بعد تراجع 80 جنيها.. ننشر أسعار الذهب في بداية تعاملات الجمعة    طرق إثبات الدخل لإصدار فيزا المشتريات من بنك مصر    بيل جيتس يخطط للتبرع بكل ثروته البالغة نحو 200 مليار دولار    تعرف على خطوات استخراج «كعب العمل» في 7 خطوات    الاحتلال الإسرائيلي يقتحم عدة قرى جنوب نابلس بالضفة    إضاءة مبنى «إمباير ستيت» بالذهبي والأبيض احتفاء بأول بابا أمريكي للفاتيكان    أوكرانيا تصادق على اتفاقية "المعادن النادرة" مع أمريكا    مدرب إسباني يدخل ترشيحات خلافة كولر في الأهلي    موعد مباراة بيراميدز والبنك الأهلي والقنوات الناقلة في الدوري المصري    موعد مباراة مصر وتنزانيا في أمم إفريقيا للشباب    اليوم، الصحة تطلق 7 قوافل طبية ضمن مبادرة "حياة كريمة"    مروان موسى عن ألبومه: مستوحى من حزني بعد فقدان والدتي والحرب في غزة    الرعاية الصحية تقرر فتح باب التقدم للقيد بسجل الموردين والمقاولين والاستشاريين    طريقة عمل العجة المقلية، أكلة شعبية لذيذة وسريعة التحضير    «دمياط للصحة النفسية» تطلق مرحلة تطوير استثنائية    افتتاح وحدة عناية مركزة متطورة بمستشفى دمياط العام    ستحدث أزمة لتعدد النجوم.. دويدار يفاجئ لاعبي الأهلي بهذا التصريح    التنمر والتحرش والازدراء لغة العصر الحديث    لقاء خارج عن المألوف بين ترامب ووزير إسرائيلي متجاوزا نتنياهو    زعيم كوريا الشمالية يشرف على تجارب لأنظمة صواريخ باليستية قصيرة المدى    ارتفاع صادرات الصين بنسبة 8% في أبريل    «أوقاف شمال سيناء»: عقد مجالس الفقه والإفتاء في عدد من المساجد الكبرى غدًا    تكريم حنان مطاوع في «دورة الأساتذة» بمهرجان المسرح العالمي    حبس المتهمين بسرقة كابلات كهربائية بالطريق العام بمنشأة ناصر    أسرة «بوابة أخبار اليوم» تقدم العزاء في وفاة زوج الزميلة شيرين الكردي    في ظهور رومانسي على الهواء.. أحمد داش يُقبّل دبلة خطيبته    جدول مواعيد مباريات اليوم الجمعة والقنوات الناقلة    تبدأ 18 مايو.. جدول امتحانات الترم الثاني 2025 للصف الرابع الابتدائي بالدقهلية    في أجواء من الفرح والسعادة.. مستقبل وطن يحتفي بالأيتام في نجع حمادي    النيابة تعاين حريق شب داخل مقر الشركة القابضة للأدوية بالأزبكية    حملات تفتيش مكثفة لضبط جودة اللحوم والأغذية بكفر البطيخ    تسلا تضيف موديل «Y» بنظام دفع خلفي بسعر يبدأ من 46.630 دولارًا    طريقة عمل الآيس كوفي، الاحترافي وبأقل التكاليف    موعد نهائى الدورى الأوروبى بين مانشستر يونايتد وتوتنهام    رئيس الطائفة الإنجيلية مهنئا بابا الفاتيكان: نشكر الله على استمرار الكنيسة في أداء دورها العظيم    الجثمان مفقود.. غرق شاب في ترعة بالإسكندرية    في المقابر وصوروها.. ضبط 3 طلاب بالإعدادية هتكوا عرض زميلتهم بالقليوبية    جامعة المنصورة تمنح النائب