منذ تولي الرئيس «عبدالفتاح السيسي» رئاسة الجمهورية، قام بإرساء قواعد استراتيجية للسياسة الخارجية المصرية أساسها الحوار والتعاون وتفعيل المصالح المشتركة مع جميع دول العالم، وبالطبع كان من الضروري أن تلقي أزمة «سد النهضة» الإثيوبي بظلالها على المناخ السياسي العام في مصر، وعليه قام الرئيس شخصياً بفتح باب الحوار مع الجانب الإثيوبي ومد جسور من الثقة للتعاون بين البلدين، مما كان له الأثر الكبير في تهدئة الأجواء وإثبات «حسن النية» من خلال التفاهمات المشتركة والتأكيد على أهمية عدم الاضرار بأي طرف من الأطراف. ومن هذا المنطلق أكد الدكتور «أيمن سلامة»، أستاذ القانون الدولي العام، مستشار اللجنة العليا لمياه نهر النيل: أن اتفاق الخرطوم تضمن مبادئ هادية حاكمة استرشادية لأطراف الاتفاق حيث قامت اثيوبيا بالتوقيع على اتفاقية دولية بالتزامات كانت ترفضها في السابق، مشيراً إلى أن هذا الاتفاق يلزم اثيوبيا بتبادل المعلومات والبيانات حول السد مع مصر والسودان مؤكداً أن الوسائل الدبلوماسية وليست القضائية هي الأفضل والأسرع بالنسبة لمصر، مع أن مصر تتمسك باتفاقية الأممالمتحدة لأنها تضمن حقوقها التاريخية المكتسبة بعدم الإضرار ومراعاة دول المصب، في حين أن وثيقة الخرطوم لا تلغي ما سبقها من اتفاقيات أو معاهدات بشأن مياه نهر النيل. ما مضمون اعلان المبادئ الذي صدقت عليه مصر حول سد النهضة؟ - اتفاق المبادئ الذي وقع في 23 مارس 2015 في «الخرطوم» هو اتفاق اطاري يتضمن مبادئ هادية، حاكمة واسترشادية يلتزم بها الدول أطراف هذا الاتفاق في مرحلة لاحقة حين تبرم الاتفاقيات أو البروتوكولات التفصيلية لما ورد من مبادئ عامة في اتفاق الخرطوم، ومن ثم فالاتفاق ملزم قانوناً من حيث أن الدول الموقعة عليه لا تستطيع أن تخرج عن المبادئ الهادية التي وردت في الاتفاق، بمعنى أن الدول لا تستطيع أن تبرم اتفاقيات أو بروتوكولات لاحقة لا تمت بصلة في تفصيلاتها أو تفسيراتها عن هذا الاتفاق. وما إيجابيات هذا الاتفاق بالنسبة لمصر؟ - أولاً: منذ أن شرعت إثيوبيا في بناء سد النهضة الكبير منذ 3 سنوات لم تفلح مصر في التوصل مع إثيوبيا والسودان أيضاً وهى الدول التي تمثل حوض النيل الشرقي في توقيع أية وثيقة قانونية إلزامية تجمع هذه الدول، وذلك بالنظر الى الظروف الداخلية لمصر والاقليمية والدولية التي لا تزال تحيط بمصر، ولهذا فإن من أهم النجاحات التي حققتها مصر هو إبرام اتفاقية الخرطوم، ولم يشر اليه أحد بأن اثيوبيا ولأول مرة تقوم بالموافقة والتوقيع على اتفاقية دولية تتضمن التزامات محددة، أصرت أثيوبيا في الماضي على رفضها. مثل ماذا تحديداً؟ - مثل البنود التي تتحدث عن تعويض الضرر في ذات الشأن، وأيضاً عوامل تحديد الانتفاع بمياه نهر النيل في غير اغراض الملاحة، وهذان البندان نجحت مصر في نقلهما حرفياً في اتفاقية الأممالمتحدة لاستعمال مياه المجاري الدولية في غير الملاحة وهذه الاتفاقية الدولية كانت في عام 1977.. وهذه الاتفاقية التي كانت تصر اثيوبيا ولاتزال في هذا الموقف على رفضها لولا نص هذه الاتفاقية. ولكن يعترض البعض على العبارة التي وردت في الاتفاق وتحديداً ما نص علي احترام والتزام؟ - من أثار هذه الانتقادات هم من غير القانونيين المتخصصين حيث يدعون أنه في كافة العقود أو الدساتير أو التشريعات أو المعاهدات الدولية هناك النصوص الحاكمية، وتعني «حاكمية النص» وتعني أن هناك نصاً من الوثيقة يحكم ويسود، ويهيمن على ما دونه من نصوص في حالة اختلاف النصوص التالية لهذا النص الحاكم المانع، وبالتصديق على اتفاقية الخرطوم، ففي ديباجة الاتفاقية عبارة: «تلزم الدول الأطراف أنفسها بالتعهد» ومن ثم فأي لفظ لاحق في متن الوثيقة ذاتها يتعارض في مدلوله القانوني وليس اللغوي مع لفظ «تلزم» فإن التفسير والتأويل مردهما كلمة «تلزم» من ثم فلا يجوز الدفع بأن كلمة «تحترم» أو تراعى أو تهتم هى الكلمات الحاكمة في هذا الصدد فالعبرة ليست بالألفاظ والمباني ولكن العبرة بالمقاصد والمعاني ولذا فإن ما سبق كان يجب أن يبقى على ما كان. وهل هذه الاتفاقية تلغي الالتزامات السابقة المبرمة في الحقبة الاستعمارية أو حقبة ما بعد الاستعمار والتي تؤكد الحقوق التاريخية المكتسبة لمصر؟ - وفقاً للقانون الدولي لا يجوز للاتفاقيات أو المعاهدات اللاحقة مثل اتفاقية الخرطوم 23 مارس 2015 تنسخ ما سبقها من اتفاقيات تنظم ذات الموضوع أو الهدف من توسيع الاتفاقية الا في حالة واحدة الا إذا اندثرت وتوقفت الأعراف الدولية، فالمعروف عرفاً كالمشروط شرطاً، وأن ما سبق أن كان يجب أن يبقى على ماكان.. أي عادات وممارسات الدول التي تأسست عليها الاتفاقيات والمعاهدات السابقة، ليس فقط أعراف ومعاهدات وممارسات دول حوض النيل، ولكن الأعراف الدولية في سائر الأحواض والأنهار الدولية. إذن، إثيوبيا لن تستطيع رفض الأعراف الدولية المطبقة في الأنهار الدولية؟ - نعم.. لأنه لا يمكن لإثيوبيا أن تستثني نفسها من الخضوع الى قاعدة عرفية إذا قامت بالتعبير صراحة عن رفضها نشأة تلك القاعدة العصرية وذلك بعد نشوء القاعدة العرفية، وبشرط اعلان الدول الأخرى بذلك الرفض، وبالرغم من الاعتراض المطرد لاثيوبيا للحقوق التاريخية المكتسبة لمصر وحصصها المائية المقدرة بخمسة وخمسين مليار متر مكعب وذلك منذ عام 1959 بعد توقيع اتفاقية الخرطوم بين مصر والسودان من أجل بناء السد العالي، فإن الاعتراض الاثيوبي المتواتر منذ عام 1959 لحقوق مصر وحصصها المائية المقدرة وفقاً للاتفاقية المشار اليها، فإن هذا الاعتراض أتى متأخراً بعد نشوء القواعد العرفية في مجال استعمال والانتفاع بمياه الأنهار الدولية ليس في مياه نهر النيل فقط، ولكن في سائر الأنهار الدولية. لكن إثيوبيا سبق وأعلنت أنها رفضت هذا الكلام؟ - رفضته بعد 1959 حيث أبلغت الأممالمتحدة ومنظمة الوحدة الافريقية وجميع دول حوض النيل بأنها ترفض هذا الأمر، ولكنها رفضت بعد عام 1959 وفيه أعراف من قبل مؤتمر «برلين» 1815 وهى لو كانت تريد الاعتراض كانت اعترضت منذ اتفاقية 1929 ولكنها لم تعترض وكانت توجد اتفاقية بين أوغندا ومصر عام 1953 ولم تعترض واذا كانت تريد الاعتراض وكان يوجد امبراطور إثيوبي كان عليها الاعتراض فور انشاء الاعراف، ولكن هذا لم يثبت.. إذن الاعتراض الاثيوبي المتواتر لن ينال من القواعد والمبادئ العرفية التي تأسست عليها الاتفاقيات والمعاهدات الدولية بشأن استعمال وانتفاع مياه نهر النيل، بل إن ذلك الاعتراض «الاستثناء يقوي ويعضد هذه الأعراف ولن يضعفها أو يقتنص من قيمتها القانونية». لكن البعض يعيب علي الاتفاقية لأنها لم تنص على الوسائل القضائية لتسوية النزاعات إذا حدث أي نزاع بين الدول الثلاث؟ - بالرغم من أن الوسيلتين القضائيتين لتسوية النزاعات بين الدول تتميزان عن باقي الوسائل الدبلوماسية التي تم تضمينها في الاتفاقية بيد أن غنياً عن البيان وبالرغم من ذلك فمن غير المنطقي اللجوء الى التحكيم أو القضاء حيث يستغرق مجرد الاتفاق على مشارطة التحكيم أو اللجوء الى القضاء أشهراً عديدة، وذلك قبل اضطلاع هيئة التحكيم الدولية أو محكمة العدل الدولية بالفصل في ذلك النزاع، ومن ثم فإن الوسائل الدبلوماسية غير القضائية التي تم تضمينها في وثيقة الخرطوم هى الأفضل والأنجز بالنسبة لمصر تحديداً. لكن البعض يتخوف من أن يكون التعاون على أساس «حسن النوايا» كما ذكر الاتفاق؟ - عبارة «حسن النية» ليست عبارة أخلاقية أو أدبية بل ترتبط بمبادئ القانون الدولي، الذي يلزم الدول الأعضاء في الأممالمتحدة بأن تنفذ تعهداتها الدولية «بحسن نية» كما تنص المادة الثانية من ميثاق الأممالمتحدة «تعمل الهيئة وأعضاؤها في سعيها وراء المقاصد المذكورة في المادة الأولى وفقاً للمبادئ لكي يكفل أعضاء الهيئة لأنفسهم جميعاً الحقوق والمزايا المترتبة على صفة العضوية ويقومون «بحسن نية» بالالتزامات التي أخذوها على أنفسهم بهذا الميثاق». ووفقاً لمبادئ القانون الدولي العام تختلف الأعراف والمبادئ والقواعد الدولية في القانون الدولي عن قواعد وأعراف المجاملات الدولية أو الاخلاق الدولية، وبتطبيق هذا المبدأ على حالة سد النهضة، فان الالتزامات الواردة في اتفاق الخرطوم يكون التزاماً لاثيوبيا بتبادل المعلومات والبيانات حول السد وانشائه وآثاره علي مصر والسودان، ويكون تنفيذ هذا بمقتضى «حسن النية»، فلا يكفي تنفيذ الالتزام بل تنفيذه «بحسن نية» أي بالشكل والطريقة اللذين لا يضران بالدول الأخري الأطراف في هذه الاتفاقية. وما الفرق بين قواعد القانون الدولي وبين قواعد المجاملات الدولية؟ - الفارق بين قواعد القانون الدولي وبين قواعد المجاملات الدولية أن الأخيرة غير ملزمة للدول، مع أن الدول تحبذ ممارسة المجاملات الدولية ولكنها إن لم تمارسها فلا يستدعي ذلك أي مسئولية دولية بحق الدول التي امتنعت عن ممارسة قواعد المجاملات الدولية، والدولة التي تتخلف عن تقديم واجب التعزية أو التهنئة أو التضامن الأخلاقي الإنساني لدول أخري تحل بها الكوارث أو المصائب لا تكون هذه الدولة التي «استنكفت» عن هذه الممارسات محلاً للمسئولية أو المساءلة الدولية.. أما بالنسبة لتعاون الدول أيضاً علي أساس مبدأ القانون الدولي وهي العبارة القانونية التي تضمنها المبدأ الأول فتعد إحدي أهم الضمانات القانونية الدولية الحاكمة، والتي تعد حجة قانونية لمصر تجاه أي طرف في اتفاقية الخرطوم، وهنا ليس المقصود مبادئ القانون الدولي بشكل عام، ولكنه أيضاً مبادئ القانون الدولي المتعلقة بالانتفاع بالمجاري الدولية في غير أغراض الملاحة النهرية التي قننتها اتفاقية الأممالمتحدة بشأن استخدام المجاري المائية في أغراض الملاحة عام 1997. وما الضمانات التي حصلت عليها مصر في هذه الاتفاقية.. خاصة أن البعض قال إنها اتفاقية حول سد النهضة ولم تكن حول حصص الدول في المياه؟ - لا.. فهذه الاتفاقية تلتزم بمبادئ القانون الدولي التي جاءت بها مصر من اتفاقية الأممالمتحدة والتي صدرت عام 1997، ومن ضمن هذه المبادئ جميع الحقوق التي تتمسك به مصر تجاه جميع دول حوض النيل، سواء الحقوق التاريخية المكتسبة، أو عدم التعسف في استخدام الحق، وعدم الإضرار والإخطار المسبقة، والتسوية السلمية للنزاعات، ومراعاة دول المصب عند تحديد الانتفاع والاستعمال لمياه النهر الدولي. وما دور المكتب الاستشاري في سد النهضة.. وهل تقريره سيكون ملزماً للدول أم استشارياً فقط؟ - الاتفاقية ذاتها تنص علي أن المكتب الاستشاري يقوم بأكبر وأهم دور في كل ما يتعلق بإنشاء سد النهضة، حيث إنه بالرغم من أن هذا مكتب استشاري، ولكن ليس المقصود أن تكون تقاريره للدول الثلاث تقارير استشارية، بل إن الوثيقة تلزم تحديداً إثيوبيا باعتبارها دولة السد، ومصر والسودان بالالتزام بالتقرير الذي سينتهي إليه المكتب بخصوص مسائل فنية مهمة مرتبطة بإنشاء وتشغيل السد، ومعامل أمانه، والملء لأول مرة، وهي المسائل المهمة التي ستقوم الدول وفقاً لاتفاقية الخرطوم بإبرام الاتفاقيات أو البروتوكولات اللاحقة، والمشار إليها في وثيقة إعلان المبادئ بشأن سد النهضة. وما الذي فعله الرئيس السيسي حتي يتم تحريك المياه الراكدة بين مصر وإثيوبيا؟ - الذي حرك المياه الراكدة وحدوث هذا التطور في المواقف بعد توقف أكثر من عام هو الزيارة التي قام بها الرئيس «السيسي» إلي غينيا الاستوائية لحضور القمة الأفريقية، واجتماعه مع رئيس وزراء إثيوبيا، وإصدار الإعلان المشترك، ولأول مرة بخصوص سد النهضة ونهر النيل، وهذا الإعلان كان تطوراً مهماً وكبيراً في العلاقات المصرية - الإثيوبية، بعد أن توقفت المفاوضات مع إثيوبيا والسودان حول السد استمر أكثر من عام، فلولا اجتماع الرئيس مع رئيس الوزراء الإثيوبي، وإصراره أن تقوم إثيوبيا بتعهد كتابي يقضي في النهاية إلي الحفاظ علي حقوق مصر، لما تم توقيع اتفاقية الخرطوم المشار إليها بهذا الشكل. وماذا عن أثر زيارة الرئيس إلي إثيوبيا علي سير المفاوضات؟ - جاءت زيارة الرئيس إلي إثيوبيا أهم من الوثيقة، لأنها دعمت وعضدت ما توصلت إليه الدول الثلاث في اتفاقية الخرطوم، كما دعمت العلاقات الثنائية مع إثيوبيا بعد أن شابها توتر كبير في الآونة الأخيرة، كما لعبت وسائل الإعلام في الدولتين دوراً كبيراً أثر علي سير المفاوضات بين الدول الثلاث، ومن ثم زيارة الرئيس إلي إثيوبيا وإلقاؤه خطاب أمام برلمان شعوب إثيوبيا، ولأول مرة من المؤكد أن ذلك سيترك انطباعاً إيجابياً مهماً يؤطر ويبني أواصر التعاون والثقة المتبادلة بين الأطراف الثلاثة للاتفاقية «مصر والسودان وإثيوبيا». هل نستطيع القول: إن مصر عادت إلي مكانتها الأفريقية؟ - بالطبع.. فزيارة الرئيس «عبدالفتاح السيسي» ثم تسليط الضوء عليها من كافة وسائل الإعلام العالمية، وفتحت أبواباً كثيرة لمصر داخل القارة السمراء، خاصة داخل دول حوض النيل، وأعادت لمصر دورها الرائد والمهم في بناء جسور التعاون بين الدول الأفريقية.