حكومات تذهب وأخرى تجىء.. رؤساء يغيبون بفعل الاحتجاجات الشعبية الصاخبة وآخرون يتبوأون صدارة المشهد وحال الخدمات الصحية في مصر كما هو حيث المستشفيات الحكومية أشبه بقبور لا مكان فيها للحياة فيما الإهمال الطبي هو العنوان العريض بالنسبة للخدمة التي تقدم لملايين الفقراء الذين سقطوا من ذاكرة الحكومات المتتالية وبالرغم من النوايا الصادقة للرئيس عبد الفتاح السيسي وانحيازه للفقراء في مختلف الملفات الا أن الواقع على الارض يبدو مختلفاً لحد بعيد حيث مازال الفقراء يخوضون صراعاً وجودياً أملاً في الحصول على حقهم المشروع سواء بالنسبة للحق في العمل أو المسكن أو العلاج.. وتعد أزمة المرضى من الفقراء في مصر هى حجر الزاوية بالنسبة للحكومات المتعاقبة التي ظلت تتحدث عن دعمها لملف الصحة وتطوير المستشفيات الحكومية غير أن التصريحات الوردية للمسئولين سرعان ما تتبدد بدون أن يشعر المرضى بأي تحسن.. فيما يلي نفتح الملف الذي له صلة بالسواد الأعظم من المصريين في محاولة الغرض منها تصحيح الأخطاء التاريخية وعلاج الأزمات التي تعاني منها مستشفيات الحكومة. بمجرد أن نقترب من أي مستشفى حكومي سترى مشهداً يتكرر في كل مستشفيات مصر حيث تنتشر طوابير المرضى الراغبين في اجراء الفحوصات أو تلقي العلاجات المطلوبة منتظرين الدخول للمستشفى ليتبع ذلك سماع أصوات وألفاظ وعبارات تحمل في طياتها آلام هؤلاء المرضى موجهين صراخهم لأفراد الأمن لفتح الأبواب امامهم للحصول على العلاج ثم يتطور الأمر الى مشاجرات بين الطرفين وبمجرد فتح الأبواب سنري مشهداً فوضوياً حيث يهرول كل مريض ومن معه للحاق بشباك تذاكر ضيق وبداخله موظف قلما أن يبتسم في وجه الزائرين وبعد أن يحصل المواطن على تذكرة الكشف يبدأ رحلة اخرى من المعاناة مع العيادات الخارجية حيث ينتشر الزحام للحد الذي يصعب الحصول على مقعد مما يجعل البعض يفترش الأرض في انتظار الدخول لطبيب يعاني في الغالب ندرة الامكانيات وتكالب المرضى الذين لا يقل عددهم يومياً عن ثلاثين فرداً على الأقل فإذا ما تم تحويل المريض وتحرير استمارة حجز له تبدأ رحلة من المعاناة وذلك بسبب النقص الملحوظ في الكوادر الطبية، «الوفد» رصدت في جولتها العديد من السلبيات في المستشفيات لتضعها أمام متخذي القرار عسى أن تحدث طفرة نلمسها في قطاع الصحة الذي شهد توافد العديد من الشخصيات على منصب وزير الصحة منذ قيام ثورة الخامس والعشرين من يناير. مأساة التأمين أصبحت ظاهرة القطط والكلاب من سمات المستشفيات الحكومية، فلا يوجد مستشفى حكومي في مصر الا وبه عدد لا بأس به من الحيوانات الضالة التي تتجول بحرية بين المرضى وفي الطرقات والغرف، بالرغم من أن هناك ما يسمى بادارة مكافحة العدوى بوزارة الصحة الا أننا لا نشعر بوجودها، هذا ما أكده د. خيري عبد الدايم نقيب الاطباء أثناء مؤتمر نقابة الاطباء الذي عقد مؤخراً قائلا: إن القطط والكلاب التي تظهر في عدد من المستشفيات أحد الشواهد على الاهمال الذي يعتري المستشفيات. وأكد أن عبء مواجهة تلك الظاهرة يقع على ادارة مكافحة العدوى والتي تطبق في الدول الأخرى من أصغر وحدة صحية، وحتى أكبر مستشفى بقواعد متفق عليها عالمياً، لكن في مصر تغيب تلك المنظومة، وأضاف: إن هناك خطأ منهجياً في سياسة ورؤية وزارة الصحة لحل مشكلات المرضى، مشيراً الى أن المسئولين القائمين على شئون الوزارة لا يصلحون للبقاء في مناصبهم وكشف عن أوضاع قاسية يعيشها الاطباء مؤكداً ان بدل العدوى الذي يحصل عليه الطبيب 19 جنيها