العام الدكتوراه الفخرية لإسهاماته في دعم العدالة.. صور    أيمن عطاالله: الرسوم القضائية عبء على العدالة وتهدد الاستثمار    دراسة: 58% يثقون في المعلومات عبر مواقع التواصل الاجتماعي    «إسكان النواب»: المستأجر سيتعرض لزيادة كبيرة في الإيجار حال اللجوء للمحاكم    المخرج رؤوف السيد: مضيت فيلم نجوم الساحل قبل نزول فيلم الحريفة لدور العرض    غزو القاهرة بالشعر.. الوثائقية تعرض رحلة أحمد عبد المعطي حجازي من الريف إلى العاصمة    تفاصيل لقاء الفنان العالمي مينا مسعود ورئيس مدينة الإنتاج الإعلامي    «ملحقش يتفرج عليه».. ريهام عبدالغفور تكشف عن آخر أعمال والدها الراحل    مستأجرو "الإيجار القديم": دفعنا "خلو" عند شراء الوحدات وبعضنا تحمل تكلفة البناء    سالم: تأجيل قرار لجنة الاستئناف بالفصل في أزمة القمة غير مُبرر    الأهلي يتفق مع جوميز مقابل 150 ألف دولار.. صحيفة سعودية تكشف    خبر في الجول - أحمد سمير ينهي ارتباطه مع الأولمبي.. وموقفه من مباراة الزمالك وسيراميكا    زيلينسكي: هدنة ال30 يومًا ستكون مؤشرًا حقيقيًا على التحرك نحو السلام    وسائل إعلام إسرائيلية: ترامب يقترب من إعلان "صفقة شاملة" لإنهاء الحرب في غزة    حكم إخفاء الذهب عن الزوج والكذب؟ أمين الفتوى يوضح    مصطفى خليل: الشراكة المصرية الروسية تتجاوز الاقتصاد وتعزز المواقف السياسية المشتركة    عيسى إسكندر يمثل مصر في مؤتمر عالمي بروما لتعزيز التقارب بين الثقافات    محافظة الجيزة: غلق جزئى بكوبري 26 يوليو    ب3 مواقف من القرآن.. خالد الجندي يكشف كيف يتحول البلاء إلى نعمة عظيمة تدخل الجنة    علي جمعة: السيرة النبوية تطبيق عملي معصوم للقرآن    "10 دقائق من الصمت الواعي".. نصائح عمرو الورداني لاستعادة الاتزان الروحي والتخلص من العصبية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة قانونية لاتفاقية إعلان المبادئ
حول سد النهضة الأثيوبى
نشر في الأهرام اليومي يوم 02 - 04 - 2015

ما إن وقعت مصر والسودان وإثيوبيا «اتفاقية اعلان المبادئ حول سد النهضة الأثيوبي»، إلا و ثارت بعض الانتقادات للاتفاقية ، والتي تعكس حسا وطنيا جارفا، وقلقا غير جديد، منذ إبرام الاتفاقية الإطارية للتعاون « عنتيبي» في مايو 2010، والتي رفضتها مصر والسودان .
تعد اتفاقية اعلان المبادئ حول سد النهضة الاثيوبي التي وقعتها مصر والسودان وإثيوبيا في الخرطوم في 23 مارس 2015، بمثابة إطار عام للتعاون والتنمية ، بين الدول الثلاث الموقعة علي هذه الاتفاقية، و هذا ما عبرت عنه المادتان الأولي والثانية من الاتفاقية المشار اليها ، فضلا عن العديد من المسائل الفنية الأخري التي سيعاد تفصيلها وتفسيرها في اتفاقات لاحقة، كما تنبئ بذلك « طبيعة» و «ماهية» الاتقاقية ذاتها ، فضلا عن الافصاح عن ذلك في متن الاتفاقية ذاتها .
