجمال عبدالناصر وحكوماته وضباطه والفنانين المصريين والسينما والمثقفين والأدباء والصحفيين الكثير الكثير، بما يسمح لى بمجادلة زملائى ورفاقى فى الحى والمدرسة والشارع متفوقاً عليهم فى المعرفة عن مصر فى كل المجالات. كان المذياع صلة اللبنانيين والعرب بمصر.. حيث كان يندر أن تستمع فى بيروت إلى أى محطة أخرى غير صوت العرب أو البرنامج العام.. حتى لو كانت إذاعة بيروت، وكانت المسلسلات المصرية فى إذاعة القاهرة مركز جذب المستمع اللبنانى بشكل عام والبيروتى بشكل خاص. ويعود الفضل لوالدتى الحاجة أم على التى عودتنا سماع مسلسلات مصر عبر المذياع فى الخامسة والربع بعد ظهر كل يوم.. ويعاد عرضها فى الثانية والربع بعد ظهر اليوم التالى. العسل المر ولن أنسى ما حييت اسم مسلسل «العسل المر» الذى كان بطولة الفنانين كمال الشناوى «هشام» وكريمة مختار «سوسن» وزوزو حمدى الحكيم «نزاغة» وعبدالوارث عسر والد سوسن.. فضلاً عن المسلسلات الأخرى بالمئات طيلة السنوات المستمرة.. حتى الآن.. ومازالت والدتى- أطال الله عمرها - تتابع مسلسلات مصر عبر إذاعة القاهرة حتى اليوم.. ولعل أفضل هدية أحملها إليها كل عدة سنوات هو الراديو الترانزستور الذى لا يغادر مؤشره خط إذاعة القاهرة لمتابعة مسلسلات الخامسة والربع مساء كل يوم. وعندما كانت إذاعة القاهرة تبث مسلسلاتها، كان أبناء بيروت يتحلقون حول المذياع فى أى منزل يستقبلهم بالداورة لمتابعة هذه المسلسلات. الأغانى المصرية كان أبناء بيروت يتسابقون للإعلان عن أن إذاعة القاهرة ستبث أغنية لمحمد عبدالوهاب أو ليلى مراد أو فريد الأطرش أو عبدالحليم حافظ.. أو شادية.. أما أم كلثوم فإن أول خميس من كل شهر ابتداء من شهر أكتوبر حتى أبريل كان البيروتيون على موعد معها، كى يستمعوا إلى أغنياتها المحببة فضلاً عن أغنيتها الجديدة. وقد سهرت بيروت كما القاهرة على لقاء السحاب كما وصفته صحف القاهرة أغنية «أنت عمرى» التى لحنها الموسيقار عبدالوهاب لسيدة الغناء العربى أم كلثوم بناء على رغبة جمال عبدالناصر. وبمناسبة الحديث عن أم كلثوم فإن كوكب الشرق كانت تحيى كل عام تقريباً حفلة مشهورة فى لبنان كانت كلها تتم تحت رعاية رئيس الوزراء.. وتظل بيروت ولبنان لأسابيع تتحدث عنها بإعجاب وترداد لمقاطع منها. كان أبناء بيروت يتوحدون حول جمال عبدالناصر حباً وإعجاباً وعاطفة ومشاعر قومية.. حتى لو اختلفوا حول الكثير فى مصر. فقد انقسم أبناء بيروت حول حب عباقرة الفن المصرى فى الغناء والتمثيل والقصص. فالقسم الأعظم كان مع عبدالوهاب وأم كلثوم وعبدالحليم وكان نصيب فريد الأطرش رغم كبره أقل من موسيقار الأجيال والعندليب، أما ليلى مراد فكانت ذات شعبية طاغية. وفى هذا المجال دعونا نذكر أن المسلمين فى لبنان كانوا دائماً من أنصار الفنانين المصريين.. ولم تكن المطربة اللبنانية «فيروز» تحظى بحب المسلمين كثيراً، واقتصر حبها أول الأمر على المسيحيين.. ثم انقلب الحال وبات لفيروز منذ سنوات أنصار من الجميع.. فهى مازالت على قيد الحياة، وغاب عن مصر عباقرة الغناء والفن لمصلحة التفاهة والضحالة والأصوات العادية والألحان والكلمات. وفى الرياضة التف البيارتة- أى أبناء بيروت- حول اسم بطل السباحة «عبداللطيف أبو هيف» الذى قهر المانش و«عبدالحميد الجندى» بطل كمال الأجسام المصرى.. مثلما عشقوا «عبدالحليم حافظ» وهو يغنى بالأحضان.. وناصر