رغم أن هذا التوجه قد لا يبدو غريباً، إلا أن اللافت للنظر هو كثافته فى الآونة الأخيرة.. فمنذ أن بدأ مشروع مكتبة الأسرة فى أوائل التسعينيات وقد نذر نفسه لمواجهة التطرف والتشدد، بدأ ذلك من خلال العديد من العناوين المختلفة التى صدرت على مدى العقود الثلاثة الماضية، غير أن المشروع يبدو مع احتدام حدة المعركة، قرر أن يكثف من حملته لمواجهة التطرف الذى تتخذ الأصولية أحد مظاهره، أو أنه يمثل هو ذاته أحد مظاهرها. يمكن للقارئ المتابع لسوق النشر أن يلحظ ذلك من تعدد العناوين التى صدرت عن مشروع مكتبة الأسرة فى الآونة الأخيرة، ويأتى على رأسها كتاب «ذهنية التكفير: الأصوليات الإسلامية والعنف المقدس» لمؤلفه الدكتور حسن حماد، وكتاب «جذور الأصولية الإسلامية فى مصر المعاصرة» لمؤلفه أحمد صلاح الملا، وكتاب الإسلام والعلم.. الأصولية الدينية ومعركة العقلانية لمؤلفه الباكستانى برويز أمير على بيود وترجمة محمود خيال. من التمييز بين المقدس والمدنس يحاول الدكتور حسن حماد بدء معركته مع مصطلح الأصولية، مشيراً إلى أنه رغم أن الإسلام فصل فصلاً تاماً بين المقدس من جانب والدنيوى والمدنس من جانب آخر إلا أنه على خلفية الصراعات السياسية التى تمثل جذر الصراعات العقائدية بدأت تتسع سلطة المقدس فى الإسلام بحيث لم تعد مقصورة على الكتاب والسنة فحسب ولم تقف عند حدود الرسل والصحابة بل امتدت للفقهاء والمفسرين ما جعل مساحة المقدس تتسع لدى المؤمن العادى البسيط لتشمل حتى هؤلاء الذين يمارسون الدجل والشعوذة والخرافة أحيانا باسم الدين. ويمارس المقدس الدينى سلطة لا محدودة لا على الحياة السياسية والاجتماعية، بل يمتد إلى التفتيش فى الضمائر السيطرة على العقول أو إلغائها تماماً، ويمتد إلى السيطرة على الجسد والتحكم فى كافة الأمور البسيطة والصغيرة والتافهة فى الحياة اليومية للبشر. على خلفية هذه الرؤية يحاول المؤلف تناول موضوعه معتبرا أن تفشى مناخ الإرهاب والتطرف فى مصر منذ السبعينات وحتى الآن يعد من وجهة نظره مقدمة منطقية وضرورية لنشر الإرهاب، فالإرهاب بصورته الدينية لا يزدهر إلا فى أرض مخصبة بالتطرف ولا ينمو إلا فى ثقافة تحرم الفن وتمنع التفكير وتحرم الاجتهاد والإبداع وتحاصر المرأة والأنوثة وتفتش فى الضمائر والسرائر وتقف بالمرصاد لكل ما هو جديد بوصفه بدعة وضلالة ينبغى إدانتها وتجريمها وقذفها فى النار. ويقسم المؤلف كتابه إلى ثلاثة فصول يتناول فى الأول منها منابع التطرف الدينى، وفى الثانى الأصولية كبنية منتجة للإرهاب، وفى الثالث التحليل النفسى للعنف المقدس. عن منابع الإرهاب يشير الدكتور حسن حماد إلى أن هناك عوامل اقتصادية وسياسية وثقافية ونفسية تقف وراء تزايد وتجذر ظواهر التطرف والعنف والإرهاب فى واقع الثقافة المصرية وهذه العوامل تساعد على إعادة إنتاج الخطاب الاصولى المتشدد لجماعات الإسلام السياسى بفصائلها المختلفة. ويقسم تلك العوامل إلى ذاتية وأخرى موضوعية. تتمثل الاولى فى الأزمة الاقتصادية والخواء الاقتصادى، هيمنة الخطاب الأبوى وغياب الحرية، تدنى السياسة التعليمية وتفشى الجهل والخرافة، تزايد مشاعر اليأس والخوف والتطلع لمجىء مخلص. أما الموضوعية فتتمثل فى سقوط النظام الشيوعى، غزو أمريكا للعراق، عولمة الإرهاب. وفى تناوله لدور الأصولية كبنية منتجة للإرهاب، يحاول المؤلف الاقتراب من العلاقة المأزومة بين الدين والسياسة فى مصر من خلال التعرف على فكر وأيديولوجيات جماعات الإسلام السياسى. وبعبارة محددة يقرر المؤلف أن الاصولية الدينية تقدم نفسها للجمهور الساخط المتهور بوصفها طوق نجاة وملاذاً آمناً يجد فيه هذا الجمهور الخائف حلاً سوياً وإن كان وهمياً لأزمته، والمفارقة، على ما يقول المؤلف، أن الأصوليات تقدم نفسها من خلال آليات بسيطة ورخيصة قليلة التكلفة نسبياً وروحياً لأنها لا تغامر ولا تقتحم ولا تطرح حلولاً واقعية ولكنها تواجه العالم والوجود والكون متكئة على عاصفة الإيمان ومتسلحة بسلطة الغيب والمجهول والمقدس ومن هنا تكتسب الأصوليات فى زماننا الكثير من الانتشار والقبول وتسرى كالنار فى الهشيم لأنها سهلة ولا ترهق إنسان الشرق الذى أرهقته عقلانية الحداثة الغربية بتناقضاتها وازدواجيتها. وعلى ذلك كان من نتيجة هذا الوضع أن بدأ المسلم فى قراءة التاريخ بصورة لا تقل قداسة عن قراءته للنصوص المقدسة وتعامل مع الشخصيات الإسلامية التاريخية لا على أنهم بشر مخطئون ولكن بوصفهم كائنات سماوية مطهرة لا تخضع لما نخضع له من نزوات وخطايا ونقائص. ويخلص المؤلف إلى التأكيد على أن الأصولية ليست شيئاً جديداً ولا خطراً طارئاً وإنما الجديد هو انتشارها وتحولها إلى بنية عقلية تعيد إنتاج نفسها وتضاعف ذاتها باستمرار، وأن أزمة الإرهاب الأصولى ليست فى امتلاكه فكرة مطلقة فحسب بل تكمن فى أنه يريد فرض مسلماته على الآخرين، فهو لا يطيق أن يحيا فى عالم مختلف ولا يتحمل فى هذا العالم حقائق أخرى غير حقيقته، إنه ذو ذهنية قمعية مسكونة بهوس الاصطفاء والنقاء والطهر والتحريم والاستعلاء على الآخرين ولذلك من السهل جداً أن يدمر نفسه والعالم والآخرين، معتقداً بذلك أنه قد حقق خلاصه النهائى. من التوغل فى الأبعاد الفكرية لانتشار الأصولية يحاول الكتاب الثانى حول جذور الأصولية الإسلامية فى مصر المعاصرة أن يقدم لنا زاوية أخرى للموضوع من خلال تناول مجلة المنار (1898 - 1935) التى أسسها رشيد رضا باعتبارها تمثل جذراً من أهم الجذور الفكرية للأصولية المعاصرة فى بلادنا، متتبعاً الرؤى والمواقف السياسية والاجتماعية لهذه المجلة منذ بداية صدورها حتى توقفها بوفاة صاحبها. وتتأتى أهمية الدراسة من حقيقة أن «المنار» كانت على مدى الثلث الأول من القرن العشرين، بوصفها استمراراً لحركة الإصلاح الإسلامى التى قامت على أكتاف جمال الدين الأفغانى ومحمد عبده، طرفاً أساسياً فى صراع الأفكار الذى ساد العالم الإسلامى فى تلك الفترة، تحت وطأة مواجهته سياسياً وحضارياً ضد الغرب. وفى ضوء طبيعة النشأة التى جاءت كمحاولة للحفاظ على أسس المجتمع التقليدى ومقاومة ما يتهدده من مخاطر عبر تحصين ثقافته وسد منافذ الاختراق دونها، يشير المؤلف إلى أنه بهذا المعنى فإن فكر المنار اتسم من ناحية بأنه فكر مثالى حيث فسر تخلف العالم الإسلامى بالانحراف عن مبادئ الإسلام الصحيح الذى كان قائماً حسب هذه الرؤية فى الماضى الذهبى وليس فى ضوء تخلف شروط الواقع المعاش لهذا العالم اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وثقافياً وهو من ناحية أخرى فكر محافظ، حيث كان يعارض فى العمق عناصر العلمنة والحداثة فى الثقافة العربية أكثر مما يعارض عناصر الجمود فى التراث الإسلامى التقليدى ولذا انحصرت محاولته الإصلاحية ضمن حدود ترميم الواقع وليس تغييره. وقد تجلى فكر المنار الدفاعى والمحافظ فى مجمل طروحاتها السياسية والاجتماعية، فعلى المستوى السياسى رفضت المنار قيما حداثية أساسية كالوطنية والعلمانية وهو ما انعكس فى مواقف عديدة لها على صعيد الممارسة حتى بالنسبة للفكرة الديمقراطية التى قبلتها «المنار» كان هذا القبول مشروطا بتهميش مبدأ سيادة الأمة الذى يشكل جوهر الديمقراطية بوصفه معياراً سياسياً ووضع هذه السيادة فى المرتبة الثانية ما يجعل الاعتراف بها مرهوناً دائماً بضرورة التوافق الكامل مع أحكام المعيارية الدينية الثابتة ممثلة فى الكتاب والسنة. من الجذر التاريخى إلى الحالة العلمية أو الإسلام والعلم يأتى هذا الكتاب الثالث الذى ينعى ما نحن فيه.. فالمدارس