جلي أن الاتفاقيات الإطارية بموجب أحكام القانون الدولى تمثل العتبة الأولي threshold أو المرجع الاساس، الذي يهتدي بنصوصه وأحكامه ، ذات الدول التي ستبرم لاحقا الاتقاقيات أو البروتوكلات الفنية وغير الفنية، و يمكننا تسهيلا علي القارئ الكريم ، أن نجتهد ونقارن المركز القانوني للاتفاقية الأطارية بالنسبة للأتفاقيات المبرمة لاحقا لذات الغرضين الرئيسيين المشار اليهما سالفا، كموقع وحكم القاعدة الدستورية بالنسبة للقاعدة التشريعية ، فالمبادئ العامة الواردة في اتفاقية " الخرطوم 23 مارس 2015 " تعد بمثابة الهدي والتبيان والمسار، لذا فليس من المتصور أن يحيف النص اللاحق بالنص السابق، كما يستحيل أن تنسخ المعاهدات والاتفاقيات المكتوية، الأعراف الدولية الراسخة، الا في حالة حصرية واحدة، نوضحها لاحقا .
من نافلة القول أن نذكر أن المسائل الفنية تحديدا ، لا تزال تمثل الشواغل والقلق لدى الحكومة المصرية ً «دولة المصب» لنهر النيل ، التي أولاها العرف الدولي في مجال الانتفاع والاستعمال للأنهار الدولية، عناية خاصة، ووضعا قانونيا معينا. ومن بين هذه الشواغل عملية الملء الأول للسد، والتخزين السنوى لمياه الفيضان.
وبالرغم من العنوان المتقدم لهذه الدراسة، الا أن المقام يستدعي أن نذكر بحق ونشير بكل صدق إلى أن هذه الاتفاقية تفتح آفاقاً جديدة، وتدشن لحقبة فريدة للعلاقات الثنائية بين مصر وإثيوبيا، وإذا كانت روح التعاون وحسن النية، والمكاسب للجميع، وعدم الإضرار بالغير مبادئ أكدتها الاتفاقية تأسيسا لهذه الحقبة التاريخية المهمة لشعبى البلدين، فإن الرئيس عبدالفتاح السيسى أكد فى الخرطوم وفى أديس أبابا كل هذه المبادئ المشار إليها، فضلاً عن أن أحاديث الرئيس بعد توقيع الاتفاقية فى الخرطوم وحديثه أمام برلمان إثيوبيا أكدت جميعاً التاريخ المشترك ووحدة المصير والآمال والطموحات فى الازدهار والتنمية لشعوب حوض النيل الشرقى الثلاثة «مصر وإثيوبيا والسودان».
مدي إلزامية " اتفاقية سد النهضة "
في اليومين الأخيرين قبل توقيع الاتفاقية، ثارت في مصر بعض الانتقادات لنصوص الاتفاقية، بزعم أن صياغتها لم ترق الي الالزام المانع الجامع، وأن لغة الخطاب الموجهة الي أثيوبيا تحديدا، لا تحوز القوة القانونية المبتغاة وفقا للمصالح القومية المصرية، ووصل الانتقاد بالبعض، الي اتهام المسئولين المصريين، بالتنازل عن حقوق وحصص مصر المائية في نهر النيل، لتجاهل الاتفاقية هذه المسائل الأخيرة، وأضحت كلمة "احترام " التي وردت في المادة الخامسة، المعول الرئيسي لهدم أي بناء قانوني كشفت عنه الاتفاقية، وأصبح القانون الدولي في هذه اللحظة التاريخية وفقا للباحث ساحة للافتاء، ومنصة للاتهام والادعاء
يدرك القانونيون في مختلف المدارس الفقهية مبدأ قانونيا راسخا ينظم جميع العلاقات التعاهدية بين أطراف هذه العلاقة، بل والدساتير والنصوص التشريعية أيضا، و هي إنه حين يثور نزاع قانونى حول تفسير المعاهدات والاتفاقيات الدولية، فان العبرة ليست بالألفاظ وشكلها ونظمها ، ولكن العبرة بمقاصد الدول الأطراف للاتفاقية أثناء التفاوض، وذلك إعمالاً للقاعدة الفقهية الراسخة " ليست العبرة بالألفاظ والمبانى، ولكن العبرة بالمقاصد والمعانى"