يا حرية.. ناصر يا وطنية. لكنهم وزعوا المحبة على النادى الأهلى لكرة القدم فكان له الجمهور الأعظم وتبعه نادى الزمالك فى نصيب المحبة وتبعهما الإسماعيلى، ويكاد اسم النادى الأهلى يتكرر فى عدة مدن لبنانية، وإن كان نشأ فى بيروت «نادى واحد» باسم الزمالك ثم تحول اسمه بعد ذلك إلى «تضامن بيروت». عندما جاء نادى الإسماعيلى بالرباعى الشهير رضا «رحمه الله» وشحته والعربى وسيد بازوكا إلى بيروت عام 1964 ليلعب مباراة ودية مع نادى النجمة وهو أبرز وأعرق أندية لبنان لكرة القدم وكان ومازال نادى المسلمين الأول، كانت هتافات الجماهير اللبنانية حتى المؤيدة لنادى النجمة تصدح: ناصر، ناصر، ناصر عند كل هدف يسجله النادى الإسماعيلى فى ناديهم المحبب النجمة. وكنا نتباهى بحصول الفرقة الموسيقية العسكرية المصرية على جائزة أفضل فرقة موسيقية فى العالم خمس سنوات متتالية، وكنا نحفظ مارش ناصر العربى تعزفه هذه الفرقة، وقد أصبح لازمة فى عزف فرق الموسيقى للكشاف فى لبنان (كشافة الجراح، الكشاف الشرقى، كشافة المقاصد).. ودائما إلى جانب نشيد «الله أكبر» للموسيقار محمود الشريف. خطابات عبدالناصر أما نشرات الأخبار فكان اللبنانيون جميعا يتوجهون إلى إذاعة القاهرة وتحديدا صوت العرب للإنصات إليها وهى تتحدث عن أخبار جمال عبدالناصر واستقبالاته.. أما خطاباته فكان اللبنانيون خاصة فى بيروت يتهيأون لسماعها قبل عدة أيام ويتبادلون الأحاديث عن توقيتها، وعن كيفية ومكان سماعها.. لأن عدد أجهزة المذياع لم يكن كبيرا فى حيِّنا (زاروب العانوتى) فى المصيّطبة. أثناء خطابات الرئيس كان اللبنانيون يتسمرون أمام أجهزة المذياع، وكنت إذا مررت فى شوارع بيروت تستمع إلى الخطاب كله حتى لو سرت ساعات، حيث كانت المحلات والمنازل والمكاتب ترفع صوت المذياع فيها ليصل إلى كل الناس. ويظل ما ورد فى خطاب الرئيس عبدالناصر مسيطرا على أحاديث سهرات الكبار وأحاديث الشباب وحتى الصغار كانوا يتبارون فى ترداد ما حفظوه من خطاب الرئيس.. دون أن ننسى اهتمامات صحافة بيروت التى كانت مرآة سياسة العرب المختلفة والمتعادية ومازلت حتى الآن أحفظ من أخبار بورصة مصر التى كانت إذاعة القاهرة توردها بعد نشرة أخبار الساعة الخامسة.. عبارة: القطن طويل التيلة جود فرى جود «very good» «good». الشيخ عبدالباسط كنا أطفالا فى زاروب العانوتى نجتمع صباح كل يوم دراسى حول مذياع والدى أبوعلى - رحمه الله، كى ننصت إلى القرآن الكريم من إذاعة القاهرة، وكان معظمنا من أنصار القارئ الشيخ «عبدالباسط محمد عبدالصمد»، وكنا حريصين على متابعة أخباره التى تنشرها المجلات المصرية وكان هناك ولد واحد فقط هو ابن عمى أحمد صبرا من أنصار الشيخ مصطفى إسماعيل! كان القرآن الكريم يبث من السابعة إلا الربع صباحا حتى الساعة السابعة وبعده تنطلق المقدمة الموسيقية لها بعد رنات جامعة القاهرة معلنة الوقت.. ولا نترك المنزل إلى المدرسة التى كنا جميعا طلابا فيها إلا بعد سماع موجز الأخبار.. ولم يكن أكبرنا تتجاوز سنه تسع سنوات. رمضان بيروت الشيعى على التوقيت المصرى فى شهر رمضان كان الخلاف (ومازال) فى التوقيت ببدئه لا فى نهايته، فى لحظة الإفطار، ولحظة الإمساك قائما بين السنة والشيعة. كان السنة فى بيروت ومازالوا يلتزمون غياب الشمس لبدء الإفطار، لكن شيعة بيروت والجنوب ينتظرون إطلاق مدفع الإفطار عبر إذاعة القاهرة كى