لا شك أن حب الأوطان من القيم النبيلة التى وجهنا إليها القرآن الكريم ضمناً، وذلك فى دعاء الخليل إبراهيم لوطنه «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ» والنبى الكريم «صلى الله عليه وسلم» يغرس فينا أيضا حب الوطن وذلك عند خروجه من مكه طريداً باكياً، يودع البيت الذى نشأ فيه، والرمال التى مشى عليها، والبيوت التى أوى إليها، وذرات التراب التى امتلأ كيانه بها، فيتوجه إليها بكلمات حانية، رقيقة «يا مكة، والله إنك لأحب بلاد الله إلى الله، وأحب بلاد الله إلى قلبى، ولولا أن أهلك أخرجونى منك ما خرجت» كلمات تمزق القلب، لمن كان له قلب، وترقق المشاعر، لمن كانت لديه مشاعر صادقة وأحاسيس حانية. وبعد أن يأذن الله بنصرة دينه والتمكين لنبيه ويكتب له العودة إلى وطنه من جديد، يدخلها بجنود لا قبل لهم بها، ويحيط مسيرته بالسرية التامة حتى لا يلجأ أهل مكة إلى محاربته فتسقط دماء هو حريص على حياتها، وتُزهق أرواح هو حريص على سلامتها، ويدخل البلد الذى أساء إليه من قبل، البلد الذى فعل به أهلها الأفاعيل، وافتروا عليه بالأوقايل، رموه بالشعر، ثم بالسحر، ثم بالجنون، ثم تربصوا به ريب المنون، ثم تآمروا لقتله، ثم آذوه فى أولاده وآل بيته، ثم ضيقوا عليه وعلى أصحابه الضعفاء، ثم فى النهاية طردوهم، ومع ذلك، ورغم كل هذه الآلام والخطوب الجسام، لم يتذكر النبى الذى يحب وطنه كل هذه الاساءات، لم يتذكر يوم أن جمعوا من كل قبيلة أقوى فرسانها ووقفوا أمام بيته ليضربوه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه بين القبائل، لم يتذكر يوم أن ساوموا عمه عليه، لم يتذكر يوم أن سبوه وشتموه ولعنوه وضربوه، وما أكثر تلك الأيام، وما أكثر تلك الأحداث. كلها ذابت على تراب الوطن المحبوب فأصبحت نسياً منسياً.. بل أصبحت تلك الأحداث الجسام، هى والعدم سواء. يتناسى النبى الكريم كل أوجه للإساءة كانت، وكل يد بالسوء امتدت، وكل رأس آثمة للشر خططت. ويدخل مكة، وسط أقوام دخلوا فى دين الله أفواجاً.. يملؤهم الشوق إلى ديارهم القديمة أيضاً، ومنهم من يُمنى النفس بالثأر ممن ساموهم سوء العذاب منذ عشر سنوات، ومنهم من ينتظر ربع إشارة من النبى الكريم (صلى الله عليه وسلم) ليقتص لنفسه ولآل بيته. ولكنها كانت شارات الرحمة، كانت مفاتيح الخير، كانت مكارم الأخلاق، كانت سيم الرجال وشيم الأبطال المحبين لأوطانهم بحق. ما راعى الجميع إلا المنادى ينادى «أيها الناس ماتظنون أنى فاعل بكم، قالوا خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم، قال اذهبوا فأنتم الطلقاء». لم يصدق أصحاب التخطيطات والظلمات والكربات والسوءات أنفسهم. هل يعفو عنهم الرسول الكريم بعد كل ما فعلوه معه وصحابته وأبنائه.. وهو فى وضع اليوم يمتلك فيه الحق والقوة. فلو فعل أى شىء ما لامه أحد، لأنه من باب القصاص، باب «فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ». والقوة معه تؤيد الحق وتدعمه!! فما الذى يمنع محمداً من الانتقام!! هل نسى النبى يوم أن قاطعوا قبيلته وحاصروهم فى شعب أبى طالب؟!. هل نسى يوم أن طلق المشركون بناته ... رقية وأم كلثوم وزينب. نعم، نسى النبى (صلى الله عليه وسلم) كل تلك الإساءات، لأنه يحب وطنه ويعشق ترابه... لأنه ما جاء وطنه هادماً، بل جاءه بانياً.. جاءه مشيداً.. جاءه مستنهضاً. ذلكم هو النبى القدوة، الذى يعلمنا عملياً كيف يكون حب الوطن . فهل نقتدى به (صلى الله عليه وسلم)؟! هل نحب وطننا ونبدأ البناء بحق بغض النظر عن أى خلافات شخصية أو مذهبية أو طائفية قد تحرق أوطاننا لا قدر الله!! إن المؤامرات اليوم تُحاك ضد كل ما هو عربى، فهم لا يريدوننا أمة واحدة كما شاء لنا ربنا، وهم لا يريدوننا أمة متقدمة، بل يريدوننا أمة الجهل والجهلاء، أمة الغباء والأغبياء، ويلعبون على أوتار الطائفية وإثارة الخلافات الأيديولوجية والفكرية والشكلية بيننا، فهل نعى هذا المخطط؟ وهل نقف فى الاصطفاف الوطنى لنبنى ونُعلى البناء؟! كم كان منظراً قبيحاً ذاك الرجل الذى سب وطنه علانية؟! وكم كان منظراً مقزراً ذاك الشاب الذى لعن الوطن أمام الجميع. إننا يا سادة نريد إعادة قيم المواطنة من جديد، نريد بث روح الحب والانتماء لهذا الوطن من جديد، وأنتم تقولون إن النبى (صلى الله عليه وسلم) هو قدوتكم، حسناً، إذن فلنفعل مثلما فعل النبى الكريم عندما أُجبر على ترك وطنه، لم يشتم، ولم يلعن، ولم يسب وطنه.. بل خرج باكياً يجذبه الحنين. ثم عندما عاد إلى وطنه، لم يعُد للانتقام، لم يعُد للقصاص، وإنما عاد للبناء والتنمية والمؤاخاة. أليس لكم فى هذا النبى أسوة حسنة!! إن حب الوطن عبادة، وبناء الوطن فريضة، وما بين الحب والبناء يكمن مستقبل هذا الوطن، فهل نشيد هذا المستقبل بسواعدنا، هل نلبى نداء الوطن، من يفعل فالله يبارك صنيعه، ومن يأبى فلا يعطل المسير، وليعلم أن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور.