إن أهم ما يميز الشعب المصرى هو فطرته وتلقائيته وشدة تسامحه وصبره، وفى الوقت نفسه شدة ذكائه. ولقد انعكس ذلك بشكل واضح على ثورته التاريخية العظيمة، فبعد صبر متراكم لمئات القرون على قهر وظلم وفساد حكامه وبطانتهم انتفض فى 25 يناير بشكل ثورى سلمى رائع، وطالب بإصرار على مدى 18 يوما بتغيير النظام، فكانت الاستجابة بتنحية رأس النظام الذى شاخ وبعض أكابر مجرميه. وفرح الشعب بذلك وظن أن ثورته قد أتمت رسالتها، وتوهم أن باقى المفسدين من أركان النظام الضارب. فى كافة مفاصل وأركان ودروب الدولة العميقة، وغير العميقة سوف ترتدع، بل وسوف تغسل نفسها وتجدد ولو جلدها، وتتبرأ مما فعلته فى سالف عهدها، وتبدأ صفحة جديدة من الطهارة والنقاء، واضعة يدها فى يد الشعب الحر الثائر لاستكمال بناء مصر ما بعد الثورة... وكان التسامح المصرى العظيم مع كافة المفسدين الكبار وأتباعهم من أركان النظام السابق، الذين ظلوا قابعين فى مراكز ومواقع حساسة ومهمة، كالقضاء، والجامعات، والإعلام، والوزارات، والمحافظات، والأجهزة السيادية، بل وحتى الأجهزة الرقابية، والحزبية والأمنية التى كانت تتحرك بتناغم وتكامل وتوجيه صهيونى كل هؤلاء لخدمة المصالح الصهيونية العليا. لم تفعل ثورة مصر السلمية المتسامحة العظيمة بهؤلاء ما فعلته ثورات تاريخية مثل الثورة الفرنسية التى أطاحت برقاب كافة الفاسدين، وأعملت المقصلة قبل أن تبدأ فى بناء جمهوريتهم الجديدة بعد الثورة، ولا قامت بما هو أقل من ذلك وهو مجرد عزلهم سياسيا وإداريا، ليقوم بمهمة البناء رجال أطهار أنقياء أوفياء لشعوبهم أمناء على ثورتهم، على اعتبار أن من تربى وتشبع بثقافة الفساد والاستبداد وظل طوال حياته يمارسها ولا يعرف غيرها، لا أمل فى صلاحه! حتى هذا لم يتم، وغلب على الثورة ورجالها التسامح وغض الطرف، فهل استوعب هؤلاء الفسدة الدرس وفهموا الرسالة؟ حتى هذه اللحظة لا تزال كثير من الوقائع والحقائق على أرض الواقع تؤكد أن ذلك لم يحدث، وأن كثيرا من هؤلاء بدلاً من أن يسارعوا فى التوبة الثورية ويصلحوا من أنفسهم ويستقيموا فى خدمة شعبهم ومصالحه الوطنية والقومية الحقيقية، أغراهم التسامح، فتنادوا بشكل متبجح وعلنى فى كثير من الأحيان، وخفى فى بعضها من أجل إثارة الفتن والعمل ضد المد الثورى، دفاعا عن فسادهم، ومراكزهم، ومكاسبهم الحرام التى نهبوها فى العهد السابق.. فهل يستمر التسامح الثورى معهم؟ وإلى متى؟ إن التساؤل السابق الذى أسأله لم يعد سؤالى وحدى الآن، بل أصبح السؤال المتردد على لسان كل مصرى مخلص حتى من كان مترددا فى تأييد الثورة. إن هناك فى التاريخ لحظات حاسمة تكون هى الأنسب لإحداث التغيير والتحول المطلوب، فإذا حدث تردد أو تأخر فى الفعل، فإن الفرصة ربما تضيع، أو تزداد الأمور صعوبة؛ لأن عناصر الثورة المضادة والمقاومة للتغيير، تكون أضعف ما تكون بعد نجاح الثورة مباشرة؛ حيث يكون المناخ أكثر مناسبة للتخلص منها ومن كافة آثارها السلبية التى من أجلها قامت الثورة، وهذا ما فعلته كل الثورات التاريخية، وآخرها ثورة يوليو 1952 فى مصر التى استخدمت كافة الوسائل الاستثنائية للقضاء على النظام الملكى السابق لها وكافة رموزه وأنصاره ومحبيه، ابتداءً من الانقلاب العسكرى ومروراً بالمحاكم الاستثنائية والحبس والاعتقال وتحديد الإقامة، وانتهاءً بقانون العزل السياسى. حتى نظام مبارك نفسه الذى يفترض أنه كان يحكم فى وضع طبيعى، إلا أنه ظل يحمى نفسه بوسائل غير شرعية استثنائية طوال عهده غير الميمون، حيث ظل طوال الواحد وثلاثين عاما يتكئ على عصا قانون الطوارئ الغليظة، ومحاكم أمن الدولة طوارئ، والمحاكم العسكرية للمدنيين، والتنكيل بخصومه السياسيين بالسجن بمحاكم استثنائية أو الاعتقال بلا محاكم، ناهيك عن الإبعاد المتعمد من كافة المواقع والمراكز والوظائف القيادية أو المؤثرة فى الدولة لمن اعتبرهم خصومه، حتى وصل الأمر إلى وظيفة معيد بالجامعة أو مدرس فى مدرسة أو مذيع