يحلّوا الإفطار.. وكذلك الإمساك. أما السحور.. فكنت تستمع إلى إذاعة القاهرة وهى تبث خلاله مسلسل «ألف ليلة وليلة» بصوت العظيمة زوزو نبيل عن قصة طاهر أبوفاشا. مصرى فى زاروب العانوتى لاينسى أبناء زاروب العانوتى (الحى الذى ولدت فيه) واقعة حضور شاب مصرى على عكازين مبتورة رجله اليمنى إلى الزاروب، حيث تحلق حوله سكان الحى كلهم شباباً وشيباً وأطفالاً ونساء وفتيات فرشوا له حصيرة وسط الزاروب يجلس فوقها والجميع يتسابق لتقديم الضيافة له: شاى، قهوة، تسالى، فاكهة.. والجميع حوله منصت إلى لهجته المصرية الجميلة، والفتيات يتضاحكن ويتهامسن من عذوبة اللهجة ورقتها وهذه تقول: يا الله أنا لا أصدق أننى أقابل مصريا، وهذه تدندن لعبدالحليم يا مواعدنى بكرة.. وهو يشرح كيف بترت رجله فى عدوان .56 الوحدة مع سوريا عندما قامت الوحدة المصرية - السورية عام 1958 بإعلان الجمهورية العربية المتحدة ازدانت بيروت قبل القاهرةودمشق وحلب بصور جمال عبدالناصر، وتسابق الزعماء اللبنانيون المسلمون خاصة فى نشر صورهم مع جمال عبدالناصر، وفرش أبناء المصيطبة أرض منطقتهم بالرمل ورفعوا سعف النخيل زينة مع الأضواء الملونة واللافتات التى تحيى الوحدة - وتسابقنا أطفالا خلف خطاط من آل قرانوح نحمل له السلم وجرادل البويا ليخط على حيطان بيروت عبارات «عاشت الجمهورية العربية المتحدة، عاش جمال عبدالناصر». وكنا نتخاطف صور عبدالناصر وشكرى القوتلى لرفعها على الحيطان ونخبئ البعض منها لنحملها إلى منازلنا لنلصقها على حيطاننا فى الداخل والخارج. كان أبناء بيروت يعيشون فى عيد كلما جاء جمال عبدالناصر إلى دمشق فى عيد الوحدة، وتتقاطر مواكب السيارات لرحلة العمر السنوية إلى دمشق لتحية جمال عبدالناصر، الذى كان يطل عليها من على شرفة قصر الضيافة فى دمشق محييا بكلتا يديه، ومازالت بيوت بيروت تحمل وترفع صورا لأصحابها مع عبدالناصر فى دمشق، ولا أنسى حديث الفتاة البيروتية ابنة الخامسة عشرة من عمرها والتى جاءت إلى منزلنا بعد عودتها من زيارة دمشق لتحدثنا وسط حسرتنا عن مشاهدتها لجمال عبدالناصر واحتضانه وطبع قبلة على خده، وهى فى فخر شديد كيف أن العملاق الأسمر أحنى قامته كى يسمح لها أن تطبع قبلتها على خده. هدايا بصور مصرية كان كل من يريد أن يروج لسلعته خاصة بين الأطفال يقدم هدايا يرتبط الحصول عليها بالمعرفة والحفظ عن مصر تحديدا، فمعمل هوليوود للحلويات الخاصة بالصغار كان يقدم هدية لكل من يجمع صورا لقادة مصريين (وعرب من أنصار عبدالناصر) وكان الرقم 9 يحمل صورة عبدالحكيم عامر ومن يحصل عليها ينال جائزة تسعد الأطفال.. ومازلت احتفظ فى منزل أهلى بفانوس صغير حصلت عليه بعد أن جمعت الصور المطلوبة، رغم مرور نصف قرن على الجائزة. سيارة نصر تلقى رئيس حزب النجادة فى لبنان صاحب شعار بلاد العرب للعرب، سيارة نصر هدية من المصانع الحربية فى مصر، فكان أبناء بيروت يتحلقون حول السيارة فى أى مكان تجوب فيه شوارعها ليتباهوا بالصناعة المصرية.