غني عن البيان أيضا، وفي ذات السياق أن هناك في كافة النصوص الدستورية والتشريعية والدولية - كما في الوثيقة محل البحث - النصوص التي تعرف بالنصوص الحاكمية ، وهي النصوص التي تفترض في أعمالها تفاوت المستوي التشريعي، ولكنها تعمل في نفس المستوي التشريعي الواحد، اذن تدخل ضمن التوظيف القاعدي للعلاقة بين نصوص الوثيقة القانونية الواحدة، وذات القوة والمستوي الواحد، والتي صدرت بالطبع عن مصدر واحد، وهو الدول ذات السيادة التي أبرمت اتفاقية اعلان المبادئ حول سد النهضة، وحين تثور مسألة الحاكمية، أي ما هو النص الحاكم الذي يسود ويهيمن، علي ما عاداه من نصوص تخالفه، وفقا لتأويلات الدول المتعارضة المصالح، حين التنازع بينها، حول تأويل، وكنه هذا النص المخالف للنص الحاكمي، في هذه الحالة يفسر ويؤول أي نص أخر في الوثيقة بما لا يخالف هذا النص الحاكم، بل إن التعارض الصريح معه يرجح حكمه، وينسخ أي يلغي أي نص آخر بما لا يخالف هذا النص الحاكم، وهنا لا يجوز تفسير عبارة «احترام» الواردة في متن الاتفاقية، بما يخالف تفسير عبارة : "ألزمت الدول الثلاث أنفسها بالمبادئ التالية":
حسن النية في تنفيذ المعاهدات الدولية :
ان عبارة «حسن النية»، والتي وردت في نص المادة الأولي من الاتفاقية، ليست عبارة أخلاقية أو أدبية، بل إنها ترتبط بأحد مبادئ القانون الدولى والذى يلزم الدول أعضاء منظمة الأمم المتحدة بأن تنفذ تعهداتها والتزاماتها الدولية «بحسن النية» حيث تنص المادة الثانية من ميثاق منظمة الأمم المتحدة على «تعمل الهيئة وأعضاؤها فى سعيها وراء المقاصد المذكورة فى المادة الأولى وفقاً للمبادئ لكى يكفل اعضاء الهيئة لانفسهم جميعاً الحقوق والمزايا المترتبة على صفة العضوية يقومون فى» حسن نية «بالالتزامات التى أخذوها على أنفسهم بهذا الميثاق». فوفقاً لمبادىء القانون الدولى العام تختلف الأعراف والمبادى والقواعد الدولية فى القانون الدولى عن قواعد وأعراف المجاملات الدولية أو الأخلاق الدولية، وبتطبيق هذا المبدأ على حالة سد النهضة، فإن الالتزامات الواردة فى اتفاق الخرطوم المبرم فى 23 مارس 2015، تلتزم إثيوبيا بتبادل المعلومات والبيانات حول السد وإنشائه وآثاره مع مصر والسودان،و يكون تنفيذ هذا بمقتضى «حسن النية»، فلا يكفى تنفيذ الالتزام بل تنفيذه بحسن نية، أى بالشكل والطريقة اللتين لا تضران بالدول الأخرى الأطراف فى هذه الاتفاقية.
ان الفارق بين قواعد القانون الدولى، وقواعد المجاملات الدولية ، أن الأخيرة غير ملزمة للدول، صحيح أن الدول تحبذ ممارستها ولكنها إن لم تمارسها فلا يستدعى ذلك أى مسئولية دولية بحق هذه الدول التى امتنعت عن ممارسة قواعد المجاملات الدولية، فالدولة التى تتخلف عن تقديم واجب التعزية أو التهنئة أو التضامن الأخلاقى الإنسانى «لدول أخرى تحل بها الكوارث أو النوائب أو المصائب "، لا تكون هذه الدولة التى «استنكفت» عن هذه الممارسات محلاً للمسئولية الدولية. أما بالنسبة لتعاون الدول أيضاً على أساس مبادئ القانون الدولى وهى العبارة القانونية التى تضمنها المبدأ الأول فتعد أحد أهم الضمانات القانونية الدولية الحاكمة، والتى تعد حجة قانونية لمصر تجاه أى طرف فى اتفاقية الخرطوم، وهنا ليس المقصود مبادئ القانون الدولى العام بشكل عام ولكن أيضاً مبادئ القانون الدولى المتعلقة بالانتفاع بالمجارى الدولية فى غير أغراض الملاحة النهرية والتى قننتها اتفاقية الأمم المتحدة بشأن استخدام المجارى المائية فى أغراض الملاحة عام 1997.
