ارتفاع تحويلات المصريين بالخارج إلى 26.6 مليار دولار خلال 8 أشهر    وزير الإسكان يطلق وثيقة الإستراتيجية الوطنية للعمران الأخضر والمستدام    مصر والصين تبحثان تعزيز الاستثمارات في مجالي الصناعة والنقل    قرار حكومي: اعتبار مشروع الطريق الدائري ومحطة كهرباء السكاكين بالمنتزه من أعمال المنفعة العامة    الأنصاري يوجه بتكثيف الجهود وسرعة إنهاء الملفات واسترداد أراضي الدولة من غير الجادين    الرئيس السيسي يبحث زيادة حجم الاستثمارات البلجيكية في مصر    عاجل- تجدد القصف الإسرائيلي على خان يونس ومدينة غزة رغم اتفاق وقف إطلاق النار    عاجل- غارات إسرائيلية على جبال السلسلة الشرقية في البقاع شرقي لبنان    المصري:استقبال رسمى لبعثة الاتحاد الليبي في ظل العلاقات الطيبة بين الناديين    تسليم كتب دراسية جديدة لعدد 17 طالب من مصابى حادث تروسيكل منقباد فى أسيوط    ممارسة "الدعارة".. حبس "قوادة" جديدة في التجمع    وزارة التضامن الاجتماعي تفتح باب التقديم لحج الجمعيات الأهلية 2026    وزارة الداخلية تقرر إبعاد 4 أجانب خارج مصر    رئيس أساقفة يورك يطالب الحكومة البريطانية بجعل "منحة دور العبادة" دائمة    ملخص برنامج الحزب المصري الديمقراطي لانتخابات مجلس النواب 2025    لعدم استيفائهم الأوراق.. الهيئة الوطنية للانتخابات تستبعد 3 قوائم انتخابية    جماهير ليفربول تفاجىء محمد صلاح بعد أزمة الصورة    ضبط 9 أطنان دقيق بلدي مدعم بمخازن ومناخل غير مرخصة بالجيزة    صور.. انطلاق "GRAMMY House Giza 2026" لأول مرة من مصر    وزير الثقافة يشهد إطلاق وثيقة الإستراتيجية الوطنية للبناء والعمران الأخضر المستدام    مدير"منظمة التجارة الخارجية اليابانية": "المتحف المصري الكبير" أيقونة للتراث المصري وشراكة تتجاوز التمويل    بشير التابعي: زيزو أفضل لاعب في الأهلي    عندنا أمم إفريقيا.. محمد شبانة يوجه رسالة هامة ل ياسر إبراهيم    شراكة وطنية جديدة لتوسيع زراعة القمح ضمن مبادرة «ازرع»    رئيس جامعة المنوفية يعقد اجتماعًا أون لاين بالعمداء    أضرار جسيمة في منشآت الكهرباء والمياه بعد هجوم بطائرة مسيرة في السودان    استمرار تدفق المساعدات الإنسانية من مصر إلى قطاع غزة    البنك الأهلي يحصد شهادة التوافق لإدارة وتشغيل مركز بيانات برج العرب من معهد «Uptime»    29 أكتوبر الحكم على علياء قمرون فى نشر محتوى وفيديوهات خادشة    رابط نتيجة التظلمات بمسابقة النقل النهري.. استعلم الآن    جولر بعد الفوز على يوفنتوس: نُريد برشلونة    الزمالك يجهز شكوى لتنظيم الإعلام ضد نجم الأهلي السابق    رانيا يوسف تكشف الفرق الحقيقي في العمر بينها وبين زوجها: مش عارفة جابوا الأرقام دي منين!    حنان مطاوع بعد فيديو والدها بالذكاء الاصطناعي: "اتصدمت لما شوفته وبلاش نصحي الجراح"    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس 23-10-2025 في محافظة الأقصر    مستشفى الجراحات الجديد بطنطا ينضم لمنظومة التأمين الصحي الشامل    وزيرا الصحة والتعليم العالي يفتتحان المؤتمر العلمي الدولي ال66 للجمعية المصرية للأمراض الصدرية والدرن    إجراء جراحة نادرة لإنقاذ حياة مريض فلسطيني مصاب من غزة بجامعة الإسكندرية    الصحة توقع مذكرة تفاهم مع الجمعية