، مثلما يتباهون بالنسيج المصرى وقميص اللينو الأزرق الذى كان عبدالناصر يظهر فيه.. بعد أن أصبح التليفزيون العربى ملونا. ومازلنا نذكر كيف أن جريدة النهار عندما أدخلت الألوان إلى طباعتها، نشرت صورة لجمال عبدالناصر وهو يتفقد أحد المصانع المشيدة حديثا «يومها» فى حلوان ونشرت الصورة فى صدر صفحتها الأولى تحت عنوان «أول صورة بالألوان.. عبدالناصر فى حلوان»، رغم أن سياسة جريدة النهار البيروتية يومها كانت تضج بالعداء لعبدالناصر. ومازال أبناء مؤسس جريدة الأنوار التى كانت ناصرية سعيد فريحة يذكرون أن الرجل أسس بعد الجريدة فرقة شعبية للرقص الشعبى سماها فرقة الأنوار، وعند موعد افتتاحها أبى أن يدخل القاعة لإعلان الافتتاح إلا إذا أذاع للناس برقية تهنئة من جمال عبدالناصر مقسما أنه سينتحر على باب قاعة العرض إذا لم يتلق هذه البرقية ورعاية عبدالناصر للحفل. كان إذا شتم أحدهم مصر أو جمال عبدالناصر فى مقهى أو مكان عام يقتل على يد شاب يحب مصر وجمال عبدالناصر ويهرب لتحميه الناس، ويظل متخفيا إلى أن تسقط عقوبته بالتقادم، وبعضهم هرب إلى مصر وعاش فيها ردحا من الزمن. لماذا لم يزر عبدالناصر لبنان؟! كان كثير من اللبنانيين يأملون ويتمنون زيارة جمال عبدالناصر لبلدهم ليحملوا سيارته على الأكتاف مثلما كان يحصل فى كل بلد عربى يزوره عبدالناصر.. اليمن، سوريا، الجزائر، السودان،... لكن جمال عبدالناصر رفض القيام بزيارة لبلد ينقسم أبناؤه حول هذه الزيارة، حيث يؤيدها نصف مواطنيه ويعارضها النصف الآخر ويعتبرها استفزازية. كان جمال حريصا على وحدة لبنان وشعبه، وعندما كان رئيسا للجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا زار لبنان للقاء رئيسه يومها «1959» اللواء فؤاد شهاب، وعقد معه مباحثات تاريخية فى خيمة نصبت على الحدود حتى لا يستفز أحدا من اللبنانيين. على كل لقد كتب لخالد جمال عبدالناصر أن يزور لبنان على رأس فريق لكرة اليد، لخوض مباريات ودية مع أندية لبنانية وكان استقباله تاريخياً من اللبنانيين وعلى رأسهم هذه المرة المسيحيون قبل المسلمين، الذين جعلوه رئيساً فخرياً لنادى النجوم لكرة اليد أهم فرق لبنان بهذه اللعبة يومها. جامعة بيروت العربية أنشأت مصر فى لبنان جامعة بيروت العربية التى احتفلت منذ أسابيع بعيد تأسيسها الخمسين، وهى خرَّجت خلال هذه السنوات عشرات الآلاف من المهندسين والمحامين والأطباء والصيادلة وأساتذة الجامعات والسفراء ورجال الأعمال اللبنانيين والعرب، فقد كانت أيضاً جامعة بسطاء الخليج العربى وحتى أغنياؤهم، وأحدثت توازنا فى لبنان بين المسلمين والمسيحيين بعد أن كانت نقابات المهن فى لبنان حكراً على المسيحيين بات بعض النقباء مسلمين، وبات بإمكان الفقراء ومتوسطى الحال تلقى التعليم العالى فى فترة كانت فيه جامعات لبنان أمريكية - يسوعية فرنسية - بريطانية أما الجامعة اللبنانية فكان طلابها والأحزاب الوطنية تتظاهر لغرض إنشاء كليات تطبيقية فيها. عندما أنشئت جامعة بيروت العربية بدعم مصرى، نظم محامو لبنان إضراباً عاما احتجاجاً على إدخال تعليم الحقوق فى جامعة بيروت العربية، ووقفت قوى سياسية بقيادة حزب الكتائب ضد الحقوق فى العربية، زعما بأن تدريس الحقوق فى جامعة بيروت العربية سيخرِّج محامين لبنانيين متعاطفين مع القضايا والقوانين العربية «المصرية دائماً» مما أدى إلى منع تدريس الحقوق فى جامعة بيروت العربية لسنوات طويلة. وإلى جانب جامعة بيروت العربية، أنشأت مصر المركز الثقافى العربى، الذى كان مركز استقطاب الشباب اللبنانى «المسلم تحديداً» من كل المناطق للقراءة والثقافة والرياضة الذهنية والتجمعات الشبابية والشرائط المصرية الرسمية «جريدة مصر»، وكان مجرد ظهور صورة جمال عبدالناصر فى صالة العرض يلهب حماس الشباب فيضج