لا شك أن الاستحقاق الثالث لخارطة المستقبل، والمتعلق بالانتخابات البرلمانية، لم ينل حظاً كافياً من الحرص علي توفير مختلف متطلبات وقواعد العملية الديمقراطية، وفق ما تشير إليه التجارب الناجحة في هذا الشأن، استناداً إلي كون الانتخابات ما هي إلا «أداة» ديمقراطية، وليست «هدفاً» في حد ذاتها، بموجبها تخطو الدولة صوب تحول ديمقراطي حقيقي وجاد، الأمر الذي يلقي بالكرة في ملعب «الإرادة السياسية» لمختلف أطراف العملية السياسية، ووفق ما لهم من أوزان نسبية، تنتج توازنات الحياة السياسية علي الأرض. ففي خطوات مترددة، يظللها خطاب مضطرب، لم تجد التجربة المصرية سبيلاً إلي عملية انتخابية تتسق ومجمل المبادئ والأهداف التي نادت بها الثورة المصرية، علي عكس حرص الدستور علي تبني قيم ثورية، لم تجد لها نصيراً كافياً علي المشهد الانتخابي. في هذا السياق لا ينبغي إهدار الوزن النسبي لرموز نظام مبارك الفاسد، وقد بذلوا جهوداً شتى في سبيل إرباك المشهد، وفق ما توفر لديهم من مال سياسي، وأبواق إعلامية، نجحوا بالفعل من خلالها في إشاعة مناخ لا يدعم الثقة في كثير من أبناء الثورة، ولا يتيح قدراً أكبر من اليقين الثوري تتطلبه المرحلة. غير أن تجاوزاً للحقائق، ينال من تقييمنا للعملية الانتخابية، إذا ما حصرنا الخطايا والسلبيات في بقايا الأنظمة الفاسدة التي أسقطتها الثورة المصرية، بشقيها في يناير ويونيو علي التوالي، علي نحو لا يفيد في تصحيح واجب، يظل مشروعاً، تستقيم به الجهود الوطنية، وتصحح من ذاتها، مستفيدة من عثراتها؛ ذلك أن الأمر بلغ حداً وجد صداه في خلخلة الكثير من البني السياسية القائمة علي أسس ثورية، أو هي كذلك لطالما ادعت، وعلي أساسه راجت.! ولعل في حداثة التجربة المصرية، وتدني مستويات النضج السياسي لدى الكثير من مفردات وأطراف العملية السياسية، ما يدفع بنا إلي عدم القسوة في تناول ما شهدته الساحة السياسية من فعاليات استعداداً لخوض العملية الانتخابية، وهو ما تمثل في إفراز نتائج غير مرغوب فيها، وإن شاع أن «نوايا» وطنية هي ما دفعت إليها. فواقع الأمر أن اختزالاً فعلياً لعدد الأحزاب والحركات والقوى السياسية، ما كان لنا أن ننتظره ونحن في مستهل العملية الانتخابية، علي نحو يستبق ما هو مأمول من نتائج الانتخابات، باعتبارها المسار الحقيقي صوب بلورة الحياة السياسية في محاورها الأساسية المتعارف عليها في المجتمعات الديمقراطية. ومع ما لحزب الوفد من رؤى وطنية لم تجد تفسيراً منصفاً لدى البعض، فإن مشاركة الوفد في الانتخابات البرلمانية، لا تأتي إلا علي سبيل الانحياز للقيم الديمقراطية، وجذباً لها إلي أرض الواقع، فليست إلا نتائج الانتخابات البرلمانية، متى كانت «نزيهة وشفافة»، تعلن عن تفضيلات الشعب أمام ما هو متاح لديه من خيارات أيديولوجية، ينبغي أن تظل مفتوحة، لا تحدها إلا المسئولية الوطنية، فيما يشكل قواعد يمكن البناء عليها، مع بقاء الحق مشروعاً في إجراء تعديلات مستقبلية، وفق ما تسفر عنه التجربة البرلمانية برمتها؛ ذلك أن العملية الديمقراطية لا يمكن إلا أن تكون منفتحة وتراكمية، ويستحيل استيعابها علي نحو مغلق وسابق التجهيز.