المصرية لأمراض القلب لتعزيز الاستجابة السريعة لحالات توقف القلب المفاجئ    فاليري ماكورماك: مصر مثال عظيم في مكافحة السرطان والتحكم في الأمراض المزمنة    ستيفن وارنوك: ليفربول أثبت قدرته على الفوز دون محمد صلاح واستبعادُه قد يتكرر مستقبلاً    فيلم السادة الأفاضل يحصد 2.2 مليون جنيه في أول أيامه بدور العرض السينمائى    عمر عصر يخضع للتحقيق بالفيديو من ألمانيا بعد خناقة البطولة الأفريقية    ما حكم بيع وشراء العملات والحسابات داخل الألعاب الإلكترونية؟ دار الإفتاء تجيب    هل التدليك الطبى حرام وما حكم المساج فى الإسلام؟.. دار الإفتاء توضح    مصرع شخص صدمته سيارة أثناء عبوره للطريق فى الهرم    محمد صلاح.. تقارير إنجليزية تكشف سر جديد وراء أزمة حذف الصورة    هيئة البث الإسرائيلية: تل أبيب تبلغ أمريكا رفضها لعمل الأونروا فى غزة    إطلاق القطار السريع وافتتاح مشروعات كبرى.. أحداث هامة بمعرض TransMEA القادم    الاتحاد الأوروبى: تم حظر استيراد الغاز المسال الروسى    بسبب تجاوزات في آليات اختيار مرشحي الحزب.. أمين حزب الجبهة الوطنية بسوهاج يتقدم بالاستقالة    حالة الطقس في الكويت اليوم الخميس 23 أكتوبر 2025    الإعلان عن القائمة النهائية الرسمية لمرشحى مجلس النواب 2025    سعر اليورو مقابل الجنيه المصري اليوم الخميس 23 أكتوبر 2025 في البنوك المحلية    علي الحجار يتأثر بغنائه «فلسطيني» في مهرجان الموسيقى العربية    سيصلك مال لم تكن تتوقعه.. برج الدلو اليوم 23 أكتوبر    داعية إسلامي: زيارة مقامات آل البيت عبادة تذكّر بالآخرة وتحتاج إلى أدب ووقار    مواقيت الصلاة في أسيوط غدا الخميس 23102025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الوداع الأخير ل «أُنْس الحبايب»
نشر في الوفد يوم 13 - 09 - 2011

ربما كان يعلم بأن الرحلة اقتربت من النهاية وأن عليه أن يركب قطار الراحلين فأراد أن يستدعي أحباءه وزملاءه وسنوات طفولته وصباه الأولي، لعلها تكون زاده في عالم
الآخر أو ليكتب شهادته عن عصر كامل يمثل مصر في الأربعينيات والخمسينيات بفلاحيها وأفنديتها حينما كان الحلم بوطن أفضل فريضة واجبة علي الجميع.
لا أحد سيعرف لماذا كتب «خيري شلبي» كتابه الأخير (أُنْس الحبايب) الذي صدر قبل شهور قليلة عن الهيئة العامة للكتاب من وفاته ولكن من سيقرأ ما بين دفتي الكتاب سيعرف يقيناً لماذا كان «خيري شلبي» أديبا كبيرا وحكاء أعظم فقدناه.
نحن في العام الرابع والأربعين من القرن الماضي (عام 1944) في قرية صغيرة تسمي شباس عمير تابعة لمركز قلين بمحافظة كفر الشيخ ينطق أهلها حرف السين في عسر مغلظة فتتحول إلي «صاد».
لا أحد سمع عنها أو يتذكرها علي خريطة القطر المصري آنذاك، ولكن الكاتب الكبير خيري شلبي يستحضرها من الماضي ليرسم وبقوة من خلال قريته المجهولة خريطة كاملة المعالم ودقيقة الوصف لريف مصر المحروسة فعبر كلمات مفعمة بالامتنان والحب لشخوصها ودروبها المتربة التي كان يحلم هو ورفقاؤه بأن تصبح ذات يوم شارع داير الناحية مرصوفاً وتجري فيه عربات الترام علي قضبانها ويصير في بلدته موقف لأتوبيسات الكافوري أو القصراوي تنقلهم بسهولة إلي دسوق وطنطا وكفر الشيخ ودمنهور ثم تعيدهم بمواعيد معلومة منتظمة شأن البندر والمدن الكبري.
