ما أشبه اليوم بالأمس, فإذا كان المصريون قد أبهروا العالم اليوم بملحمة إنشاء القناة الجديدة فى عام واحد, فقد أبهر أجدادهم العالم من قبل بإنشاء القناة القديمة فى ظروف عصيبة, صعوبة وتعقيداً حيث تمكنوا بسواعدهم وبمساعدة آلات ومعدات بسيطة من حفر شريان حياة وفر الوقت والجهد والمال للعالم كله, اختلطت رمال القناة الأولي في حينه بدماء 125 ألف مصرى راحوا ضحية لهذا المشروع العظيم الذى عاد خيره على البشرية جمعاء. 10 سنوات كاملة قضاها المصريون فى حفر القناة الأولي التى ربطت قارات العالم ببعضها، سالت فيها دماؤهم قبل أن تغمرها مياه البحرين الأبيض والأحمر، وكانت هذه القناة سببا فى حروب خاضتها مصر بسبب المطامع الأجنبية فى السيطرة عليها، ورغم انها كانت أحد أسباب إغراق مصر فى الديون فى عهد بانيها الخديوى إسماعيل، إلا أنها أصبحت أحد أهم مصادر الدخل القومى لمصر طوال السنوات الماضية. وأعادت ملحمة انشاء القناة الجديدة هذه للأذهان عبق الذكري للملحمة القديمة لعل الذكرى تنفع المصريين، ليعلموا أنهم قادرون على صنع المستحيل دائما بسواعدهم. لم تكن فكرة انشاء قناة تربط البحرين الأبيض بالمتوسط وليدة العصر الحديث، ولكنها كانت فكرة فرعونية تبناها الملك سنوسرت الثالث فى عهد الدولة الوسطى حيث أنشأ قناة سيزوستريس التى ربطت البحر الأحمر بنهر النيل عام 1850 قبل الميلاد، ولكن بفعل العوامل الطبيعية وبمرور الزمن اندثرت هذه القناة، وغطتها رمال الصحراء، ومع زيادة حركة التجارة العالمية وطول طرق التجارة القديمة، ومع زيادة الصراع بين القوى الاستعمارية الأوربية حول طرق التجارة العالمية، أصبحت الحاجة ماسة إلى طريق أقصر وأسرع وأكثر أمنا من الطرق القديمة، فطريق رأس الرجاء الصالح الذى تم اكتشافه عام 1488 كان يسيطر عليه البرتغاليون، واشتعلت الصراعات فى أوربا بسبب هذه السيطرة، خاصة أنه بعد اكتشافه تأثر طريق التجارة القديم الذى كان يمر بمدن جنوة والبندقية الايطالية مما أدى إلى ضعف موارد الإيطاليين، وهو ما دفعهم إلى الايعاز للمماليك بشق قناة تربط بين البحرين الأبيض المتوسط والأحمر، إلا أن البرتغاليين تدخلوا وهددوا المماليك بالاتفاق مع الأحباش على تحويل مجرى نهر النيل إلى البحر الأحمر، مما أدى إلى تراجع المماليك عن استكمال دراسة الفكرة، حتى جاءت الحملة الفرنسية إلى مصر عام 1798، وعاد حلم شق قناة تربط البحرين الأحمر والأبيض وسحب البساط من تحت اقدام طريق رأس الرجاء الصالح يراود الفرنسيين خاصة أنهم وجدوا فى هذه الفكرة فرصة للسيطرة على طريق التجارة بين أوربا وتحديدا بريطانيا ومستعمراتها فى الهند، فأرسل نابليون بونابرت «فريق مسح» للتحقق من قابلية شق قناة تربط بين البحر الأحمر والبحر المتوسط، وبعد 4 رحلات استطلاعية لمسح المنطقة توصل فريق البحث لاستنتاج خاطئ بأن شق القناة سيؤدى إلى غرق دلتا النيل، حيث أن مستوى سطح البحر الأحمر أعلى من مستوى سطح البحر المتوسط ب30 قدماً، ونتيجة لهذه الحسابات الخاطئة صرف نابليون النظر عن الفكرة، بالاضافة إلى تحطم الأسطول الفرنسى فى موقعة أبى قير البحرية والضعف الذى دب فى الجيش الفرنسى، كل هذا أدى إلى تداعى الفكرة حتى رحلت الحملة الفرنسية عن مصر عام 