أو مذيعة أو مضيفة جوية.. حتى الدستور نفسه لم يسلم من تدخلات استثنائية تجعل نظامه أبديا ثم وراثيا، ناهيك عن تفصيل القوانين بقضاة فاسدين مأجورين باعوا أنفسهم وضمائرهم... والعجيب أن كل هؤلاء الفسدة والسفلة هم الآن الأكثر صياحا وعويلاً وتشنجا ضد أى محاولة للإصلاح الحقيقى، ولا يخفون تباكيهم على أمجاد النظام السابق الذى حققوا فيه بالطبع أمجادهم وتفانوا بتقديم خدماتهم، ولعل أفضل نموذج لذلك هو ما رأيناه مساء الخميس 8/11/2012 جمعية الزند العمومية لنادى القضاة، التى قال عنها رئيس نيابة النقض المستشار عماد أبو هاشم: "إنها لا تعبر عن أنصار النظام السابق فى النادى، وأنها ضد إرادة الشعب، ويرفضها القضاة، ولا تعبر بأى حال من الأحوال عن ناديهم" ("الحرية والعدالة" 10/11/2012). ليس الزند فحسب، ولا النائب العام، ولا عكاشة فحسب، ولا هذا ولا ذاك من الظاهرين أو الأخفياء المعروفين فى أجهزة حساسة ووزارات ومحافظات ومؤسسات وشركات عامة، فالمئات ما زالوا يمرحون ويتبجحون، بل ويخططون ويعملون بكل همة ونشاط ضد إرادة الشعب وثورته... ومن أعجب الأقدار أن الثورات العربية الشعبية الراهنة عموما وثورة مصر خصوصا قد نجحت بفعل المد الشعبى المستمر وقوة إرادته وإصراره على التغيير، لكن –وللأسف الشديد– لم يتول الشعب الثائر منذ اللحظة الأولى زمام الأمور وإدارة الدفة لاستكمال التطهير الثورى فى الوقت المناسب، وكما نعلم تولت قيادات الجيش (وهو بلا شك جيش وطنى) زمام الأمور، وكان همها مجرد إدارة دفة البلاد فى مرحلة انتقالية بكل ما فيها من متناقضات وأوقفت آليات التطهير الثورى إلا بمقدار الضغط الشعبى وبالكاد، هذا إذا افترضنا حسن الظن فى قيادات هذه المرحلة أصلاً! إننى وباختصار شديد ما زلت أرى أن الثورة وبكل آلياتها الثورية يجب أن تستمر فى استكمال تطهير نظام الدولة من كافة مفاسد النظام السابق ومفسديه فى كل موقع، وبقوة، خاصة أنها ضاربة فى أعماق الدولة، ولم تخجل، ولم تستح من نفسها ولم تستح من مفاسدها وعار ما اقترفت يداها، وإلا سيكون البناء على أنقاض وحيات وثعابين، وهذا يخالف المنطق والسنن! إن المنطق يقتضى أن تمارس الثورة حقها فى تحقيق أهم مطلب لها "الشعب يريد تغيير النظام"، وأن أول ممارسة للشعب لقيادة الثورة يتحقق بمجرد اختياره الحر والنزيه لقيادته من رئيس جمهورية ومؤسسات تشريعية، وإن على هذا الرئيس، وهذه المؤسسات أن يعتبروا أنفسهم مفوضين من الشعب الثائر ليس فقط لإدارة الدولة، وإنما قبل ذلك هو استكمال آليات التطهير الثورى لكافة رموز وممارسات النظام السابق وبآليات ثورية، ولا يجب أن يزعجهم أو يرهبهم الصوت العالى لأنصار النظام القديم فى إعلامهم أو أى مجرميهم الذين يثيرون فى الأرض الآن الفتن ويكفّرون الناس بالثورة من واقع مناصبهم، وإمكاناتهم. إن التردد فى اتخاذ مثل تلك الإجراءات وفى الوقت المناسب قد يتسبب فى المزيد من المشاكل والصعوبات أمام مرحلة البناء. فإذا كان من الطبيعى جدا أن يستخدم كل هؤلاء أسلحتهم للحفاظ على مكاسبهم واميتازاتهم من النظام السابق، والعمل على هدم الثورة، فإنه من غير الطبيعى أو المفهوم السكوت على ذلك. إن الشعب قد قام بالثورة وحدد هدفه منها واختار قياداته، فمن الأمانة ألا تتردد هذه القيادة عن حماية الثورة واستكمال أهدافها بحسم وعزم. إن التسامح الثورى لا يمكن أن يكون مع من لا يزال يخطط ويعمل بقوة، مستغلا امتيازاته وصلاحياته وأمواله المنهوبة، ومنصبه الرفيع الذى لا يزال يشغله، ضد مصلحة الشعب وإرادته الثورية، سواء كان ذلك فى الاستمرار فى تضليله إعلاميا، أو التعامل معه بشكل غير آدمى فى كافة الخدمات والمصالح الحكومية، ووصل الأمر لسرقة مقدراته؛ حتى أموال الدعم، لا تزال تُسرق؟! إذا كان التسامح قد حدث حتى الآن مع هؤلاء ولم يرتدعوا، فإلى متى يستمر ذلك؟ --------------------------- أ. د. محمد المحمدى الماضى أستاذ إدارة الإستراتيجية بجامعة القاهرة