هذه الأحلام البريئة التي داعبت خيال الطفل «خيري شلبي» وزملائه كانت بواعثها إعلان وزارة المعارف العمومية بجواز حصول التلميذ «خيري شلبي» ودفعته علي الشهادة الابتدائية في العام الدراسي (1949 - 1959) من مدرسة قريتهم «تفاس عمير الأولية الإلزامية» وأنهم لن يسافروا إلي البندر محملين أهاليهم نفقات السفر التي هي فوق احتمالهم!
هل ما قلته سلفاً يكفي لأن تعرف سنوات التكوين الأولي عن الكاتب الكبير «خيري شلبي»؟ الإجابة من عندي: بالطبع لا.
فعبر مائة صفحة ويزيد يحكي خيري شلبي عن مدرسته الصغيرة النظيفة المرشوش فناؤها دائماً بالمياه وأبوابها وشبابيكها ممسوحة بالفوطة الزفرة المبللة ومراحيضها التي يتم تنظيفها يومياً وتزويدها بحبات النفتالين ذات الرائحة النفاذة أو ترش بمحلول الفنيك.
فناظر المدرسة «حسن الزيات» لم يكن يتسامح مطلقاً في شيئين كليهما خطير: النظافة والضبط والربط.
الكاتب الكبير «خيري شلبي» هنا يجعلك لا تشعر بأنه يتحدث عن مدرسة صغيرة إلزامية لأبناء الفقراء فيصف لك موقع المدرسة الفريد بشبابيكها العريضة المطلة علي الخلاء الممتد إلي الحقول وتلة المقابر والمحاط ببيوت عتيقة من الطوب المخلوط بالتبن. في هذه المدرسة تعلم «خيري شلبي» كيف يتذوق اللغة العربية ببلاغتها ونحوها وصرفها وشعابها وأن يجلس علي تختة (القمطر) مرتفعة قليلاً وفي وسطها تجويف يبيت فيه القلم الرصاص أو الريشة وهي عبارة عن سن من المعدن ذي يد طويلة كالقلم وفي منتصف هذه الشريحة من كل تختة دائرة مفرغة تبيت فيها دواة حبر مصنوعة من الخزف الصيني الأبيض تملأ دوماً بالحبر الأزرق القاتم فيستقيم خطه ويعرف لمعاني الكلمات التي يكتبها قيمتها وجمالها.
واحد وستون عاماً تفصل بين التلميذ في الصف السادس الابتدائي «خيري شلبي» وبين تلاميذ المدارس الحكومية اليوم - والتي يقال عنها كذباً وزوراً إنها مجانية - الذين تطالع أعينهم الصغيرة كل يوم تلال القمامة أمام مدارسهم ومصاريف الدروس الخصوصية وتختهم المتهالكة وبياض الفصول الكالح التي ينوء بها كاهل أهلهم فلا تعليم حقيقيا في المدرسة ولا علاقة أستاذية بينهم وبين معلمهم الذي تحول إلي جامع للمال لا يهمه تعليم تلاميذه ولا أخلاقهم.
فخيري شلبي التلميذ يفرح بكتبه الدراسية التي يتسلمها مجاناً ويتطلعها مبهوراً بالرسوم الملونة لأنواع الحيوانات والأشجار والغابات، يتسلم الكراريس ذات الجلود الصفراء والورق الزهري المصقول ذي هوامش بالخط الأحمر علي الجانبين مع كراسة خط أنيقة وقصبتين من البوص المجوف يستقيم معها خط التلميذ ويجعله جميلاً مضبوطاً بقواعد الخط العربي، أما وجبة الغذاء المجانية التي توزع عليه هو ورفقائه في الظهيرة فهي رغيف طازج وبيضتان مسلوقتان مع قطعة كبيرة من الجبنة الصفراء الملون ذات الطعم الحريف اللذيذ ومغرفة من الفول المدمس المغمور بالزيت الفرنساوي مع قطعة حلاوة طحينية وأحياناً أصبع موز وبرتقالة!!
