ليس قبل ترسيخ القيم الداعمة للطموحات الثورية، يمكن التأكيد علي نجاح الثورة المصرية في إنفاذ أهدافها ومبادئها؛ فما لم تحقق الثورات الشعبية تغيرات جذرية في القيم المجتمعية السائدة، فلا مجال للوثوق في تحول ديمقراطي حقيقي. ولا شك أن ما يشهده المجتمع المصري، من حوار متعدد الأطراف، بشأن الأحزاب السياسية، يصب في منتهاه في غير صالح القواعد الديمقراطية المتعارف عليها في المجتمعات المتقدمة ديمقراطياً؛ ذلك أن الحوار المُشار إليه لا يبتعد عن أبجديات الخطاب الصادر عن نظام مبارك المستبد، ولا عن أوليات ممارسات جماعة الإخوان الإرهابية؛ ومن ثم لم يزل مفهوم المعارضة لدينا مفهوماً متحركاً، تتجاذبه المصالح والمزايدات. والواقع أن مفهوم المعارضة، كما تعرفه الأدبيات السياسية، وكمكون لا بديل عنه في أي مجتمع ديمقراطي، شديد الارتباط بوجود الأحزاب السياسية، علي عكس ما تشير أسهم الحوار المجتمعي الدائر طعناً في الأحزاب، باعتبارها كفكرة وكمفهوم، لا تمثل ضرورة محلية، علي أفضل تقدير، إن لم تكن نظاماً فاشلاً في نظر البعض الآخر.! فليست الانتقادات الفردية الموجهة للسلطة من المعارضة في شيء؛ ذلك أن المعارضة، وفق مفهومها الصحيح، تستلزم النقد المنظم، والمُمنهج وفق رؤية مشتركة لمجموعة ما، أو كيان ما، حول أسلوب وممارسات الحكم، في سياق يتيح تداولاً سلمياً للسلطة. وإذا كانت نشأة المعارضة، ترتبط تاريخياً بنشأة السلطة في المجتمعات الإنسانية، وفق صيغة «حكام ومحكومين»، إلا أن المعارضة السياسية بمعناها الحديث ترتبط على نحوٍ محدّد بتطور النظام الحزبي التنافسي الليبرالي «البرلماني»، حين تحولّت فيه الكتل البرلمانية إلى أحزاب. وعلي ذلك، لا يمكن البناء «ديمقراطياً» علي دعوات تنسف ما للأحزاب السياسية من دور فاعل ورئيس في إقامة حياة ديمقراطية سليمة تتبني ما أفاضت به مختلف التجارب الإنسانية من قواعد ديمقراطية لا يمكن تجاوزها. لا يدفع ذلك عن الأحزاب السياسية ما بها من ضعف، ولا ينفي ما يحتشد داخل البعض منها من مصالح ذاتية، وممارسات لا تتفق وما تنادي به؛ غير أن الأحزاب علي هذا الحال هي جزء من المجتمع ككل، تحمل في طياتها كافة ما يعتريه من قيم ، إيجابية وسلبية، وهي كذلك نتاج ممارسات دامت عدة عقود لم نمتلك فيها إرادة سياسية حقيقية لتحقيق الديمقراطية؛ ومن ثم لم نترك أحزاباً تنمو نموها الطبيعي، وتنهض بمسئولياتها الطبيعية، وفي ذلك دلالة واضحة علي حتمية دور الأحزاب السياسية في المجتمعات الديمقراطية، بعد أن غابت عن الوطن، بفعل فاعل، غياب الديمقراطية ذاتها. ولا يستند إلي منطق سياسي، كل نقد يتأسس وفق كثرة عدد الأحزاب، مع قلة عدد أعضائها، فمعروف أن الثورات الشعبية تفرز العديد من القوى السياسية الجديدة، وهذه تتخذ من الأحزاب شكلاً تشارك به في الحياة السياسية، إلي أن تنضج الممارسة الديمقراطية، فتبدأ الأحزاب في التبلور حول كياناتها الأساسية، حسبما تمثله من تيارات فكرية. كذلك فإن الأحزاب السياسية لا تُعد عضويتها الرسمية مقياساً وحيداً لقياس مدى تواجدها في المجتمع، ففي الانتماء إلي أفكارها ومبادئها، بل ورموزها ومواقفها، ما يشكل تواجدها الحقيقي بين الناس. وربما حملت التجربة الحزبية في مصر أسوأ أعراضها، جراء ما جسده الحزب الوطني المنحل، من آثار مدمرة للمجتمع، نتجت عن كونه لا يمثل حزباً بالمفهوم السياسي الصحيح، قدر ما كان تجمعاً لمصالح فاسدة، مثلما شكل حزب الحرية والعدالة ذراعاً وستاراً سياسياً لمجموعة إرهابية، ولا ينفصل عن ذلك كثيراً ما تنشغل به الآن بعض التيارات الضالة والهاربة من ثورة يناير المجيدة، في سعيها نحو تشكيل كيانات «سياسية» مضادة للأحزاب الثورية، بينما صفوفها الخلفية تشتد طعناً في الأحزاب، كمفهوم وكفكرة.! والحال علي هذا النحو، وقد راح البعض منهم يروج لنظام ديمقراطي دون أحزاب!، باتت التساؤلات مشروعة، يتعلق أهمها بحقيقة موقفنا من مفهوم المعارضة، وإجمالاً حول مدى التغير القيمي الذي أحدثته الثورة المصرية، وفي أي اتجاه نبحث عن ديمقراطية بلا أحزاب، إن كانت المعارضة أحزاباً.؟!