دور العرف الدولي في تفسير اتفاقية الخرطوم 23 مارس 2015
يعد العرف الدولي الي جانب المعاهدات الدولية، المصدر الأصلي للقانون الدولي، بيد أن العرف الدولي مقارنة بالمعاهادت الدولية يعتبر أقدم مصادر القانون الدولي، بل وأرجح هذه المصادر في حالات كثيرة، وتأكيدا لذلك فان الأحكام القضائية التي تصدر عن محكمة العدل الدولية الجهاز القضائي الرئيسي لمنظمة الأمم المتحدة، لا تلزم الا الدول أطراف النزاع ، الا أن ذات الأحكام تلزم سائر الدول اعضاء منظمة الأمم المتحدة اذا كانت هذه الأحكام قد تأسست علي العرف الدولي، وهناك طائفة من اتفاقيات القانون الدولي الانساني التي يمتد أثرها الي الدول غير الأطراف في هذه الاتفاقيات - استثناء من الأثر النسبي للمعاهدات الدولية - اذا كانت أيضا هذه الأتفاقيات ارتكزت علي العرف الدولي.
فالعرف الدولي يشكل حجر الاساس لنشأة القانون الدولي، ويتفق العرف الدولي مع المعاهدات الدولية، في أنه ينشأ عن ارادة الدول، والمتمثلة في السلوكيات التي تصدر عنها طوعا، وينظر البعض الي أن العرف الدولي يفوق المعاهدات من حيث الأهمية، حيث أن المعاهدات لا تأتي بقواعد قانونية جديدة، وانما دونت قواعد قانونية موجودة ومستقرة في الأصل .
وأن جزءا كبيرا من قواعد القانون الدولي وجدت أساسها الالزامي في العرف الدولي، مثل القواعد التي تحدد استعمال و الانتفاع بمياه الانهار الدولية في غير أغراض الملاحة الدولية ،والحقوق التاريخية المكتسبة، وعدم الاضرار والحيطة، وعدم التعسف في استخدام الحق ، والاخطار المسبق ، و كل هذه القواعد متضمنة في ثنايا المادة الأولي من الاتفاقية التي تذكر مبادئ القانون الدولي صراحة، لذا لا يمكن المحاجاة باي تأويل مخالف للأعراف العالمية المستقرة في شأن الانتفاع و الاستعمال للأنهار الدولية المشار اليه .
وفق ما سبق، فان تكرار ابرام أنواع معينة من الاتفاقيات بين مجموعة دول حوض النيل ومنذ نهاية القرن التاسع عشر، وحتي ابرام اتفاقية الخرطوم الاطارية في 23 مارس 2015، يشكل دليلا علي تعارف الدول علي الالتزام بمجموعة معينة من القواعد القانونية، فتكون بالتالي مصدرا لنشوء قواعد قانونية عرفية، بعبارة أخري، تعتبر الاتفاقيات الخاصة بتنظيم مسألة معينة - الانتفاع بنهر النيل في غير أغراض الملاحة – بمثابة جزء من السلوكيات التي تقوم بها الدول والتي تساهم في انشاء العرف الدولي.
