بقلم نرمين سعد الدين اجتمعت الأسرة علي الإفطار في شهر رمضان في بيت العائلة كعادتهم دائماً ، وبعد أن انتهوا من تناول الطعام انصرفوا جميعاً كلاً إلي شأنه ، وانسحبت الجدة في هدوء إلي غرفتها وجلست في النافذة تتأمل القمر الذي صار بدراً في ذلك اليوم . وبينما كانت شاردة تتأمل في غرفتها سمعت طرق علي الباب ، فسألت من بالخارج ؟ فأجابتها حفيدتها أنا يا جدتي أتأذنين لي بالدخول ؟ ابتسمت وقالت لها طبعاً يا حبيبة القلب ونور العين ، دخلت الفتاة علي جدتها وهي تبتسم وتمازحها وتقول " تفرطين في تدليلي يا جدتي أكثر من أخوتي وأبناء عمومتي " ، تبسمت الجدة وقالت تقولينها ممازحة ولكن تلك هي الحقيقة بالفعل ، أنت يا حبيبتي أول أحفادي واصريت حين ولادتك علي أن يطلقون عليك اسم ( سلسبيل ) لأنه يمثل لي شيئاً كبيراً ولي معه قصة كبيرة ، ولأنك تحملين هذا الاسم فمعزتك بقلبي معزتين. نظرت سلسبيل لجدتها وتسألت في دهشة قصة طويلة ! ما هي تلك القصة ؟ هل يمكن أن تحكيها لي يا جدتي ؟ أومأت جدتها برأسها وقالت بلي يا حبيبتي سأرويها لك ، أنت الآن تجاوزت العشرين من العُمر ويمكن أن أبوح لكي بمكنون نفسي وأنا أعلم أنك ستفهمين وتدركين ما أقول . بعد أن قالت الجدة كلمتها تلك عادت لشرودها مرة أخرى ونظرت خارج النافذة متطلعة للسماء تنظر للقمر وهو بدراً ويملاً السماء نوراً ، ثم نظرت لحفيدتها والتي كانت هي الأخرى تنظر لجدتها في دهشة وقالت " لا تندهشين يا حبيبتي فلي مع البدر معاد كل عام " ، عندما كنت أصغر منك سناً وبالتحديد عندما كنت في السنة النهائية من الثانوية ، قامت المدرسة بتنظيم رحلة إلي قناة السويس لمؤازرة الجنود علي الجبهة والرفع من روحهم المعنوية ، كنا حينها بعد النكسة بعام وكانت مصر لم تزل تعاني من جرح الهزيمة ، قاطعت سلسبيل جدتها بسؤالها وكيف يرسلون بفتيات في مثل هذا السن لزيارة مكان خطر كهذا ؟ أجابتها الجدة وقالت كان الاتجاه السائد في تلك الأيام هو إزالة أثار العدوان ورفع الروح المعنوية للجنود وتهيئتهم للحرب القادمة مهما كان الثمن وأياً ما كانت الوسيلة ، ولكن ما حدث في تلك الرحلة غير لي مسار حياتي فيما بعد تغييراً جذرياً فأثناء وجودنا علي الجبهة نتسامر ونتبادل أطراف الحديث مع الجنود عادت جماعة من الضباط والجنود كانوا قد ذهبوا في عملية للجبهة الأخرى من قناة السويس ، العملية كانت قد تمت بنجاح وعاد الناجين منهم ولكن من ضمن هؤلاء الناجين كان منهم العديد من المصابين وكانت إصاباتهم كبيرة وخطيرة ، وعندما رأيت هؤلاء المصابين سقطت مغشي علي ونقلوني إلي المستشفي العسكري هناك . كان من نقلني إلي المستشفي ضابط شاب ، كان حريصاً علي زيارتي كلما جاء للقاهرة وتقاربنا جداً في ذلك الوقت ، كان ذو شخصية قوية وجذابة ، في ذلك الوقت كان كل الشباب لهم صفات خاصة جداً كلهم شهامة ورجولة نظراً لأنهم تربوا في ظروف قاسية وعانوا من ويلات الحرب مما أصقلهم وقوي شخصيتهم ، أنا أيضاً بعد ما حدث لي في تلك الرحلة قررت بعد أن أتممت دراستي الثانوية بتفوق أن التحق بكلية الطب حتى أستطيع المساهمة ولو بالقليل في تلك الحرب ، وبعد دخولي لكلية الطب بعام واحد تمت خطبتي للرائد يوسف واتفقنا أن نتمم الزواج بعد أن انتهي لدراستي وتكون مصر خرجت من كبوتها وتبدلت الظروف وانتهت الأزمة ، ولكن للأسف تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن فعندما قامت الحرب المنتظرة وانتصرنا انتصار ساحق انتظرت رجوع يوسف من الجبهة ليخبرني ببطولات الجيش ولأطمئن عليه ولكن بعد أسبوع جاء ضابط ليسلمني جواب من يوسف فرحت جداً وخطفت الجواب من يد ذلك الضابط فجواب منه معناه أنه علي قيد الحياة ، ولكن للأسف خاب ظني فعندما فتحت الجواب وجدت أول سطر مكتوب فيه ..." حبيبتي لقد أوصيت زملائي أن يذهبوا إليك ويسلمونك هذا الجواب إذا ما حدث لي مكروه ، فعندما تتسلمين هذا الجواب أكون قد أديت الأمانة وذهبت الروح لبارئها بعد أن أكون قد أديت الواجب ودافعت عن وطننا الغالي وحققت حلمك وحلمنا جميعاً بالنصر المبين ، إذا كنت ذهبت من حياتك إلي الأبد فهذا الاختيار ليس بيدي وعزائي الوحيد أن حياتي كانت ثمن لرفعة الوطن ، لا تحزني حبيبتي وليكن هذا موعدنا معاً عندما تشتاقين إلي أنظري إلي القمر كل عام في نفس اليوم ، وعندما يكون القمر بدراً أنظري إليه وستريني ابتسم لك وأرسل لك تحياتي وحبي من جنة الخلد إن شاء الله ولا تنسي أن تطلقي علي أول مولودة لك الاسم الذي طالما تمنينا أن نطلقه علي ابنتنا ( سلسبيل ) ... ومن هذا اليوم وأنا أتي إلي غرفتي كل عام في النصف من رمضان أنظر للسماء وأري وجهه في ضي القمر ، ولأني لم أنجب سوي أولاد فقط حققت أمنيته فيك أنت وأطلقت عليك اسم سلسبيل ، قالت الجدة تلك الكلمة وابتسمت لحفيدتها ثم نظرت مرة أخرى خارج النافذة تتطلع لضي القمر الذي هو من وجهة نظرها انعكاس لصورة حبيبها ، وعندما رأت سلسبيل تلك النظرة المرسومة علي وجه جدتها انسحبت وخرجت من غرفة جدتها في هدوء لتتركها مع ذكرياتها .