في شأن مراجعة التشريعات الحالية سواء من حيث فلسفتها أو من حيث فعاليتها وجدواها في مواجهة الواقع بلوغا الي غاية منشودة للإصلاح القضائي، فقد وجدت نفسي متوجها بدافع من الخبرة العملية والتخصص في أن تكون أول أوراق الملف المطروح للمناقشة تلك المتعلقة بالتشريعات الجنائية سواء ما تعلق بجانبها العقابي أو ما اتصل بالشق الإجرائي منها. وبنظرة عامة وأولية علي قانون العقوبات المصري فإن أول ما يصدم النظر هو تاريخ هذا القانون الذي يحمل رقم 58 لسنة 1937 ومن ذلك يبين أن قانون العقوبات الحالي هو ذاته الذي صدر منذ هذا التاريخ أي منذ نحو اثنين وسبعين عاما. ولا ريب أن الواقع المصري الذي ظل قائما منذ ما يقرب من ثمانين عاما ليس هو الواقع المصري الذي نعيشه الآن، وأقصد بالواقع المصري ما تحمله الكلمة من معانٍ تتسع للأنظمة السياسية والاجتماعية والثقافية وغير ذلك من كافة الجوانب التي يتشكل منها واقع الحياة في دولة معينة. ففي خلال هذه الأعوام التي تقترب من الثمانين عاما التي تربط بين صدور قانون العقوبات ويومنا هذا، تغير شكل ونظام الحكم في مصر، وطرأ علي المجتمع المصري تغيرات وتحولات يصح معها القول بأنه أصبح مجتمعا يختلف كلية عن ذلك الذي كان قائما في عام 1937، ولعل البعض يتساءل مستنكرا المناداة بمراجعة قانون العقوبات مراجعة شاملة بدعوي أن الجريمة لا تتغير منذ بدء الخليقة إلي أن تقوم الساعة، وهو قول غير صحيح لأن الجرائم في ذمة التصنيف الواقعي صنفان: أولهما: الجرائم الطبيعية وهي تلك التي تقوم علي أفعال تستهجنها الفطرة البشرية ولا تختلف الشرائع والتشريعات علي تجريمها وتحريمها أيا كان نصيب المجتمع من الحضارة والتقدم ومثلها القتل والسرقة. وثانيهما: الجرائم المصطنعة وهي تلك التي تقوم علي أفعال في حقيقتها قد تكون مشروعة ولكن مجتمعا معينا في فترة معينة قد يتجه الي تجريمها تحقيقا لمصلحة معينة، وهذا الصنف من الجرائم قد تعرفه مجتمعات دون مجتمعات بمعني أن الفعل قد يكون مجرما في مجتمع دون الآخر، بل قد تتغير وجهة نظر المجتمع الواحد عن ذات الفعل من فترة لأخري حسب توجهات الدولة وأولويات مصالحها والتزاماتها، ومن ذلك الجرائم التموينية وجرائم التعامل بالنقد الأجنبي. ولذلك فإن مراجعة قانون العقوبات مراجعة شاملة تبدو ملحة ومهمة بالنسبة لهذا الصنف من الجرائم، لأن ما ترددت فيه الدولة والمجتمع المصري بين أشكال مختلفة من نظام الحكم وتحولات جذرية في شتي المناحي تقتضي هذه المراجعة حتي يكون قانون العقوبات في شأن هذا النوع من الجرائم متفقا مع الواقع الذي نعيشه بكافة عناصره، ومنعا من الشذوذ الذي قد يصيب النص العقابي حين نجد علي سبيل المثال نصوصا صدرت في ظل اعتبارات مصاحبة لأنظمة معينة أو تحقيقا لمصالح محددة أصبح لا وجود لها في الواقع الحالي. بل إن الجرائم الطبيعية ذاتها قد طرأ عليها - بحكم تطورات العصر - أشكال من التغير سواء في طريقة ارتكاب الجريمة أو الاشتراك فيها بما يستدعي نظرة متجددة من قانون العقوبات لهذه الأشكال المستحدثة للجرائم التقليدية. وفي إطلالة أكثر دقة وبنظرة أعمق تفحصا لنصوص قانون العقوبات تتكشف خطورة ما تحدثنا عنه من الانفعال اللحظي وما ينتج عنه من تشريعات انفعالية تفتقر الي الفلسفة المبررة لها كما يعوزها استلهام الواقع الذي صدر التشريع لمواجهته. فعلي سبيل المثال ومنذ سنوات قليلة ليست ببعيدة انفعل المشرع ببعض الصور الإجرامية فأصدر تشريعا هو القانون 6 لسنة 1998 والمعروف بقانون البلطجة استحدث به الباب السادس عشر من الكتاب الثالث في قانون العقوبات في المادة 375 مكررا، وسيقت الحجج لتبرير هذا النص، واعتبر المدافعون عنه أن فيه مواجهة حاسمة سوف تقضي علي ظاهرة جنح الضرب المستشرية في الواقع الذي نعيشه ولم تمض سبع سنوات إلا وصدر في 7/5/2006، حكم المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية هذا الباب لما شابه من عوار دستوري إجرائي لعدم عرضه علي مجلس الشوري لأخذ رأيه في هذا القانون من القوانين الماسة بالحرية الشخصية. ورغم أن إصلاح هذا العوار الدستوري مسألة يسيرة لا تقتضي سوي إعادة إصدار ذات القانون بعدعرضه علي مجلس الشوري - في ذلك الوقت - إلا أن ذلك لم يحدث وهو ما يؤكد ما نقوله من أن التشريع في كثير من الأحيان محكوم بالانفعال اللحظي دون أن يستند الي فلسفة عميقة، إذ لو كان الأمر كذلك لكان من الواجب أن يعاد إصدار هذا القانون بعد إصلاح العوار الدستوري الشكلي مادام أن هذا القانون يقتضيه الواقع ويتطلبه، ثم صدر قانون البلطجة الي الوجود مرة أخري بمرسوم بقانون أصدره المجلس العسكري عام 2011. وللحديث بقية سكرتير عام حزب الوفد