عرضنا في الحلقة السابقة الموقف العسير الذي تواجهه أمريكا وكلب حراستها الإسرائيلي حيال عجزها عن إرغام إيران علي إيقاف برنامجها النووي وتحولها إلي قوي كبري إقليمية.. خصوصاً بعد تفجر الثورات العربية ونجاح الثورة الشعبية في كل من مصر وتونس. وكما أوضح ريفا بللا الذي عرضنا الجزء الأول من تقريره المنشور علي موقع ستارفور في 19 يوليو الماضي فإن موقف السعودية غاية في الصعوبة والشعور بالقلق العميق من تصاعد النفوذ الإيراني في منطقة الخليج خصوصاً سيطرتها علي النفوذ السياسي في العراق في ظل حكومته الشيعية الحالية. ولذلك تحاول السعودية الوصول لتفاهم مع إيران خاصة إزاء الوضع المتدهور في البحرين. وفي نفس الوقت تحاول السعودية حشد جبهة سنية ضد إيران حتي لا يفاجئها كابوس إيراني في صورة ثورة شيعية تمتد من البحرين حتي المنطقة الشرقية من السعودية التي يتركز فيها شيعة السعودية والتي تضم أغني حقول النفط السعودية. وفي هذه الحلقة الثانية والأخيرة يعرض بللا المخاطر الهائلة التي تواجهها السعودية وكيفية مواجهتها لها. يقول بللا إن الهلع السعودي يفسر رد الفعل السريع للسعودية بإرسال قواتها مع قوات دويلات الخليج لسحق الثورة الشيعية في البحرين. فهذا التدخل العسكري نادر تماما من جانب السياسة السعودية التي تتسم دائما بالحرص الشديد.. وجدت السعودية نفسها مضطرة لمواجهة مخطط إيراني واسع المدي لزعزعة نظم الحكم في الخليج من وجهة نظر سعودية. لقد هدأت المظاهرات حاليا في البحرين عما كانت في منتصف مارس خلال قمة الأزمة ولكن قلق مجلس التعاون الخليجي لم يهدأ. فرغم المحاولات الفاترة للحوار الوطني فإن التمرد الشيعي في هذه المنطقة سيستمر. وهذه حقيقة تستطيع إيران استغلالها في المدي الطويل من خلال قدراتها المتطورة. وعندما رأينا في يونيو استعداد السعودية لخفض وجودها العسكري في البحرين كان الإيرانيون يلمّحون في الصحف المحلية بالرغبة في الحوار مع السعودية. وقد كشفت مصادرنا خطوات المفاوضات الإيرانية السعودية. وحتي نفهم دوافع السعودية علينا إدراك مفهوم السعودية للوضع الأمريكي الحالي في المنطقة. فلا يستطيع السعوديون الثقة الكاملة في دوافع أمريكا. فوضع أمريكا في العراق قلق. ولا تستبعد السعودية محاولة تفاهم أمريكية إيرانية تترك السعودية في العراء. فمصالح أمريكا الأساسية في المنطقة ثلاث أساسية هي ضمان تدفق النفط من خلال مضيق هرمز وخفض عدد قواتها التي تحارب مسلمين سنين لأقصي حد ومحاولة إقامة توازن قوي في المنطقة بحيث تمنع أيا من دولها سواء عربية أو فارسية من السيطرة علي كل نفط الخليج. ووضع أمريكا مرن في هذا المجال. فرغم صعوبة التفاهم مع إيران فليس هناك شيء أساسي يربط أمريكا بالسعودية فإذا شعرت أمريكا في المدي القصير أن موقفها مع إيران ضعيف فليس هناك ما يمنعها من محاولة الوصول لتسوية مع إيران. والنقطة الأولي حاليا في التفاوض بين أمريكا وإيران هي وضع القوات الأمريكية