1801، ثم عاد الفرنسيون مرة أخرى لإحياء الفكرة عام 1833 حينما عرض العالم الفرنسى ليان بك - دراسات علي محمد علي باشا أكدت أن البحرين الأحمر والأبيض فى مستوى واحد، إلا أن محمد علي رفض بسبب الصراع الشرس بين القوى الغربية على الممرات المائية وقال: لا أريد بسفورا فى مصر. وذكر محمد طلعت حرب باشا فى كتابه «قناة السويس» أن محمد على كان اقتنع بالفكرة بعد أن أشار عليه الأمير دى مترينج رئيس وزراء النمسا بإبرام معاهدة دولية بين القوى الكبرى تضمن حياد القناة وحرية مرور السفن فيها، إلا أن تعنت بريطانيا حال دون إبرام المعاهدة ومن ثم دون تنفيذ المشروع برمته، لكن الفرصة حانت من جديد أمام السياسى الفرنسى فرديناند ديليسبس الذى جاء إلى مصر عام 1832 كقنصل لفرنسا فى الإسكندرية، وقرب محمد على من أسرته حتى إنه نشأ مع ابنه سعيد، وذكرت وثائق قناة السويس التى أفرجت عنها الحكومة الفرنسية عام 2006 وسلمتها للحكومة المصرية فى 2332 قرصاً مدمجاً أن علاقة ديليسبس توطدت بالأمير سعيد الذى عرف بالبدانة الشديدة وهو ما جعل والده محمد على يمنع طهى المكرونة الإيطالية التى كان يعشقها ابنه سعيد، إلا أن ديليسبس كتب فى مذكراته أنه كان يقدم المكرونة الايطالية خفية للأمير الشاب دون علم والده، وهو ما ساعد على توطيد العلاقة بينهما حتى جاءته الفرصة لتنفيذ حلم الفرنسيين فى شق القناة بعد وفاة محمد على وتولى ابنه سعيد الحكم، خاصة بعد أن أوعز إليه مسيو ميمو القنصل السابق لفرنسا بهذه الفكرة فتوجه ديليسبس لصديقه الخديوى سعيد عام 1854 وبالفعل أصدر سعيد فرمانا تضمن عدة بنود منها: أن مدة امتياز القناة 99 عاما من يوم الافتتاح، وأن تعامل كل الدول نفس المعاملة من حيث الرسوم المقررة على العبور، ومنح الفرمان الشركة الحق فى شق ترعة لتوصيل مياه النيل إلى منطقة القناة (ترعة الاسماعيلية حاليا) على أن تترك الحكومة المصرية الأراضى غير المزروعة والصالحة للزراعة للشركة للانتفاع بها دون ضرائب لمدة 10 سنوات وبضريبة العشر طوال ال89 سنة المتبقية، ومنح الفرمان الشركة الحق فى استخراج المواد الخام اللازمة للمشروع من المناجم والمحاجر الحكومية دون ضرائب، وإعفاء الشركة من الرسوم الجمركية على الآلات والمواد التى تستوردها، ومنح الفرمان الحكومة المصرية 15% سنويا من أرباح الشركة، وقدرت نفقات المشروع وقتها ب200 مليون فرنك، إلا أن التكلفة الفعلية بلغت 369 مليون فرنك، على أن تقوم الحكومة االمصرية بتوريد 80٪ من العمال للمشروع، ولما كانت الحكومة لا تمتلك نفقات إتمام المشروع تم طرحه للاكتتاب العام، وحصلت فرنسا على أغلبية الأسهم وحق الادارة، بينما بلغت حصة مصر فيها 44%، وبدأ العمل فى القناة عام 1859 واستمر لمدة 10 سنوات كاملة راح خلالها ما يقرب من 125 ألف مصرى ضحية للعمل الشاق الذى شارك فيه ما يقرب من مليون عامل مصرى، وبلغت كمية الرمال التى تم استخراجها من القناة74 مليون متر مكعب، وبعد وفاة الخديوى سعيد، تولى الخديوى اسماعيل الحكم عام 1863 واستمر العمل فى القناة، إلا أن بريطانيا استمرت فى عدائها للمشروع وأقنعت السلطان العثمانى أن هذا المشروع ينتقص من السيادة العثمانية على مصر لأنه يسمح للشركة بالسيطرة على مساحات كبيرة من الأراضى دون الحاجة إليها، كما أن التزام الحكومة المصرية بتوريد العمالة للمشروع ينتقص من حرية الأفراد، فأرسل الباب العالى للخديوى اسماعيل يطالبه بسحب الأراضى الزائدة علي حاجة المشروع وإلغاء نظام السخرة، وذكر الكاتب الياس الأيوبى فى كتابه تاريخ مصر فى عهد الخديوى اسماعيل من 1863 إلى 1879 أن اسماعيل دفع حوالى 84 مليون فرنك كتسويات لتعديل بنود فرمان امتياز القناة الذى وقعه الخديو سعيد من قبل. افتتاح أسطورى واستمرت اعمال الحفر حتى تم الانتهاء منها عام 1869 لتشهد البشرية أضخم حفل افتتاح حضرة ملوك وزعماء العالم، وعلى رأسهم الإمبراطورة أوجينى إمبراطورة فرنسا التى أرسلت برقية لزوجها نابليون الثالث تقول فيها أنه أجمل حفل رأيته فى حياتى، وتكلف الحفل حوالى 1٫5 مليون جنيها، وكان الخديوى إسماعيل قد أمر مديرى الأقاليم بإحضار عدد من الأهالى بأطفالهم ونسائهم لحضور حفل الافتتاح، فحضره فلاحون ونوبيون وبدو بملابسهم التقليدية، وقد اهتمت الحكومة بنظافة مدينة بور سعيد، وأحضر التجار كميات هائلة من الخضراوات والفواكة واللحوم والأسماك، كما تم إحضار الثلج من القاهرة، وأقيمت ثلاث منصات مكسوة بالحرير الأخضر، تم تخصيص المنصة الأولى للخديو وضيوفه من الملوك والأمراء، والمنصة التى على يمينها لرجال الدين الاسلامى، ومنصة اليسار لرجال الدين المسيحى، كما حضر الحفل ملوك النمسا والمجر وولى عهد بروسيا وشقيق ملك هولندا وسفير بريطانيا العظمى بالاستانة، والأمير عبد القادر الجزائرى والأمير توفيق ولى عهد مصر، والأمير طوسون نجل الخديو الراحل سعيد، ونوبار باشا رئيس الوزراء وعدد كبير من رجال الدولة والقصر، كما تم استدعاء 500 طباخ من مارسيليا وجنوة وتريسا لطهى الطعام، كما تم انشاء دار للأوبرا وعدد من القصور على طول الطريق من القاهرة لبور سعيد ليستريح فيها الملوك والأمراء، ولكن نتيجة للديون التى تراكمت على مصر نتيجة لانشاء المشروع والمشروعات الأخرى التى تبناها الخديوى اسماعيل لتحويل مصر إلى قطعة من أوربا، اضطرت مصر لبيع حصتها فى أسهم القناة لانجلترا التى كانت تحتل مصر وقتها وفاء للديون . توسعات وإغلاق بلغ طول القناة القديمة عند حفرها 164 كيلو مترا وعمقها 8 أمتار، ونظرا لأهميتها الاقتصادية العالمية حيث إنها توفر 42% من زمن الرحلات التجارية بين الشرق والغرب، حتى أصبحت تستحوذ على أكثر من 10% من حجم التجارة العالمية، فقد شهدت القناة توسعات حتى أصبحت أطول ممر ملاحى فى العالم يبلغ طوله 193 كيلو مترا وعمقها 24 مترا وعرضها 205 أمتار، وتمر فيها نحو 50 سفينة يوميا، بالاضافة إلى حاملات البترول التى تنقل ما يقرب من 4 ملايين برميل يوميا تمثل 5% من انتاج النفط العالمى، لذلك أصبحت القناة تدر على مصر حوالى 5 مليارات دولار سنويا، ونظرا لهذه الأهمية العظيمة للقناة فقد كانت سببا فى العدوان الثلاثى على مصر عقب تأميمها عام 1956، حيث تحالفت كل من انجلتراوفرنسا واسرائيل لاحتلال مصر، إلا أن أبناء بور سعيدوالسويس والمقاومة الشعبية الباسلة حالت دون إعادة احتلال مصر، وظلت القناة مطمعا للغزاة ورمزا لصمود المصريين، فعقب نكسة 1967 تم إغلاق القناة امام حركة الملاحة حتى بلغت خسائر