محشوة بالتلاميذ والجامعات والمراكز البحثية مكتظة بأصحاب ألقاب الدكاترة والأساتذة، وأما الإنتاج العلمى الفعلى فحدث ولا حرج، فى الوقت الذى يلاحظ فيه تصاعد أسهم التيارات الإسلامية الأصولية وتغلغلها فى مختلف قطاعات المجتمع وسيادة خطابها على أجهزة الإعلام الرئيسية فى كثير من الدول العربية. ومن هنا يأتى تأكيد الكتاب على أن الأصولية العقائدية بالإضافة إلى روح عدم السماحة هما من أهم عوامل قتل مسيرة الازدهار فى الإسلام. وفى تحليله لوضع الأصولية فى العالم الإسلامى وحدود تأثيرها يشير المؤلف إلى ما يعتبره تزامن انهيار العلم فى الحضارة الإسلامية مع تصاعد التيارات الدينية المتكلسة التى أعاقت وجود المؤسسات المدنية واستمراريتها وإن كان يتحفظ بأنه لا يمكن القول إن رد الفعل الأصولى ضد العلم يمثل سببا منفرداً لذلك. فى توغله فى أعماق الأزمة يشير إلى أن الإسلام وبعد أن جاء للعرب بهوية جديدة واجه التحدى المتمثل فى القدرة على استيعاب عناصر العلوم المدنية بواسطة العقيدة الإسلامية، وقد تم هذا فى وقت قصير بالفعل. ويؤرخ المؤلف لحالة الصراع بين الأصولية ومنتقديها بمسارعة علماء المسلمين فى البداية وفى غمرة نشوتهم من تمكنهم من اللغة اليونانية والمنطق القياسى من استعمال ذلك فى مجادلاتهم الدينية حيث ظهر أول تطبيق لذلك فى الجدل الذى اشتعل بين أنصار حرية الإرادة من ناحية (القدرية)، وبين أنصار فكرة أن كل شىء مقدر مسبقا (مذهب الجبرية) من ناحية أخرى، وهو ما ساهم لاحقاً فى تبلور التيار الاعتزالى الذى جرى تصفيته على يد المتوكل الذى كان من السنيين المحافظين على ما يذكر المؤلف، وهكذا انتهت اكبر محاولة للتوفيق بين الوحى والمنطق باستثناء بعض المحاولات الفردية فى القرن التاسع عشر على أيدى دعاة الإصلاح فى الإسلام، حيث تم الفصل الكامل بين ما هو دينى وما هو مدنى علمانى منذ ذلك الحين. يذهب المؤلف بنظرة شمولية إلى أن الأصولية حاولت أن ترد الهجوم الذى حدث من خلال الفكر العقلانى والميول المدنية ذات الجذور اليونانية، فازدهرت بعد القضاء على المعتزلة المدارس الفكرية المحافظة والمعارضة للعقلانية بما فى ذلك علوم الاوائل. ويشير المؤلف، حسبما يؤكد فى ثنايا كتابه، إلى أن نقطة التحول الحقيقية جاءت عندما تولى الإمام الغزالى بما له من نفوذ سياسى كبير قيادة الأصوليين إلى نصرهم الحاسم، حيث «أنقذ الأصولية بكبحه العلم». وفيما يبدو محاولة إعادة الحالة التى نحن إليها إلى عرقلة الأصولية للتقدم يتناول المؤلف فى فصل خاص قضية تحت عنوان «لماذا لم تحدث ثورة علمية فى الإسلام».. انطلاقاً من أنه لكل حضارة عظيمة بصمات وتقدم على طريق المعرفة البشرية، وهو ما يبدو على صعيد الحضارة الغربية، الأمر الذى يؤكده أن العلم الحديث بدأ فى الغرب، فقد كان بإمكان خمسمائة عام من زعامة العالم أن تفرز منظومة عالمية حديثة للعلم المعاصر ولكن ذلك لم يحدث، الأمر الذى يفصل المؤلف فى تناول أسبابه على مدار الكتاب، منتهيا إلى أن العالم الإسلامى يحتاج بصفة عاجلة إلى إجراء إصلاحات جذرية فى النواحى التعليمية والاجتماعية والسياسية حتى يزدهر العلم وتنتعش الكرامة الإنسانية. ويحدد ملامح أسلوب بديل للبرنامج الأصولى المطروح بتأسيس اطار عمل والفكر على أساس المنطق والعلم يكون متسقا مع الموروث الحضارى للمسلمين يقوم على إسقاط فكرة وجود حل بسيط وفريد لكل إشكاليات المجتمع، مع ضرورة محاربة الميول التى تخلط بين التحديث والتغريب حيث كثر الاستخدام الخاطى للفظين باعتبارهما مترادفين يحملان نفس المعنى، مع وجوب إعلان هدنة لوقف المعارضة المستمرة للعلم الحديث كمشروع لنظرية المعرفة مع الإقرار بتكامل الدين والعلم. فهل من يقدم على العمل بتلك التوصيات؟