للذكري فقط، تم التعجيل بإقامة دولة الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958 (بينما كان الزعيم الراحل جمال عبدالناصر يفضل الاتحاد الكونفدرالي أو الفيدرالي كبداية)، بسبب حشد تركيا لقواتها المسلحة على الحدود السورية، واستعدادها للعمل العسكري في إطار جهود إسقاط النظام الوطني في دمشق يومها، وإلحاق سوريا بالأحلاف الاستعمارية التي كانت الجهود لا تتوقف لإقامتها في وجه المد القومي العربي. الآن، وبعد كل هذه السنوات، تعلن تركيا استعداد قواتها البرية للاستيلاء على شمال سوريا، في إطار الحملة الدولية على «داعش» وغيرها من الجماعات الإرهابية هناك. وتجيء هذه الخطوة بعد طول تردد تركي، وبعد الكشف عن دعم أنقرة في الفترة السابقة لهذه الجماعات التي تشارك اليوم في الحملة عليها! قد تكون لتركيا أسبابها الحقيقية والمختلفة للتمنع عن المشاركة أولاً، ثم للاندفاع للاستيلاء على شمال سوريا واقتراح إقامة منطقة عازلة فيها.. لكن السؤال هنا هو: ماذا بعد؟! إن الحرب على «داعش» ستطول سنوات قدرتها أمريكا بأكثر من ثلاث، وترتيب الأوضاع في سوريا يستغرق وقتاً وجهداً في ظل غياب أي تصور لحل سياسي قادر على البقاء، وفي ظل غياب تحالف وطني قادر على ملء الفراغ، وفي ظل تشبت النظام ومن يدعمونه بالبقاء في السلطة؟ والأهم أن ذلك يجري في ظل غياب رؤية عربية لمستقبل الأوضاع، ليس في سوريا وحدها بل في كل المنطقة العربية. وهو ما شاهدناه قبل ذلك في العراق، وانتهي بتركه تحت النفوذ الإيراني وفي ظل صراع طائفي وحروب أهلية.. هل يتكرر الأمر في سوريا لنجدها بعد ذلك تحت النفوذ التركي ومع نفس الصراعات الطائفية؟! يتصل بذلك ما نراه من أن التحرك التركي في سوريا، يتزامن مع الحملة المهووسة التي يشنها الرئيس التركي رجب أردوغان على مصر، والتي طالت دولة الإمارات بعد الموقف العربي الشجاع الذي جسده خطاب الشيخ عبدالله بن زايد أمام الأممالمتحدة، مناصراً موقف مصر . ومندداً بهجوم أردوغان المتخم بادعاءات عاد ليرددها مرة أخرى في اجتماع المنتدى الاقتصادي العالمي الذي انعقد في إسطنبول! يقول أردوغان الآن إنه ذاهب لمحاربة الإرهاب، بينما يتحالف مع أصل كل الجماعات الإرهابية ممثلاً في جماعة «الإخوان». وبعد أن تم الكشف عن دعمه «داعش» وأخواتها وتحويل بلاده ممراً لآلاف الأجانب الذين انضموا إليها، وللمال والسلاح الذي ضمن صعودها وانتشارها! ويدعي أنه سيكون شريكاً في التحالف الدولي، بينما يعلن عداءه لأطراف رئيسية في هذا التحالف مثل الإمارات ومصر التي يصفها رئيس وزرائه أحمد داود أوغلو بأنها العمود الفقري للمنطقة، ويتمنى أن تكون أكبر شريك استراتيجي لبلاده. وبغض النظر عن كل ذلك، فإن القضية بالنسبة لنا لا ينبغي أن تتوقف عندما عبرناه، والحمد الله، بإسقاط حكم الإخوان والتصدي لجماعات الإرهاب التي خرجت جميعاً من عباءتهم، لكن القضية الآن هي مواجهة الخطر الذي تظل تركيا طرفاً أساسياً فيه، حين تحاول أن تحيل الصراعات السياسية في الوطن العربي إلى حروب طوائف، وحين تستمر (عبر دورها في سوريا ومن خلال تحالفها مع الإخوان وغيرهم) في أن تكون شريكاً أساسياً في عملية استباحه الوطن العربي وتقسيمه! هذه هي «المصيدة» الحقيقية التي تنصب للعرب، وهي ليست جديدة علينا، فقد خضنا المعارك ضدها منذ أكثر من نصف قرن، ومنذ أن بلورنا رؤية تجمع العرب وتوحد قواهم في مواجهة التخلف والاستعمار والتجزئة، ومنذ أن بلور أعداؤنا رؤيتهم التي اختلفت في الكثير من النقاط، ولكنها توافقت في العداء لعروبة العرب ووحدتهم.. تستوي في هذا العداء قوى الاستعمار القديم والجديد، والقوى الإقليمية غير العربية التي لم تتوقف يوماً عن محاولة مد نفوذها في الوطن العربي، متمتعة برضى وتأييد قوى الهيمنة العالمية..! ماذا بعد؟ هذا هو السؤال الذي ينبغي أن يشغلنا، خاصة حين يجري التركيز على سورياوالعراق وداعش، بينما الخطر يمتد إلى اليمن بكل آثاره على دول الخليج وعلى مصر، ومع خطر تحكم القوى «غير العربية» في مدخل البحر الأحمر عند باب المندب، والشيء نفسه في ليبيا التي تتحول إلى صورة من الصومال الذي نسيناه. ومؤامرات المتنافسين على ثرواتها البترولية، ومؤامرات من يتصورون أنها يمكن أن تكون مركزاً للضغط على مصر واستنزاف قدراتها، ولتذكير الجزائر بسنوات الإرهاب التي دفعت فيها أثماناً غالية، ولمساندة تيارات بعينها في الصراع على مستقبل تونس وغيرها. معركتنا ضد الإرهاب صعبة وطويلة، وقد سجلنا انتصاراً مهماً حين أسقطت مصر حكم الإخوان في 30 يونيو، وحين لقيت المساندة العربية بلا حدود من جانب السعودية والإمارات وغيرهما من الدول العربية التي كانت تدرك أن سقوط مصر يعني الكارثة. الآن تدور المعركة باتساع الوطن العربي، ويدرك العالم صحة ما قلناه من أن الإرهاب لن يستثني أحداً من شروره، ومع ذلك فإن الخطر الداهم يحاصرنا نحن قبل غيرنا. وكل الاطراف الدولية والإقليمية تملك «أجنداتها» الخاصة، وبعضها يتصور أن إشعال الحروب الطائفية سيصب في صالحه وسيدعم نفوذه. وبصرف النظر عن خطأ هذا التصور، لأن نيران الطائفية سوف تحرق هذه القوى الإقليمية قبل غيرها، فإننا مطالبون بالتصدي لكل هذه المخاطر، وبأن يكون لنا خطة عملنا التي تضمن أن تكون المعركة ضد الإرهاب هي معركة ضد الطائفية والتقسيم. وليس إلا استعادة البعد العربي للمعركة طريقاً للانتصار. نقلا عن صحيفة البيان الاماراتية