"عاش الملك.. مات الملك" الأمر فى المملكة العربية السعودية ليس ببساطة هذا المثل، فلم يكن رحيل خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز مجرد رحيل ملك، ولم تكن خلافة شقيقه الملك له مجرد انتقال سلس للسلطة وفقًا للنظام الأساسى للحكم، ووفقًا لتقاليد وأعراف الدولة السعودية. يأتى الملك سلمان بن عبدالعزيز فى ظروف صعبة، وكأنها كانت تنتظره.. فمن ينظر اليوم إلى الخريطة السياسية للجزيرة العربية والشرق الأوسط، يجدها ملطخة بدماء تسيل، ومشتعلة بنيران الفتن والصراعات فى دول عديدة.. ولكى يكون الملك سلمان خير خلف لخير سلف، عليه مواجهة الظروف الصعبة التى تمر بها المنطقة، وتضعه أمام اختبارات هى أيضًا صعبة.. فاليمن الذى تعتبره السعودية عمقها الجنوبى وهو كذلك يشهد صراعات متتالية منذ سنوات انتقلت من مرحلة التفاوض إلى مرحلة التصادم والقتال، ودفعت الرئيس اليمنى وحكومته إلى الاستقالة بعد سيطرة جماعة "أنصار الله" الحوثية على مقاليد الأمور، ومحاصرة الرئيس وحكومته واحتجازه، ومنعه من مباشرة أعماله. وتلك الفوضى التى تعم اليمن الذى بات بلا رئيس أو حكومة، تُدرك السعودية وملكها الجديد أن يد إيران هى التى تحركها، وباتت الفرصة مُهيئة لاستنساخ "حزب الله" اللبنانى الشيعى فى اليمن، على يد جماعة "أنصار الله" على الحدود السعودية. وهذا تحدى كبير أمام الملك الذى عليه أنْ يُثبت قدرة على التعامل بقوة وأيضًا بحكمة لمجابهة المد الشيعى الذى تسرب حتى داخل حدود المملكة، التى تجرأ الشيعة فيها، وأظهروا تحديًا للنظام، ومارسوا أعمالًا إرهابية، باتت تهدد أمن المملكة فى العُمق. والأزرُع الاخطبوطية الايرانية مازالت تعبث فى مملكة البحرين فى الشرق، ولم يوقفها تدخل القوات السعودية فى مارس 2011، لوأد الاضطرابات الشيعية هناك.. ولم تتحق معادلة تقاسم السلطة فى العراق على الحدود الشمالية للملكة، ومازالت المواجهات الدموية مستمرة فى بلاد الرافدين برعاية ودعم وآياد ايرانية.. ومايحدث فى العراق يفوقه بكثير ما تشهده سورية من صراع منبته وأساسه ومنشأه صراع طائفى سنى شيعى، امتد إلى لبنان، تحركه ايران الشيعية، باتفاق وتنسيق مع قوى غربية لها أطماع فى المنطقة.. وقَدر السعودية أنها تتحمل مهمة مواجهة المد الايرانى الشيعى الذى يطوق منطقة الجزيرة العربية.. وعلى الملك سلمان دور لابد أنْ يضطلع به بالتبعية فى دعم مصر فى حربها ضد الإرهاب، الذى يهددها من الغرب والشرق والجنوب.. باختصار فإن الملك سلمان يواجه تحديات كثيرة ربما كان يدخرها له القدر ليثبت أنه قادر على مواجهتها، بما يمتلكه من خبرات وقدرات ورؤى أظهرها طوال 50 عامًا شارك فيها حكم البلاد منذ أن تولى منصب أمير الرياض.. ويُعلق السعوديون والعرب على الملك الجديد آمالًا كبيرة فى مواجهة التحديات التى تحيق بالمملكة والمنطقة.. وللملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز بصمات وجهود فى المصالحات وحل قضايا الخلاف على امتداد خريطة الوطن العربى، مما جعله ملكًا للعرب. ولعل أهم مبادراته تلك التى أطلقها فى القمة العربية فى بيروت فى عام 2002 وقد كان وقتها وليًا للعهد وتقضي مبادرته بإنشاء دولة فلسطينية معترف بها دوليًا على حدود عام 1967، مقابل اعتراف وتطبيع العلاقات بين الدول العربية وإسرائيل.. وفى نوفمبر عام 2007 زار الفاتيكان، ليكون أول ملك سعودي يزور هذا المكان المقدس لدى المسيحيين الكاثوليك في العالم، وقد أطلق فى مارس عام 2008، مبادرة للحوار بين الأديان السماوية، بعد أقل من 5 أشهر على تلك الزيارة.. وفي أكتوبر 2006 قدم الرعاية للمصالحة، بين الأطراف السنية والشيعية فى القيادة العراقية.. وفي فبراير 2007 ، رعى اجتماع الفصائل الفلسطينية بقيادة الرئيس محمود عباس، ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل، ونجح في وقف الاقتتال بين الفلسطينيين.. وقبل رحيله بأشهر قليله ورغم مرضه تصدى للجنوح والشرود القطرى عن توجهات مجلس التعاون الخليجى، وأقنع أو أرغم أمير قطر على القبول بالمصالحة مع مصر. وأعلن الديوان الملكي السعودي فى 20 ديسمبر الماضى، أن قطر ومصر استجابتا لمبادرة العاهل السعودي للصلح.. وقد كان الملك عبد الله ميالًا للخير واغاثة المنكوبين ودعم الفقراء والمشردين، وبقيادته احتلت المملكة السعودية المركز الأول عالميًا في دعم الدول المتضررة من الكوارث والزلازل والفيضانات والفقر والحروب، بلا شروط أو تمييز دينى. ولعل ذلك ماجعل شعوب العالم تطلق عليه لقب "ملك الانسانية"، لكنه بتواضع الانسان يطلب فى مارس 2011، إعفائه من هذا اللقب، وقال أنا لست ملكًا، فالمُلك كله لله وحده.. وقد قاد العاهل الراحل مسيرة اصلاحية غير مسبوقة فخصص 20 مقعدًا بمجلس الشورى للمرأة، وعينها بالمناصب العليا، وسمح لها بالترشح فى المجالس البلدية، وفتح الباب لتعليم البنات فى مختلف مراحل التعليم.. ولعل أكبر خطوة اصلاحية تلك التى اتخذها في مارس الماضى، بإصداره الأمر الملكى بتعيين الأمير مقرن بن عبد العزيز ولياً لولي العهد السعودي، فى سابقة هي الأولى، ليتولى الأمير مقرن ولاية العهد، في حال خلو ولاية العهد، ويبايع ملكاً للبلاد في حال خلو منصب الملك وولي العهد في وقت واحد. وهذا الأمر الملكى يُغلق الباب أمام أشقاء الملك وقد تجاوزت أعمارهم السبعين، ويفتح الباب ذاته أمام أشخاص أصغر سنًا.. وقد شهدت المملكة فى عهد الملك عبد الله الكثير مما يحقق آمال السعوديين وأُمنياتهم فى شتى المجالات. وحافظ على علاقات متوازنة مع الغرب لم تجبرة على تخليه عن مواقف مبدئية ثابتة.. مات الملك عبد الله بعد 12 عامًا من محاولة لاغتياله دبرها له العقيد الليبى معمر القذافى عام 2003.. مات "الملك" أمس على فراشه بعد 4 سنوات من وفاة "العقيد" مقتولًا بيد الليبيين فى 20 اكتوبر عام 2011..