بعد أربعة أعوام مضت على اندلاع ثورات الربيع العربى، لم نعد نرى ملامح تلك الثورات إلا وقد نضجت بعض ثمارها فى تونس، وبدأت تؤتى أكلها فى مصر، فيما انحسرت نتائجها فى اليمن، وضاعت فى سوريا وليبيا، وأجدنى بصورة بديهية، أتأمل الحالة المصرية، بعد انتهاء مرحلتين مهمتين من الاستحقاقات الديمقراطية، متمثلة فى وضع الدستور، والانتخابات الرئاسية، ومن ثم ترقب الانتخابات البرلمانية. فأجد على أرض الواقع ان كثيرًا من أبناء الشعب لم يساير التغيير الثورى الرامى إلى تطوير الشخصية المصرية ودفعها للأمام، وتخليصها من الموروث الأسود من الظلم والفساد وغياب العدالة الاجتماعية، وذلك بتغيير أو تطوير مخزونه الذهنى أو خبراته المتراكمة حول الفساد والمفسدين، أو أسلوب تعاطيه مع الفساد المترهل، والمنتشر غالبا فى معظم قطاعات ومؤسسات الدولة، مع العلم ان استشراء الفساد كان المحرك والباعث الأول لثورة 25 يناير، ولبعض أسبابه بجانب فشل النظام الإخوانى، كانت ثورة 30 يونية. بل ان البعض يتعامل مع بقايا الفساد، وكأنه كيان قائم وجزء من الدولة لا يمكن تغييره ولا أمل أيضًا فى زحزحته وخلخلته من مكانه، رغم جهود الرئيس عبد الفتاح السيسى، وخلفه صف من المسئولين الشرفاء الذين يحاولون تغيير الأوضاع القائمة المتراكمة من الفساد على مر عقود، ورغم قضايا الفساد المتمددة أمام المحاكم وفى دور القضاء ضد الفسدة والمفسدين، فإن البعض ليس لديهم أمل أو تطلعات إلى التغيير، وكل أحاديثهم تدور على ان الفساد باق، ولن يتم التطهير كما ينبغى، وان عليهم التعاطى مع هذا الوضع، وتكييف حياتهم القادمة عليه، كما تقبلوا حياتهم السابقة معه وكأنه لن يكون لثورتين عظيمتين أى حصاد للسير قدمًا لتطهير كل الفساد، لأنهم ينظرون إلى الحالة من منظور مجتمعى ضيق، لا يخرج على محيط عملهم وتعاملهم فى الحياة، وهو نفسه المحيط الضيق السابق، والذى لم يتم السعى إلى تغييره وتطهيره، لأن الفساد بعد ثورتين مصريتين قصد العناوين الكبيرة للفسدة، وتجاهل أو أرجأ حساب صغار المفسدين الأكثر التصاقا بحياة المواطن اليومية، ومن هنا ساد شعور « لا امل فى التغيير». وكأن قبول الفساد والتعامل معه أصبح مخزونًا ذهنيًا لا يمكن تغييره أو حلحلته أو حتى تطويره لصورة أخرى، وكأنه بات صورة ذهنية طبعت ودمغت، تجعلهم يتفننون فى التحايل بالرشوة والمحسوبية للحصول على أى حق أصيل من حقوقهم، رغم ان مجالات محاسبة الفساد صارت مفتوحة على مصراعيها، وبالدولة الآن أكثر من 14 جهة لمحاربة الفساد والرشوة والعمولات والانحراف الوظيفى والتربح من المال العام، وأذكر منها أهم الجهات الرقابية، جهاز الكسب غير المشروع، الجهاز المركزى للمحاسبات، هيئة الرقابة الإدارية، مباحث الأموال العامة، وحدة غسيل الأموال، هيئة الخدمات الحكومية، التفتيش المالى والإدارى، المراقب المالى لوزارة المالية، النيابة الإدارية، جهاز حماية المنافسة ومنع الاحتكار وغيرها ، كما تضمن الدستور عمل لجنة وطنية لمكافحة الفساد. إذا كان الجهل والفقر مسببين رئيسيين فى انتشار الفساد، وعدم وعى المواطن المصرى بكيفية مواجهة ومحاربة هذا الفساد، فإن أول وسيلة للقضاء على الفساد بعد ثورتين عظيمتين بمصر، هى العمل على تغيير المخزون الذهنى للمواطنين المتراكم حول الفساد وقبولهم له، والتأكيد على عدم الخوف من كشف الفساد، وان هناك جهات رقابية وقانونا وقضاء مستقلا يمكنه ان يحاسب المفسدين، وان الفساد جرثومة يجب محاصرتها وتطويقها للقضاء عليه قبل ان تنتشر كالوباء، وتنوير العقول وتبصيرها بما لقبول الفساد من تأثير مدمر على الحياة الاجتماعية، والتنمية الاقتصادية، والنظام السياسى، ويجب التنسيق بين الأجهزة الرقابية، تفعيلا لمواد الدستور المصرى فى هذا الصدد، من أجل مصلحة المواطن ومصلحة مصر، وصالح الدولة ومالها العام. وهناك مسئولية كبيرة تقع على عاتق الاعلام فى هذا الصدد، من خلال التوعية والتنوير للمواطنين بواجبهم لمكافحة الفساد، وضرورة تمسكهم بحقوقهم، دون اللجوء إليها بطرق ملتوية تعمل على دعم الفساد، وتحجيم الرغبات فى الحصول على ما هو أكثر من الحق المشروع، فتلك الرغبات فى تجاوز الحق تسهم بشكل خطير فى تفشى الفساد بصورة لا يمكن كبحها. كما يجب العمل على استعادة المواطن الثقة بأن تغييرًا حدث، وان يمنح فى النظام الذى بات يحكم بلده هذه الثقة، على ان تكون هذه الثقة هى خشبة القفز والانطلاق إلى التغيير الايجابى، والتخلص من المخزون الذهنى لقبول الفساد والتعاطى مع مجرياته، على المصريين ان يثقوا بأنه لم يعد مجالا لسياسة الأيدى المرتعشة وعدم اتخاذ القرار المناسب والعاجل للضرب بيد من حديد على الفسدة والمفسدين المتنطعين منذ أزمنة فى مؤسسات الدولة، وهى رسالة ليست للمصريين فقط، بل لكل إنسان يتطلع إلى تغيير بلده للأفضل.