يقينا، فان قيام دولة واحدة - أثيوبيا فرضا - ، أو حتي مجموعة دول، مثل الدول الموقعة علي الاتفاقية الإطارية (اتفاق عنتيبي) لدول حوض النيل، بابرام اتفاقيات تعاهدية خلافا لما تقضي به قاعدة عرفية معينة لا ينهض دليلا علي نشوء قاعدة عرفية جديدة مخالفة للقاعدة العالمية ، فعلي النقيض من ذلك فان مخالفة الدولة أو مجموعة الدول للأعراف العالمية السائدة لدي الدول المشاطئة لأنهار دولية أخري ، يدعم القاعدة العرفية الراسخة، ولا يبطلها أو ينسخها, أو يشكك في جدارتها والزاميتها.
ان الفقه المتقدم المعني بتفسير مفهوم العرف الدولي، عكسته أحكام محكمة العدل الدولية في العديد من الأحكام القضائية ، والتي نذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر, الحكم القضائي للمحكمة الموقرة في 27 يونيو 1986عام ، في قضية الأنشطة العسكرية وشبه العسكرية، نيكاراجوا ضد الولايات المتحدة الأمريكية . وبالنسبة للرفض الأثيوبي المطرد للقواعد العرفية الراسخة والمتعلقة بالانتفاع والاستعمال لنهر النيل، وخاصة اللصيقة بالحقوق المصرية التي ما فتئت مصر تتشبث بأهدابها، واعلنها رئيسها وممثلها الأول بلغة القانون الدولي، في كل المحافل الوطنية والدولية، فينبغي التنويه أنه اذا كان يمكن لدولة أن تستثني نفسها من الخضوع لقاعدة عرفية اذا قامت بالتعبير صراحة و بشكل ثابت ومستمر عن رفضه نشأة تلك القاعدة العرفية، الا أن ذلك الرفض مرهون بأن يصدر ذلك الرفض أثناء نشوء القاعدة العرفية أي قبل استقرارها وبشرط اعلام الدول الأخري به، ففكرة «الاعتراض المضطرد» لن يكون لها ذلك الأثر اذا تعلق السلوك بانشاء قاعدة عرفية عامة قد تكتسب قوة القاعدة الآمرة. بعبارة أخري فإن الاعتراض اللاحق علي نشوء القاعدة العرفية، لا يكون له أى أثر بالنسبة الي الدولة التي أذعنت لتلك القاعدة و قبلت بانشائها، أو علي الأقل لم تبد اعتراضها علي قيامها، ولا يمكن للدولة أن تحتج باعتراضها اللاحق كأساس لاستثنائها من الخضوع لها، ولمحدودية العرض، فاننا نحيل الي الحقائق القانونية التاريخية، والتي تدحض المواقف الرسمية المغايرة لأثيوبيا، والتي تتمثل في صكوك دولية متواترة أبرمتها أثيوبيا منذ عام 1902 وحتي 23 مارس عام 2015، أهمها الاتفاقية الحدودية مع السودان عام 1972، والتي تتعهد أثيوبيا بموجبها بعد اقامة أية مشروعات علي النهر النيل الأزرق من شأنها احداث أي تغيير من اي وجه في تدفق النيل الأزرق الي أثيوبيا، والاتفاقية الأخيرة تتساوي في تراتيبيتها القانونية – ان وجدت - بمعاهدات السلام بين الدول .
ولحسم الأمر حسما مطلقا، فان القاعدة القانونية العرفية التي تتمتع بصفة القاعدة الأمرة ، مثل القواعد المنظمة للانتفاع بالأنهار الدولية في غير أغراض الملاحة، لا يمكن أن تكون محلا لأي تغيير ما لم تكن هناك ممارسة عالمية تدعم ذلك التغيير، والمقصود بالممارسة العالمية هنا، تغير الممارسات الدولية، لأكثرية الدول المشاطئة لأنهار دولية، في باقي دول العالم.
