الكلام عن اهتمام محمد علي بالتعليم لا حدود له.. بل أري الشيخ زايد بن سلطان سلك نفس الطريق، الذي سلكه محمد علي، لوضع الأساس السليم لبناء دولة. ولكنني اليوم أتكلم عن الجناح الآخر لبناء النهضة التي حلم بها محمد علي نفسه. كان الجناح الثاني هو المصنع.. لماذا نستورد بينما بإمكاننا أن ننتج ما نحتاجه بأيدينا.. وقد كان.. والبداية كانت إنتاج ما نلبس.. أي الأقمشة.. لذلك كان أول المصانع التي أنشأها محمد علي هو «فابريقة» الغزل والنسيج في الخرنفش.. وكان ذلك عام 1816 واستدعي لها عمالاً فنيين من فلورانس بإيطاليا تخصصوا في غزل خيوط الحرير لصناعة القطيفة والساتان ثم امتد نشاطها إلي صناعة الأقمشة القطنية «للغزل الرفيع والخيوط السميكة» وكان من إنتاجها البافتة والموسلين والبصمة والشاش والباتستا، ثم اتبع ذلك بإنشاء مصنع لغزل ونسج القطن في بولاق وبه ورشة لإصلاح الآلات بل ومصنع للحدادة. ثم أخذت المصانع تنتشر في السبتية والمبيضة وبولاق وكذلك مصنع لصنع أقساط الغزل، ومصنع للجوخ في بولاق ومصنع للحرير وآخر للحبال وآخر للصوف ومصنع للطرابيش في فوه.. واندفع الرجل ينشئ مصانع للغزل والنسيج في الوجه البحري، في قليوب وشبين الكوم والمحلة الكبري وزفتي وميت غمر والمنصورة ودمياط ودمنهور وفوه ورشيد، وأنشأ مصانع مشابهة في الوجه القبلي في بني سويف وأسيوط والمنيا وفرشوط وطهطا وجرجا وقنا، ولسبب نجاح صناعة الغزل المصرية أخذت مصر- أيامها- تصدر جزءاً من إنتاجها إلي إيطاليا وألمانيا وثغور بحر الادرياتيك.. وإلي سوريا والأناضول وبالتالي انخفضت واردات مصر من هذه الأقمشة! ثم اندفع أكثر فأنشأ مصنعاً للكتان، وكان يصدر منه الكثير إلي أوروبا. ودخل محمد علي عصر صناعة المعادن فأنشأ معملاً لسبك الحديد في بولاق ثم مصنعاً لألواح النحاس.. ودخل عصر صناعة السكر بالوجه القبلي في أسيوط وآخر في ملوي، ومصانع للنيلة «للصباغة»، ثم للصابون والمدابغ والزجاج والصيني.. بل أنشأ مصنعاً للورق ومعاصر للزيوت. وبسبب نجاح كل ذلك نجد محمد علي يرسل بعثة خاصة ذات صبغة صناعية من المصريين ليتعلموا في فرنسا والنمسا وانجلترا علي أفضل الصناعات مثل النسيج والصوف.. بل وتعلم صناعة الآلات الجراحية وصناعة الساعات والنقش والدهانات والأحذية والسروجية وكان ذلك عام 1829، فيما عرف باسم البعثة الثالثة.. وكان بعض تلاميذها مكلفين بدراسة صناعة الآلات الهندسية! ثم الميكانيكا.. وأيضاً صناعة صب المدافع والقنابل! وواضح ان هدف كل ذلك هو أن تعتمد مصر علي رجالها لدخول عالم الصناعات العصرية.. وتقليل الاعتماد علي الاستيراد.. بل وتصدير الباقي لدول أوروبا نفسها، وقد شهد بذلك رجالات هذه الدول أنفسهم. فهل كان ذلك خدمة لأغراضه العسكرية؟ أقولها: حتي ولو كان جانب من ذلك حقيقياً إلا اننا يجب أن نعترف إن الحياة المدنية تستفيد أيضاً وبكثرة من هذا الانتاج. وحتي نعرف مدي ارتباط المدرسة بالمصنع نذكر هنا أن مكان مصنع الغزل والنسيج في دمياط، الذي أنشأه محمد علي هناك، ما ان تهدم- بعد ذلك- حتي تحول إلي أكبر مدرسة ابتدائية أميرية في دمياط، هي الآن نفس مدرسة دمياط الثانوية العسكرية التي تعلمت شخصياً فيهما بين عامي 1947 و1956. المهم ان محمد علي نفسه، وقد عرف قيمة التعليم، أخذ يتعلم القراءة والكتابة بعد أن تجاوز عمره 40 عاماً وكان يفخر بأنه ولد في نفس العام الذي ولد فيه «نابليون». وهذا الرجل الذي بدأ أمياً عرف قيمة العلم والتعليم.. وعرف قيمة المصنع فاندفع يبني ويؤسس.. لكي يفتح طريق النور والاستنارة بالتعليم ثم ليكتفي- ما أمكن- بانتاج بلاده.. مصر. وعندما اكتشفت أوروبا ذلك اتحدت لتضربه وتحاول تحطيمه وتقف أمام مشروعه النهضوي بمصر، وإذا كان هذا هو سلوك محمد علي منذ قرنين من الزمان بالضبط.. فلماذا لا نستخدم نفس السلوك الآن ليس فقط للنهوض بالوطن.. بل لمواجهة الإرهاب الذي يحاول أن يدمر مصر الآن. نعم بالتعليم.. بالمدرسة.. والمصنع معاً نستطيع أن ننهض بالوطن.. ونقضي علي الإرهاب. لماذا لا نكرر التجربة؟! كما حاول جمال عبدالناصر أيضاً.