فى ظل الاحتفالات الروسية بعيد النصر مازال قيصر روسيا «بوتين» رجل الاستخبارات المحترف ؛القادر على تحقيق أهدافه؛ والإمساك بكل خيوط اللعبة بين أصابعه، وخاصة أن «بوتين» كان بارعاً ومتمكناً عندما انتقل من عالَم الأسرار، عالَم العباءة والخنجر كما يصفة الاختصاصيون إلى أن أصبح نائباً لعمدة العاصمة التاريخية بطرسبورج، ومنها قدم إلى موسكو؛ ثم الى سدة الحكم عام 1999 بدون «حملة مباخر» مثل يلتسين؛ يومها سمع العالم اسم فلاديمير بوتين المنعوت دائماً بالعديد من الأوصاف؛ لعل أشهرها وأقربها للواقع إن روسيا وقعت في غرام بوتين بعد أن ذاقت مرارات الانكسار في حقبة ميخائيل جورباتشوف والفساد في مرحلة يلتسين.. قيل إن شعبيته حين ذاك لم تزد على 6%؛ ولديه خصوم يملكون أنياباً قوية فى جهاز الكرملين، ينتظرون الفرصة السانحة للانقضاض عليه؛ لكنه استطاع فى أولى خطواته وضرباته تطهير الكرملين منهم ؛البعض يراه نموذجاً لرجل «الكي جي بي» المحترف في سلوكه وطريقة تفكيره؛ الذى عمل كمدير لأجهزة الاستخبارات؛ وخاض صراعاً قوياً في الشيشان؛ والتى استفاد منها وجعلته أكثر حنكة في اللعب على الحبال والمتناقضات.. إنه سيد الكرملين، بلامنازع، الذى تسلط عليه الضوء العالمى، ويتبعه أينما كان؛ لكونه ليس فقط فارض إرادة روسيا ورؤاها على الغرب، ولكن لقوة شخصيته وكاريزمته الخاصة الحاضرة بقوة على المسرح الدولي للأحداث، الذي لايدخل أى تحدٍّ مع الغرب، إلا وخرج منتصرا؛ ومستغلاً «الروسوفوبيا» التى تعانى منها أوروبا، وهى الخوف من الروس. ولقد لعب القيصر على تلك العقدة بقوة واستغلها لصالح روسيا فى كل المواقف . ولأول مرة منذ أكثر من عقد يحكم روسيا رئيس حظي بتأييد الغالبية؛ رغم ظهور معارضة له بين الحين والآخر ولكنها فى أوساط النخبة؛ وقد كانت هذه الشعبية سبباً في تأمين الانتخابات لتأتي نتائجها بعيدة كل البعدعن هيمنة الشيوعيين الذين كانوا يحصلون علي غالبية المقاعد في الماضي. ولأن رجل المخابرات يرتبط بمخاطرة غير محسوبة، فهو لايضع الرومانسية في حساباته، فهذا العمل يتطلب جهداً ذهنياً هائلاً، لقد كان ضابطاً ناجحاً في المخابرات وهو ما وضعه نصب عينيه إلى أن وصل الى أرفع منصب في الجهاز وهو ما استفاد منه فى العديد من المواقف لذلك لم يجر الى دخول القوات البرية الروسية في أفغانستان؛ بل وتعد الأمر الى حد أن القوات الروسية ساعدت الولاياتالمتحدة بصورة فعلية فى تقديم معلومات استخباراتية؛ وساعدت تحالف الشمال بالعتاد والسلاح. محققا بذلك هدفه المحوري المتمثل في العمل على استعادة دور روسيا بوصفها قطباً يحسب حسابه في مضمار العلاقات الدولية، بعد ما عاناه هذا القطب عقب انهيار الاتحاد السوفييتي في حقبة جورباتشوف؛ والاقتراب من حد الإفلاس الاقتصادي في حقبة بوريس يلتسين. وحاول تحقيق الإصلاح الاقتصادي. وقدم نظاماً ضريبياً بدلاً من النظام القديم المفتقر الي العدل في توزيع العائدات. ودفع عجلة التحديث في روسيا بكل قوة؛ وحارب آفة الفساد المستشرى في البلاد منذعقد التسعينيات. ولم ينس بوتين جموع المثقفين فهو كرجل مخابرات محنك يعرف أهميتهم في بلاده والعالم.. ولعل حكم الإفراج عن كتاب «أرخبيل الجولاج» لمؤلفه ألكسندر سولجنستين (الصادر عام 1970 ونال عنها جائزة نوبل للأدب، وهو عمل تاريخي أدبي حول معسكرات الاعتقال في عهد ستالين، وعلي إثره قرر الكرملين إبعاد الكاتب الثائر عن موطنه طوال 20 عاماً) بل وإصدار قرار بإصدار طبعة مدرسية من الكتاب ليصبح من النصوص المقررة على طلبة المدارس في طول روسيا وعرضها؛ كان هذا التصرف بمثابة الضربة القوية الموجهة لكل خصومه؛ والذين قالوا إن وصول رجل مخابرات الى الكرملين سيطفئ شعلة الابداع . وفي عام 2007، منحت روسيا الكاتب أعلي وسام تمنحه الحكومة الروسية وهو «جائزة الدولة» عن مجمل أعماله في مجال الإنسانيات،... ولقد تجلت كفاءة بوتين السياسية والإدارية فى العديد من المواقف وكانت أشدها مع الأوليجاركيين (هى شكل من أشكال الحكومة؛ وفى النظام الأوليجاركى كل السُلطة تبقى فى إيد مجموعة صغيرة من الناس) المسيطرة على الاقتصاد الروسي المتحالفين مع المافيا الروسية النشأة من التزاوج بين الثروة والسلطة؛ ومن أهم الأهداف التي وعد بوتين بتحقيقها عند توليه الحكم القضاء علي طبقة رجال الأعمال وأصحاب النفوذ الذين يحكمون البلاد من خلف ستار؛ ويسيطرون علي مقاليد الاقتصاد والسياسة وعلي رأسهم عدد من كبار المسئولين الذين كانوا مقربين من الرئيس السابق بورس يلتسين وعرفوا «باسم العائلة». كما وعد أيضاً بأن رجال الأعمال جميعهم سيعاملون بنفس الأسلوب دون تمييز.... وبوتين إعاد الاعتبار لفكرة ونزعة القومية التي طالما ندد بها حكام روسيا الشيوعية، باعتبار أن مذهبهم الشيوعي يدعو إلى الأممية تحت شعارات «يا عمال العالم اتحدوا». وعلى حساب الانتماء القومي بطبيعة الحال، إن بوتين لا يتورع ولا يهدأ على تحقيق حلم القومية الروسية بكل شموخها؛ وهو حريص على مخاطبة جماهير الأقاليم والمناطق النائية التي يجيد مهارة التواصل معهم عن هذا الحلم ؛ وهنا تكمن قوة بوتين الحقيقية وقدرته على الانتصار والاستمرار.