الاتفاقية المشار اليها ليست اتفاقية معنية بتوزيع الحصص المائية للدول الأطراف فى هذه الاتفاقية الإطارية، حيث عمدت الدولتان مصر والسودان وبمناسبة انشاء السد العالي في مصر الي ابرام اتفاقية الخرطوم عام 1959 لتنظيم الانتفاع المشترك بمياه نهر النيل الواصلة للدولتين من دول المنبع فى حوض النيل، وأقرت الاتفاقية بالحقوق التاريخية المكتسبة للدولتين دون اجحاف وفي ذات الوقت دون الاضرار بحقوق باقي دول حوض النيل، فالاتفاقية لا تمس بحال من الأحوال مصالح هذه الدول وحقوقها، ولا تخل باستخدام دول المنابع بالحصص التي تستخدمها تاريخيا .
جلي أن دول حوض النيل، عدا أثيوبيا لم تتحفظ - في حينه - علي أحكام اتفاقية 1959 هذه ، وهو ما يعني الاقرار الضمني بجميع أحكامها، ولا محاجاة أيضا بأن الدول الأستعمارية التي كانت نائبة عن هذه الدول المستعمرة جاملت مصر الدولة المستقلة علي حساب هذه الدول، والحق أن بريطانيا العظمي منذ عام 1929 وهو العام الذي شهد توقيع اتفاقية مياه النيل بين مصر وبريطانيا بالنيابة عن السودان وكينيا وتنجانيقا - تنزانيا - وأوغندا، لم تهمل العرف الدولي السائد منذ قرون خلت، والذي ينظر بعناية واجبة لدولة المصب، في كافة الأنهار الدولية ، حيث أنها الدولة الأضعف مقارنة بسائر دول الحوض، بالنظر لموقعها الجغرافي الصعب.
وبالرجوع للتحفظ الأثيوبي علي اتفاقية عام 1959، مثلها مثل سائر الاتفاقيات الأخرى التى أبرمت فى الحقبة الاستعمارية من نهاية القرن التاسع عشر وأيضاً فى القرن العشرين، فنشير الي أن الأساس القانوني لهذه الاتفاقيات هو العرف الدولى، أى الممارسات الدولية التى درجت الدول على اتباعها، فالمعروف «عرفاً» كالمشروط «شرطاً» و«الأصل بقاء ما كان على ما كان» و«القديم يترك على قدمه»، ولقد عكست الممارسات الايجابية لكافة دول الحوض هذه الاعراف ، ليقينها بالزاميتها ، و عكست أيضا ممارساتها الايجابية في صكوك قانوينة دولية مختلفة و متواترة ومن ثم تضحي الاتهامات الجزافية للسلطات المصرية بأنها قد تنازلت عن حصتها فى مياه نهر النيل المقدرة ب 55.5 مليار متر مكعب سنوياً ليس لها سند أو متكأ. صحيح أن إثيوبيا، ومعظم دول حوض النيل بعد استقلالها فى بداية الستينات من القرن الماضى، قد رفضت الإقرار بالاتفاقية الثنائية المصرية السودانية عام 1959، بيد أنها لم تترجم مرة واحدة هذا الرفض إلى واقع مادى ملموس.، فجميع دول حوض النيل بما فيها الدول الأطراف فى اتفاقية الخرطوم 23 مارس، تظل على التزامها باحترام العرف الدولى القائم بشأن استخدام مياه الأنهار الدولية بصفة عامة والأعراف الإقليمية المتعلقة بنهر النيل بصفة خاصة، بالإضافة إلى ما هو قائم ونافذ بالفعل من اتفاقات دولية ثنائية ، أو متعددة الأطراف فى هذا الخصوص.