من سيقرأ هذه المؤانسة بين الكتب الكبير «خيري شلبي» وأحبائه سيحسده علي الرغم من تقلبات الزمن المادية في حياته واضطراره إلي امتهان العديد من المهن لتوفير حياة مستورة لنفسه ولكن في تصوري عاش حياة شديدة الثراء والغني الإنساني والنفسي فيكفي أن تقرأ ما كتبه عن فضل معلمه «حسن ريشة» أستاذه وابن شيخ كتاب القرية والشهير ب «ريشة أفندي» وتبنيه الكامل له وزملائه لكي يحصلوا علي أعلي الدرجات في الشهادة الابتدائية أسوة بتلاميذ المدارس الإلزامية فيحقق ما أراد ولكنه المعلم الذي يحلم بمستقبل أفضل لتلاميذه فيدور علي بيوت تلاميذه ومنهم تلميذه خيري شلبي ليقنع أهاليهم بتكملة تعليمهم ويرشدهم إلي مدرسة المعلمين المعفاة من المصاريف ليضمنوا لأولادهم مستقبل مضمونا فتجيء اللحظة الفارقة في مستقبل التلميذ خيري شلبي والذي كتب عن استمارة الكشف الطبي في مدرسة المعلمين أنه لن يقبل إلا بعد عمل نظارة طبية له فيسعي مرة أخري المعلم والأستاذ «حسن ريشة» ويحكي أزمة التلميذ خيري لأهل القرية فمن أين يأتي والده بخمسة عشر جنيهاً وهو أب لاثني عشر ولداً وبنتاً هي ثمن مصاريف الكشف الطبي وعمل النظارة فيتكاتف أهالي القرية جميعاً في جمع المبلغ ويذهب الأستاذ حسن ريشة إلي والد خيري لعمل النظارة الطبية لكي يلتحق بمدرسة المعلمين العليا فكانت أول نظارة طبية يضعها علي عينيه الكاتب الكبير خيري شلبي علي نفقة أهل بلدته.
«مصابيح تحت العمائم» هكذا يتحدث خيري شلبي عن جيل بأكمله من الأزهريين الخلص الذين يحق لهم أن نصفهم بالمنارات دون تزيد أو مبالغة أو بقششة في الأوصاف، الكثيرون منهم حصلوا علي عالمية الأزهر الشريف وعادوا إلي قراهم علماء بغير وظيفة رسمية حكومية اللهم إلا تفليح أرض ورثوها عن آبائهم أو يباشر بعضهم عملاً تجارياً موسمياً أو يعمل مأذوناً شرعياً أو يبقي رأساً لعائلة تفخر به وتكتسب بفضله عزة فوق عزة إلا أن مجرد وجودهم في أي بلدة يكون مصدر إشعاع ليس دينياً فحسب بل ثقافي وعلي درجة عالية من الاستشارة والشعور بالمسئولية الإنسانية أولاً ثم الوطنية ثم القومية الإسلامية يقدمهم الناس إلي منابر المساجد والإمامة ويلجأ إليهم الناس في طلب الفتاوي إذا استعصي عليهم أمر من الأمور فإن أفتوا كانوا بشراً ومواطنين بالدرجة الأولي يستخدمون عقولهم وما وهبوا فيها من علم ليس لإخافة الناس وإرهابهم من عذاب القبر ونار جهنم ليس بإظهار الله سبحانه وتعالي كمنتقم جبار فحسب وإنما لتيسير الأمور وإرشاد العقول الجامحة وهدهدة النفوس الحائرة وتطمينها وزرع الأمل فيها اعتماداً علي الرحمن الرحيم القابل للتوبة غافر الذنوب متي استقام المذنب عن حق وصدق.
حيث العبادة تعني العمل والصلاة تعني يقظة الضمير والتقوي تعني الإخلاص في تنوير العباد وإرشادهم إلي السلوك القويم.
أين ما كتبه خيري شلبي عن الشيوخ ورجال الدين في القري الصغيرة الممتدة بالآلاف في دلتا وصعيد مصر في حركة تنويرية دون ضجيج أو افتعال يعلمون صحيح الدين من الذي نراه ونسمعه الآن ويتعلمه الشباب من شيوخ السلفيين والمتشددين ورجال الدين بالفضائيات أصحاب البدل الأنيقة وأربطة العنق الوردية!!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.