في العراق. فإيران تفضل انسحاب كل قوات أمريكا من العراق رغم خفض أمريكا الكبير لهذه القوات. والمهم لإيران ليس مجرد حجم القوات الأمريكية الباقية بالعراق ولكن أماكن تمركزها وإمكانية تحويلها سريعا من قوات تدريب للجيش العراقي إلي قوة محاربة تهدد إيران. أما أمريكا فيهمها تأمين وضع قواتها الحرج وما بقي لها من وجود دبلوماسي في مواجهة قوة إيران في المنطقة. ربما تكون أمريكا مستعدة للاستجابة لطلبات إيران بالنسبة لوجود حكومة عراقية صديقة لها ولمصالح إيران النفطية في الجنوب الشيعي. ولكنها تريد ضمان ألا تتجاوز إيران حدود طموحاتها وتهدد السعودية في نفطها. ولذلك تحتاج للاحتفاظ بقوة عسكرية توقف إيران عند اللزوم. ويبدو ذلك هو سبب عدم وصول أمريكا وإيران لاتفاق حتي الآن.. والخوف من الغدر تشعر به كل أطراف هذا النزاع. فلا تطمئن إيران لعدم هجوم أمريكا عليها لو تحررت قوات أمريكا من حرب العراق وأفغانستان. ولا تطمئن أمريكا لعدم طمع إيران في نفط السعودية. ولا تطمئن السعودية لقيام أمريكا بالدفاع عنها عند اللزوم. وعندما نجمع كل هذه العناصر معا نري أن السعودية لا خيار لها سوي التفاهم مع إيران. وليس معني ذلك أن يثق السعوديون في خصمهم الإيراني التاريخي. فالخصومة بينهما سياسية وعقائدية ومنافسة اقتصادية. ولن تزول بمجرد توقيع اتفاق بينهما. ولكن سيكون اتفاقي مرحلي تكتيكي يحد من نشاط إيران السري في تحريض الشيعة بالخليج لحين تمكن حكوماته من إنشاء قوة مقاومة عربية لإيران. ولكن إيران ستنظر لمثل هذا الاتفاق كطريقة لتفاهم أعمق يعترف بإيران كالقوة المسيطرة بالخليج ويعترف بتوسع منطقة نفوذها. وهو أمر صعب جدا للسعودية. وهذا هو مكمن الصعوبة في الموقف. فأمريكا تستطيع نظريا التفاهم مع إيران. ولكن لتنجح في ذلك لابد من اعتمادها علي قوة السنة الأساسية لامكان إقامة توازن قوي بالمنطقة. وإذا توصلت القوي السنية الرئيسية لتفاهم مع إيران دون اعتبار لمصالح أمريكا يصبح موقف أمريكا بالمنطقة غاية في الصعوبة. إذ هل يمكن مثلا أن توافق السعودية لإيران علي تصفية الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة؟ لقد قال وزير الدفاع الإيراني صراحة خلال حديث له الأسبوع الماضي لقد فشلت أمريكا في إقامة نظام دفاعي أو إبقاء أساطيل كبيرة بالخليج بصفة دائمة». ومعني هذا الكلام للسعوديين انهم مضطرون لقبول ملء إيران للفراغ الأمني بالخليج بدل أمريكا. فمستقبل الأسطول الأمريكي الخامس في البحرين غير مضمون. فهل تستطيع إيران زرع ما يكفي من الخوف في جيرانها من غرب الخليج لزعزعة وضع الأسطول الأميركي الخامس به؟ إن إيران لا تملك حاليا من القوة ما يدفع دول الخليج لطلب سحب الأسطول الأمريكي منه مقابل ضمانات إيران لأمنهم. ولكن تستطيع السعودية التلويح لأمريكا بالخطر الإيراني لإجبار أمريكا علي مساندة العرب السنة ضد إيران، إن الوضع الحالي يضع إيران في موقف قوة. فاستثمارها السياسي يعطي نتائج طيبة جدا لها في العراق. وهي تضع نفسها في وضع يمكنها من موقف تفاوضي قوي مع أمريكا والسعودية يضمن لها منطقة نفوذ إقليمية. ولكن قوة إيران ليست مضمونة الدوام في المدي الطويل. إن لديها حاليا مصادر طاقة كبيرة. ولكن عدد سكانها كبير وأرضها جبلية. ولذلك فثمن التطور لها يعني أنها لن تقوي مستقبلا مثل منافسيها من العرب. يضاف لذلك أن سكانها من أصل فارسي لا يزيدون إلا قليلا علي نصف عدد السكان. وتحديات التنمية الاقتصادية تزهق حكامها من الملالي وتحد من قوتها خارج حدودها والصورة الإقليمية في المدي الطويل ليست في صالح إيران. فتركيا في صعود ولديها قوة عسكرية واقتصادية وسياسية تمكنها من التأثير في أحداث الشرق الأوسط. والمذهب السني السائد بها يجعلها الأقرب لأغلبية أهل المنطقة. وكانت تركيا تاريخيا هي القوة التي تحجم القوة الفارسية. ومع أن تركيا ستستغرق وقتا للعودة لدورها التاريخي إلا أن ديناميكيات هذه العودة أصبحت واضحة تماما. وتصاعد نفوذها السياسي والاقتصادي والأمني أصبح محسوسا تماما. وتعمل تركيا بهدوء علي تدعيم نفوذها كقوة سنية ذات نفوذ في العالم العربي. وبالنسبة لسوريا فرغم أن نظام العلويين الحاكم ليس علي وشك السقوط فليس هناك شك في أن سحب المواجهة بين تركيا وإيران تتجمع علي الأفق بالنسبة لمستقبل سوريا. فتركيا لها مصلحة في بناء نظام سني راسخ في سوريا يحل محل حكم العلويين. بينما مصلحة إيران المباشرة هي الحفاظ علي الحكم الحالي في سوريا حتي يكون لها موضع قدم في الشام. ولا يبدو حاليا أن تركيا تستعد للمواجهة مع إيران. فالعوامل الإقليمية تساعد علي تصاعد القوة التركية. ولكن تركيا ستحتاج لمزيد من الخبرة والضغط لتحويل التصريحات الدعائية إلي عمل عندما يتعلق الأمر باستعراض القوة. وربما كان ذلك هو ما يدفع السعودية للوصول لتفاهم ثنائي مع إيران الآن. وعلي ذلك فإن الإيرانيين في سباق مع الزمن وربما خلال بضع سنوات قليلة تستطيع أمريكا التخلص من اهتماماتها الحالية في المنطقة وتعيد دراسة ديناميكيات القوة في الخليج بحماس جديد. وخلال هذه السنوات فإننا نتوقع قيام تركيا بدور كبير لممارسة وضعها كالقوة الإقليمية الطبيعية لموازنة النفوذ الإيراني وتحجيمه. وعند هذه المرحلة يأمل الإيرانيون أن يكونوا قد تمكنوا من إقامة الأنظمة وتوقيع الاتفاقات التي تمكنهم من الوقوف في وجه القوي الإقليمية الأخري. ولكن هذا المستوي من النظام الأمني في المدي الطويل يتوقف علي قدرة إيران علي الوصول إلي اتفاقات شاقة جدا مع السعودية وأمريكا بينما تكون مازالت تتمتع بمركز قوة في مفاوضاتها. وإلي هنا ينتهي هذا التقرير التحليلي العميق لتطور القوي في منطقة الخليج واحتمالات المستقبل الذي سيؤثر بالضرورة علينا في مصر أيا كانت نتائج هذا الصراع - ومع الأسف لا نجد فيما يتاح تحليلات مماثلة في مصر سواء في الدوائر الرسمية أو مراكز الأبحاث المتعددة لدينا. نائب رئيس حزب الوفد