الاتفاقيات المبرمة بعد الاستقلال مطابقة لاتفاقيات ما قبل الاستقلال
هناك الكثير من الاتفاقيات التى تم توقيعها أثناء الحقبة الاستعمارية، منها البرتوكول الموقع بين بريطانيا وإيطاليا 1891، والمعاهدات المعقودة بين بريطانيا وإثيوبيا، وبينها وبين إيطاليا وإثيوبيا بشأن الحدود بين السودان المصرى البريطانى وإثيوبيا وإريتريا والموقعة فى أديس أبابا 15 مايو 1902، والاتفاق المبرم بين حكومة بريطانيا وحكومة الكونغو والموقع فى لندن 9 مايو 1906، والمذكرات المتبادلة بين بريطانيا وإيطاليا فى ديسمبر 1925 واتفاقية مياه النيل بين مصر وبريطانيا بالنيابة عن السودان وكينيا وتنجانيقا - تنزانيا وأوغندا فى عام 1929، واتفاقية لندن بين بريطانيا «نيابة عن عن تنجانيقا - تنزانيا حالياً» وبلجيكا «نيابة عن رواند وبوروندى" فى 23 نوفمبر 1934 ثم المذكرات المتبادلة بين مصر وبريطانيا «نيابة عن أوغندا» فى الفترة ما بين يوليو 1952 ويناير 1953، ثم اتفاقية الانتفاع الكامل بمياه النيل لعام 1959 بين مصر والسودان، ثم ما وقع من اتفاقيات بعد نيل دول الحوض استقلالها ، مثل الخطابات المتبادلة بين مصر واوغندا فى مايو 1991، ثم اتفاق القاهرة للتعاون بين مصر وإثيوبيا 1993. وفيما يتعلق بالاتفاقيات المختلفة السابق الإشارة إليها والخاصة بتنظيم استغلال مياه النيل، لابد أن نعلم أن بعض هذه المعاهدات تناولت الوضع الإقليمى والجغرافى للدول المتعاقدة، أى إنها تمثل قيداً أو التزاماً على عاتق الدول وعلى إقليمها، ولا يؤدى انتقال السيادة على الإقليم من الدول الاستعمارية إلى الدول الأفريقية المستقلة «الخلف» إلى التحلل من هذه القيود والالتزامات. ، و هذا ما أكدته المادتان الحادية عشرة والثانية عشرة من اتفاقية فينا بشأن التوارث الدولى فى مجال المعاهدات.
وهناك العديد من الاتفاقيات المشار إليها نصت على عدم قيام دول المنبع بأى إنشاءات للرى تؤثر تأثيراً محسوساً على كمية المياه المتدفقة إلى مصر دولة المصب أو تعطيل سريان هذه المياه، كما أن هناك عدداً من الاتفاقات اعترفت بالحقوق المائية التاريخية والمكتسبة لمصر والسودان فى مياه النيل الأزرق والأبيض، والتعهد بعدم تعديل كمية المياه التى تحملها إلى نهر النيل بشكل ملموس. وهناك تحديداً اتفاقية 1929 المشار إليها سلفاً، والتى لم تجامل مصر على حساب دول حوض النيل الأخرى لكنها أقرت الأعراف أى الممارسات الدولية فى مجال الانتفاع بالأنهار الدولية. وقد حذرت الاتفاقية من إقامة أى مشروع من أى نوع على نهر النيل أو روافده أو البحيرات التى تغذيها كلها إلا بموافقة مصر، لا سيما إذا كانت هذه المشروعات ستؤثر على كمية المياه التى تحصل عليها مصر.
وهذا الاتفاق يعد علامة بارزة فى تاريخ نهر النيل حيث أظهر اعتراف الأطراف المعنية بمبدأ الحقوق المكتسبة كما حظى فيه مبدأ التوزيع المنصف والعادل أيضاً بالاعتراف، وختاما، فكما أن اتفاقية الخرطوم الموقعة في 23 مارس 2015 تعد خطوة ابتدائية مهمة، في مجال التعاون والتنمية بين الدول الأطراف للأتفاقيات اللاحقة، وعلي اساس من حسن النوايا والتفاهم المشترك والمنفعة المشتركة والمكاسب للجميع ومبادئ القانون الدولي، فان هذه الدراسة أيضا خطوة أولية نحو مزيد من التأصيل القانوني لكافة الحقوق والواجبات الدولية التي يفضي اليها بناء سد النهضة الأثيوبي .
لمزيد من مقالات د. أيمن سلامة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.