شهرياً، وهذا أكبر دليل على الأوضاع المزرية التي تعاني منها أغلب مستشفياتنا الحكومية. وبالرغم من زيادة الميزانية الخاصة بالتأمين الصحي الى 2.5 مليار جنيه، وذلك لرفع مستوى الخدمة الصحية وتحديث أجهزتها الطبية، بالاضافة الى تمكين هيئة التأمين من زيادة قيمة تعاقداتها مع المستشفيات التي تقدم الخدمة الصحية لمرضى التأمين، الا أننا نري حالة كبيرة من التردي في الخدمات المقدمة للمرضى الذين لا يشعرون بأي تطور في الخدمة المقدمة لهم فضلاً عن مستوى النظافة المتدني، وانتشار القاذورات حيث تنتشر بقع الدم على الارضيات ليبدو مظهر المستشفى غير آدمي، كل تلك السلبيات تراها الدكتورة مني مينا امين عام نقابة الاطباء نتيجة طبيعية لأداء ضعيف ودون المستوى، للمسئولين بوزارة الصحة، مؤكدة أنه يجب تغيير السياسات العامة ورفع ميزانية الوزارة من العام الجاري، لتصل الى 3٪ من الناتج القومي كما حددها الدستور مع تشديد الرقابة على عمليات الإنفاق. الأمل في التجربة الكورية وعن الحلول التي يمكنها إنقاذ الوضع المتردي داخل المستشفيات والنهوض بمستوى الخدمة الطبية واعادة تأهيلها اكد الدكتور صلاح حامد مدير معهد ناصر السابق ل «الوفد»: إن الحل يكمن في تطبيق التجربة الكورية في التأمين الصحي والتي تتمثل في تقديم الخدمة الصحية بمقابل مادي يدفع المريض مقابل أن تدفعه الدولة عنه لاحقاً وذلك لتحسين مستوى الخدمة المقدمة للمواطنين، مشيراً الى أن ميزانية وزارة الصحة متدهورة ولا تكفي للقيام بمهامها الضخمة. وألمح الدكتور صلاح حامد الى أن الزيارات المفاجئة والتفتيش من وقت لآخر لا يفيد، على أرض الواقع، وقال: إن هناك ما يسمى «بأسلوب الادارة عن بعد» وهو اسلوب معروفاً عالمياً وتلجأ إليه بعض دول الخليج وقائم على وسائل التكنولوجيا الحديثة، وذلك عن طريق وضع كاميرات مراقبة وانشاء قاعدة بيانات متكاملة وصحيحة، تمكننا من احكام السيطرة على المستشفيات بكل يسر وسرعة في آن واحد دون اللجوء الى المتابعات الميدانية المصحوبة بالكاميرات لتحقيق شو اعلامي، أكثر منه اصلاح للمنظومة الصحية. الزيارات المفاجئة ليست حلاً الزيارات المفاجئة ليست وحدها الحل لإصلاح منظومة الصحة.. عبارة أكدها الدكتور اسامة عبد الحي أمين عام اتحاد الاطباء العرب اثناء حضوره مؤتمر نقابة اطباء مصر مؤخراً، لافتاً الى أن علي رئيس الوزراء وضع خطة لتطوير المستشفيات «مستشفى معهد القلب» وعلى مدير المستشفى تنفيذ هذه الخطة وعندما يهملها يجب محاسبته على اهماله وطالب عبد الحي بضرورة وجود آليات لقياس مستوى الخدمة وتقييم الأداء، معتمداً أساساً على رأي الجمهور وليس على الأساليب التقليدية والتي ثبت عدم جدواها في علاج مشاكل الصحة في مصر مؤكداً أن الخدمة المقدمة على هذا النحو لا يمكن تطويرها ومن هذا المنطلق علينا قياس الاداء من خلال متابعة الاداء الطبي والاداري واكتشاف التباين في مستويات الاداء. الأطباء كبش الفداء فيما ألقي الكثير من الاطباء المسئولية على الدولة وتبرئة الفريق الطبي من تهمة الخدمة الصحية السيئة المقدمة للجمهور، وذلك لضعف الامكانيات المتاحة للمنظومة الصحية، مطالبين الحكومة بسرعة الاصلاح بشكل جيد وعدم تقديم الاطباء كبش فداء، وتكشف تصريحات لنقيب الاطباء أعلنها في المؤتمر حجم المأساة حيث أكد أن الصحة ليست من أولويات الحكومة حيث يتم وضع الفتات من الموازنة العامة للدولة لها مشيراً الى أنه حتى الآن لا تعرف النقابة أي شىء عن الميزانية الجديدة للصحة، أو المبالغ التي تم رصدها لهذا الملف الحيوي الخاص بالحفاظ على صحة المواطنين، وطالب نقيب الاطباء بضرورة اعلان سبل صرف ميزانية الوزارة وضرورة دعمها. ولكي نقترب من المشهد المؤلم لواقع صحة المصريين كان لابد أن نذهب للطرف الأهم وهم المرضى الذين ابدوا امتعاضهم من غياب الخدمات المقدمة في مستشفيات التأمين الصحي، وهو ما كشفت عنه الحاجة سعاد عيد «61 عاما» قائلة: ان المواطنين الذين يترددون على مستشفيات التأمين الصحي، يفتقدون الى المعاملة الحسنة من قبل مسئولي التأمين، واشارت الى أنها تعاني كثيراً حيث تصل الى المستشفى نظراً لتقدم سنها ومرضها، وفي كثير من الاحيان لا تجد الطبيب المتخصص في الحالة، رغم تعاقد التأمين مع معظم الأطباء مقابل مبالغ كبيرة، وأضافت سعاد: إنني واجهت موقفاً غريباً حيث كتب لها الطبيب المعالج ذات مرة روشتة وعندما توجهت الى الصيدلية لصرفها في التأمين الصحي بالمعادي لم أجد أي نوع من أنواع الأدوية المكتوبة في الروشتة وعدت مرة اخري للطبيب لتغيير العلاج بما يتوافق مع ما هو موجود بالصيدلية ففوجئت بأنه غادر المستشفى، تضيف: ونظراً للروتين المعروف فإن من لديه الحق في تغيير علاجي هو فقط الطبيب الذي كتب لي الروشتة فاضطررت الى صرف العلاج علي نفقتي الخاصة من خارج المستشفى بالرغم من انني كنت موظفة ويتم استقطاع قيمة التأمين الصحي بصفة دائمة من راتبي لذا يجب أن احصل على خدمة علاجية متميزة مقابل الاشتراك الذي ادفعه الا أنه وفي كثير من الأحيان يكون العلاج بديلاً للعلاج الاصلي لأنه اقل في السعر مما كتبه الطبيب ولكنه ليس العلاج المناسب. ضحية العناية المركزة «الغلبان مالوش مكان في مستشفيات الحكومة» جملة قالها بمرارة بالغة سيد مناع متأثراً بوفاة شقيقته بمستشفى القاهرة الجديدة، مستطرداً كلامه قائلا: إن أختي تعد احد ضحايا النقص الشديد في اقسام العناية المركزة لأنها كانت تعاني من الفشل الكلوي ومضاعفاته وبعدما صرفنا كل فلوسنا على المستشفيات الخاصة لجأنا لمستشفى الدمرداش وكانت اختي في ذلك الوقت تمر بغيبوبة، وأضاف: بمجرد وصولنا المستشفى ظلت ثلاث ساعات تتألم في قسم الطوارئ لأنه لا يوجد مكان لها في العناية المركزة، ومن الدمرداش لمعهد ناصر حيث لا يختلف الأمر كثيراً عندما توجهنا للمعهد فوجئنا بعدم وجود أماكن أيضاً بالعناية ثم علمنا من طوارئ وزارة الصحة أن مستشفى القاهرة الجديدة بها مكان عناية فتوجهنا إليه ودخلت بالفعل الوحدة لكن بعد فوات الأوان لقد توفاها الله بعد عدة ساعات من دخولها. أرقام ودلالات جدير بالذكر أن ميزانية الانفاق على قطاع الصحة في أفغانستان يبلغ 7٪ من الناتج القومي للدولة وفي العراق يتراوح ما بين 8٪ و11٪ وفي مصر 3٪ وذلك بعد التعديل الذي شهده دستور 2014، وفي تقرير عن عدد الأسرة وعدد الحضانات في المستشفيات الحكومية، أكدت لجنة الدفاع عن الحق في الصحة أن عدد الأسرة في المستشفيات انخفض من 125 ألفاً و475 سريراً في عام 98 الى 115 ألفاً و735 سريراً وكان من المفترض زيادتها بما يواكب الزيادة الكبيرة في عدد السكان، وأكد التقرير أن نسبة الأسرة الى السكان في مصر تبلغ 1٫6 سرير لكل 1000 مواطن، بينما في الهند خمسة أسرة لكل 1000 مواطن، كما أكد التقرير أن عدد المواليد المحتاجين الى حضانات يبلغ حوالي 238 ألف طفل بينما كل حضانات وزارة الصحة تستوعب 111 ألفاً فقط، كما اشار التقرير الى أن نسبة عدد الاطباء في مصر مقارنة بعدد السكان هي 0٫7 طبيب لكل 1000 مواطن و1٫7 ممرضة لكل 1000 مواطن.