كانت الساعة تقترب من الثانية عشرة مساءً وأنا – من شدة البرد – قابع في غرفتي تتملكني وحشة تستولي عليَّ دوما عند حلول الشتاء وأعيش سكونا لا تقطعه سوى دقات قلبي المختلطة بأصوات حبات المطر وهي تتساقط بغزارة على نوافذ غرفتي المغلقة وتختلط رائحتها بالتراب. حاولت أن أمد يدي لأي كتاب لأقرأ فلم أستطع، حاولت النوم فلم أستطع، حاولت أن أفعل أي شيء يريحني ويخفف عني بعض ما استولى عليَّ من أفكار فلم أستطع، ومن أين لي بالراحة وأنا مندهش من كم السنين التي ضاعت مني ولا أعرف كيف ضاعت؟ وحزين على الأيام التي فشلت في استثمارها فيما ينبغي أن يعينني الآن على حياة باتت من صعوبتها مُرة وقاسية، يا إلهي لو أنني عدت للوراء لما فعلت الكثير مما فعلت، لو أنني عدت للوراء لحذرت هذا وامتنعت عن ذاك وقربت هؤلاء وتجنبت أولئك، لكن الماضي أبدا لا يعود والندم لا ينفع، وعليَّ من الآن فصاعدا ألا أتسامح مع نفسي في لحظة واحدة أضيعها دون جدوى. بينما أنا هائم في خواطري سمعت طرقاً خفيفاً على باب الغرفة، إنها صغيرتي حنين «آخر العنقود» وبمجرد أن فتحت لها تشبثت برقبتي مستنجدة: (بابا، أنا خائفة، كلهم ناموا وسبوني وحدي، أنا بردانة جدا، لو سمحت أنا عايزة أنام جانبك) وبلا تردد حملتها على ذراعي وضممتها إلى صدري ثم طبعت قبلة على جبينها ثم استرخيت إلى جوارها وكأنني أتطهر بها من كل هواجسي التي تؤرقني، وما هي إلا لحظات حتى رحت في نوم عميق ثم رأيت في منامي أنني واقف على قارعة الطريق أنتظر شيئا لا أذكره وأعاني خوفا جعلني أسأل نفسي: (متى سوف يأتي الفجر؟) طال انتظاري حتى بلغت الساعة الواحدة والشتاء القارس يكاد يمزق أوصالي والثياب التي أرتديها – على كثرتها – فشلت في حمايتي من البرد ولا يؤنسني في وحدتي سوى صوت المطر المنهمر على قارعة الطريق وفوق رأسي بلا هوادة أو رحمة. نظرت يمينا ويسارا وأنا محاط بآلاف الأسئلة ربما كان أهمها: (متى سوف يأتي الفجر؟) وميض السحاب وارتطامه يفزعاني، الرعد والبرق يتناوبان علىَّ حرماني إحساسي بالأمن والأمان، زحام في داخلي قلق وتوتر وغيرهما من مفردات الحيرة التي أسلمتني للبحث عن إجابة عن السؤال الأهم بالنسبة لي: (متى سوف يأتي الفجر؟) قدماي تغوصان في الطين وأغرق شيئا فشيئاً والوقت يتأخر وأصوات خافتة تأتي من داخل البيوت المحيطة بي، همسات كلمات وأشياء كثيرة لا أستطيع إدراك ماهيتها والحيرة تكاد تفترسني فإلى أين سوف يأخذني مصيري؟ وهل هناك سبيل لأنقذ نفسي مما وقعت فيه؟ كدت أجن فأنا أحدث نفسي في السر وفي العلن وأتمنى الشاطئ الذي ألوذ به من أمواج الخوف العاتية: (متى سوف يأتي الفجر؟) غرقت حتى وسطي، والطين قد أخفي معالم ثيابي أحسست كأنني فقدت القدرة على المقاومة، أريد أن أمسك بشيء فلا أجد سوى الهواء. جاءت الساعة الثالثة وأنا أشعر أنني سوف أفقد الحياة لا محالة طالما أنه لم يأت الفجر، على امتداد الطريق من بعيد ناس يمشون في اتجاهي وهم ينظرون إلي في عجب ويتهامسون: (ما الذي أتي بإنسان في هذه الظلمة الحالكة من الليل؟ إنه ليس ببشر، لا بد أنه حجر ألقى به أحد المارة على الطريق، فدعونا منه ولنمض لحالنا) وأنا من فرط تعلقي بالأمل ناديتهم، ترجيتهم، توسلت إليهم أن يتوقفوا ويسمعوني ويرفقوا بحالي، فأنا مثلهم بشر، أغرقتني وحدتي في الوحل إلا أنهم لم يلتفتوا إلي ومضوا وتركوني أسأل نفسي: (متى سوف يأتي الفجر؟) غطست في الطين حتى صدري، كتفي، رقبتي وأوشك أن يصل إلى أذني، الساعة الآن الخامسة وعشرون دقيقة وإذا بشيخ المسجد المجاور لمسكني يوقظني بصوته الرخيم وهو يرفع أذان الفجر: (الله أكبر الله أكبر، أشهد ألا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله) وإذا بابنتي حنين هي الأخرى تستيقظ لتطبع قبلة على جبيني وتقول لي: (بابا، مش هاتقوم تصلي الفجر) هنا حمدت الله على أن ما كنت فيه مجرد حلم أو بالأحرى كابوس وأنه لا يزال في العمر بقية ينبغي أن أعيشها وأستمتع بها وأوظفها فيما يخدمني وآل بيتي وعموم الناس، فمن العار أن يعيش الإنسان بلا هدف ومن العار كذلك أن يموت بلا ثمن.