بالتصفيق والهتاف داخل الصالة تماماً مثلما كان يحصل فى صالات السينما للسبب نفسه. وبعد الحصار الاقتصادى على مصر عام 1965 بسبب سياستها توقفت مصر عن الصرف على المركز الثقافى العربى وتحول إلى جمعية متخرجى جامعة بيروت العربية الذى مازال حتى الآن يؤدى الدور نفسه.. إنما دون سياسة مع إضافة نشاطات أخرى، كلقاء الطلاب فى مناسبات الفرح والحزن والتشاور. ولعلنى أدين شخصياً لمصر فى تخرجى من جامعة بيروت العربية قسم التاريخ عام 1972 وحملى لدبلوم الماجستير من جامعة القاهرة عام 1973 على يد الدكتور الراحل محمد أنيس وكذلك للمركز الثقافى الذى أنشأته مصر بمستوى من الوعى تمتعت به باكراً بالقضايا القومية والوطنية. ربما من أجل هذا واعترافا منى بجميل مصر علىّ وعلى الملايين من العرب.. وعندما بدأ عدوان 5 حزيران - يونيو 1967 صباح ذلك الاثنين الأسود، توجهت مع نحو 50 طالبا لبنانيا إلى نادى الصيد بالدقى للتطوع للقتال دفاعاً عن مصر، واشترطنا جميعاً على العقيد الذى تولى تدريبنا ونحن نلبس الجزم العادية وبملابسنا الصيفية أن يتم إرسالنا إلى الجبهة للقتال المباشر ضد العدو.. بعد التدريب رافضين أن يتم تركنا فى القاهرة لحراسة الكبارى والمرافق العامة. وعندما وصلنا إلى صباح الجمعة فى 9 يونيو 1967 لم ندخل مرمح التدريب كالمعتاد بل نادانا العقيد المصرى وهو يضع نظارة سوداء على عينيه ليقول لنا بصوت صارخ.. لو كان عندنا دم.. فعلينا أن نتوجه الآن إلى السفارة السوفيتية.. أولاد ال.. ونحرقها علشان سابونا فى المصيبة اللى إحنا فيها. وبعد ظهر يوم السبت فى 6 أكتوبر عام 1973 الموافق 10 رمضان، كنت أدرس فى حديقة المتحف الزراعى عندما سمعت من مذياع مقصف الحديقة صوت مذيع إذاعة القاهرة يعلن فى الساعة الثانية وعشرين دقيقة بعد الظهر أن العدو الصيونى بدأ عدواناً على مصر وأن قواتنا المسلحة ترد بما يلزم. توجهت بعد أن أقفلت كتابى نحو قسم الدقى لأطلب من الضابط الشاب قبول تطوعى فى الجيش المصرى للقتال ضد العدو الصهيونى، شارحاً للضابط أننى حاولت ذلك عام 1967 لكن الحرب انتهت قبل أن تبدأ، والآن يجب أن أؤدى واجبى نحو مصر وفاءً وحباً.. نهض الضابط من خلف مكتبه واتجه نحوى فاتحا ذراعيه مطمئناً: رجالتنا عبروا القنال وحندى أولاد الكلب دول الدرس اللازم. وبعد إنها ربما تكون بعضا من سيرتى الذاتية.. لكنها أيضاً سيرة جيل بأكمله تعلم من مصر، وقرأ ثقافتها وكتابها وصحفييها ومجلاتها وصحفها، وتعلم منها ومن سياستها، ونهل من معارفها وتكون وجدانه من أبطالها السياسيين والمثقفين والفنانين، فأول مرة سمعت فيها أغنية بعد نشيد الله أكبر كانت أغنية عبدالحليم حافظ: عشانك ياقمر، وعندما سألت ابن جيراننا: من الذى يقول هذا الذى تردده؟.. قال إنه عبدالحليم.. وتصورت عبدالحليم مرتديا روبا أسود يقف عند سبيل ماء يوزعه على الصبايا. لم أكن وحدى عاشقا عبدالحليم أو عبدالوهاب أو ليلى مراد.. بل أجيال بأكملها. لم أ كن وحدى عاشقا جمال عبدالناصر والسد العالى وتأميم القناة وتوزيع الأراضى التى سرقها الإقطاع على الفلاحين.. بل أجيال بأكملها. لم أكن وحدى الذى ردد خلف أم كلثوم مصر التى فى خاطرى، وثوار ثوار ولآخر مدى، وطوف وشوف، بل ملايين العرب من المحيط إلى الخليج.. حسنا إنها ليست سيرة أو جزءا من سيرة حسن صبرا فى حب مصر.. بل هى سيرة ملايين العرب.. ولن نوفى مصر حقها.