في مصر- عندنا- هيئات عديدة ضررها أكثر من نفعها، وهيئة الثروة السمكية في مقدمة هذه الهيئات! والهيئة التي يجب أن تحمي مصايد الأسماك وتنميها.. لا تفعل شيئاً من ذلك، بدليل أننا نردم- ونجفف- البحيرات الشمالية، وهي خمس، حتي فقدت معظمها نصف كمساحتها.. ثم تسمح بإنشاء آلاف الأحواض أي «الحفر» لنزرع فيها الأسماك! بالذمة ده كلام، وطبعاً فرق كبير بين أسماك تعيش في بحيرات واسعة تتغير وتتجدد فيها مياهها.. وبين أسماك تعيش في «برك» راكدة من المياه، ولهذا نجد بطن السمكة الطبيعية نظيفاً.. لأنها تسبح في مياه متجددة.. ونجد بطن السمكة «المزروعة» أسود أي غير نظيف لأنها تعيش في مياه ضحلة غير متجددة، يدخل فيه دائماً مياه غير نظيفة بل ومياه صرف! مناسبة هذا الكلام كارثة غرق المركب «بدر الإسلام»، بعد أن سحقتها سفينة الحاويات «الصافات»، وعليها صيادون- كلهم- لم يتعودوا علي الصيد في المياه البحرية المفتوحة.. بل كان كل ميدان عملهم في بحيرة المنزلة.. وبسبب ما ضرب هذه البحيرة من فساد وتجفيف وأباطرة وقراصنة انكمشت فرص العمل أمامهم في البحيرة- التي «كانت» أكبر مصدر للأسماك في مصر، فخرجوا إما إلي الهجرة غير الشرعية.. أو للعمل في البحار المفتوحة.. وشتان بين خبرة صياد كان يعمل في مياه عمقها لا يصل إلي ثلاثة أمتار.. والصيد في بحر مفتوح حتي انهم يرقدون الآن علي عمق 80 متراً في أعماق البحر الأحمر.. فما هو السبب.. السبب في هجرتهم.. وليس السبب في حادث غرقهم. أنا من عشاق بحيرة المنزلة.. وكثيراً ما كنت ألجأ إليها وأنا صبي ثم وأنا شاب، للصيد والسباحة.. والسياحة، وما أكثر ما أبحرت فوقها لكي أصل إلي كثير من جزرها- من دمياط- إلي المدينة الغارقة الشهيرة تنيس أو إلي جزيرة الذهب التي كنا نحتاج للوصول إليها إلي ساعات عديدة. وأتذكر أننا كنا نأكل من خيرها أفضل الأسماك: من البوري والمنسوب إلي جزيرة بورة في عمق البحيرة والطوبارة ومنها أخذت واحدة من أشهر عائلات البحيرة «في المطرية» هي عائلة «طوبار» قائد المقاومة الشعبية المصرية ضد قوات «بونابرت» التي غزت مصر.. وكذلك الجرانة، وللأسف بعضنا لا يعرف كيف يفرق بين البوري وبين الطوبارة والجرانة والسهلية.. وكلها عند العرب «بوري» علي وزن كله عند العرب صابون! وكنا نأكل منها أيضاً القاروس- وهو أفضل سمك- واللوت، والوقار، والدنيس وهي أنظف سمكة «مبططة» يعني مش طويلة.. وكذلك أسماك «موسي» التي نطلق عليها «غطا.. موسي» أو الغطيان، والآن هو موسم أن تجدها مليئة بالبطارخ من الزور إلي الذيل.. أي والله.. كما كنا نأكل منها أسماك الحنشان «ثعابين البحر» وهي الآن أغلي الأسماك، والبياض، وقشر البياض والشيلان والقراميط فضلاً عن الجمبري والكابوريا.. و12 نوعاً من فصيلة البلطي. وكانت هذه الأسماك تقدر بثلث محصول مصر كلها من الأسماك.. وكان هذا منذ منتصف الأربعينيات.. وبالمناسبة ذكر «المقريزي» انه في عام 378ه اصطاد الأهالي عند اشتوم تنيس حوتا طوله 28 ذراعاً ونصف وطول رأسه 9 أذرع أما دائرة بطنه فكانت 15 ذراعاً، وفتحة فمه 29 شبراً وعرض ذيله 5 أذرع ونصف وله يدان يجذف بهما طول كل يد ثلاث أذرع وهو أملس غليظ الجلد مخطط البطن ببياض وسواد ولسانه أحمر وله ريش طوله نحو الذراع يعمل منه أمشاط وله عينان كعيني البقر، وتم تمليحه بمائة اردب ملح وكان الرجل يدخل إلي جوفه بالملح وهو قائم غير منحن.. ثم حملوه حتي رأي سلطان مصر «العزيز بالله»! وكان ذلك داخل البحيرة عند مدينة تنيس المندثرة الآن. وكان الجزء الجنوبي الغربي من البحيرة- أي الشواطئ الجنوبية الغربية- يمكن اعتباره مصايد نيلية يصاد منها أسماك اللفش واللبيس والبني والزاي والبياض والقراميط، أما الأسماك البحرية فكانت تتواجد في المناطق القريبة من المداخل الشمالية للبحيرة، أما أصناف البلطي فكانت تكثر في جميع أجزاء البحيرة. فما الذي جري حتي انهار كل هذا الانتاج؟، هما جريمتان، الأولي التجفيف.. والثانية ان البحيرة أصبحت مصرفاً نصرف فيه مخلفات الصرف الزراعي ثم الأخطر وهو الصرف الصحي.. وأسوأها: الصرف الصناعي. وغداً.. نواصل سرد هذه الكارثة، أو الكوارث.