العالم بسبب هذا الإغلاق 13 مليار دولار، وتمكن المصريون من عزف سيمفونية بطولية أخرى على ضفافها حينما عبروها فى السادس من أكتوبر 1973 محررين سيناء من قبضة العدو الصهيونى الغادر، وظلت القناة مغلقة حتى أعاد الرئيس الراحل أنور السادات افتتاحها فى 5 يونية 1975. وقد شهدت القناة عمليات لإغلاقها وفتحها بلغت 8 مرات منذ افتتاحها، كانت المرة الأولى عام 1882 بسبب الاحتلال البريطانى لمصر، وظل الاغلاق لمدة يومين فقط، والثانية عام 1885 بسبب اصطدام كراكة بسفينة واستمر الاغلاق 11 يوما، والثالثة عام 1905 بسبب اصطدام سفينتين ،و الرابعة عام 1915 بسبب الحرب العالمية الأولى، والخامسة عام 1942 بسبب الحرب العالمية الثانية، واستمر الإغلاق لمدة عامين كاملين، والسادسة عام 1951 بسبب غرق احدى السفن، والسابعة بسبب العدوان الثلاثى على مصر عام 1956، أما أطول فترة تم إغلاق القناة فيها فقد كانت الثامنة والأخيرة والتى استمرت لمدة 8 سنوات بسبب نكسة 1967 واحتلال سيناء، والطريف أن هذا الإغلاق حدث أثناء رسو 15 سفينة شحن فى منطقة البحيرات المرة، فظلت محتجزة طوال هذه السنوات داخل القناة حتى أطلق عليها لقب الأسطول الأصفر، نظرا لتراكم الرمال على السفن، وكان أطقم هذه السفن يمارسون أنشطة تجارية ورياضية خلال فترة الاحتجاز، ولم يسمح لهذه السفن بالمغادرة إلا بعد اعادة افتتاح القناة عام 1975 ولكن لم يكن بالأسطول سوى سفينتين صالحتين للإبحار. هكذا كانت قناة السويس وما زالت أسطورة وملحمة شعبية رائعة أبهرت العالم فى القرن ال19، قربت المسافات بين البشر، وتحولت إلى شريان حياة يصل الشرق بالغرب، بناها المصريون بسواعدهم الفتية، وحينما توقفت لفترة تكبد العالم خسائر فادحة، وها هى القناة ترد الجميل للمصريين الذين بثوا فيها الحياة، وتصبح أهم مصادر الدخل القومى لمصر منذ إعادة افتتاحها عام 75، حيث تشير الأرقام إلى أنه منذ هذا اليوم وحتى الآن عبرت القناة اكثر من 100 ألف سفينة تجارية، وتدر دخلا سنويا لمصر يقدر ب5 مليارات دولار «تمثال الحرية» من ضفة القناة إلي نيويورك عندما أوشك حفر القناة على الانتهاء، حاول النحات الفرنسى فريدريك أوغست بارتولدى اقناع ديليسبس والخديو إسماعيل بالسماح له بنحت تمثال يسمى « مصر تجلب الضور إلى آسيا، يتم وضعه فى مدخل القناة من جهة البحر المتوسط، ووضع بارتولدى تخيله للتمثال على هيئة امرأة ترتدى ملابس فلاحة مصرية وتحمل مشعلا لتوجيه السفن إلى القناة، على أن يبلغ طول التمثال 90 قدما، إلا أن الخديو إسماعيل اعتذر له بسبب التكاليف الباهظة للتمثال فى وقت كانت فيه مصر مثقلة بالديون، ولم يقدر لهذا العمل أن يخرج للنور، فقامت الحكومة الفرنسية بمخاطبة الحكومة الأمريكية بفكرة التمثال على أن يتم إهداؤه لأمريكا فى الذكرى المئوية لعيد الاستقلال عام 1876، وقامت فرنسا من خلال الضرائب على وسائل الترفيه كاليانصيب وغيرها من توفير مبلغ 2 مليون و500 ألف فرانك لعمل التمثال وشحنه إلى أمريكا، وتم ذلك عام 1886 حيث قام غوستاف ايفل المثال الفرنسى بتصميم هيكله الانشائى، وتم وضعه فى مكانه الحالى بالقرب من خليج نيويورك، وكان اسمه «الحرية تنير العالم» ليصبح اسمه الدارج بعد ذلك تمثال الحرية