أكد علماء الدين أنه لكي نحتفل بثورة 25 يناير لابد أن نسترجع تاريخ الإسلام وما قام به النبي صلي الله عليه وسلم من أجل التغيير والإصلاح وإعلان الدولة المدنية. قال : العلماء إن الدروس التي يجب أن نخرج بها وما قام به النبي الكريم لإعلاء شأن الوطن كفيلة بتأسيس مجتمع صالح يقوم علي العدل والبناء والتعمير ويقضي علي الفساد ورموزه.. فلم يلجأ الرسول إلي الثورة الدموية بل لجأ إلي تغيير الواقع علي أساس من الفكر والحوار وإقامة دولة علي أساس من نسيج متماسك تلتقي فيه الآمال بالواقع. يقول د.طه حبيشي أستاذ العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر هذا عام مضي واستقبلنا عاماً جديداً من أعوام الثورة المصرية المجيدة.. وهي فترة كافية للتأمل والمراجعة.. فالثورة ليس لها من معني مقبول عند الجماهير إلا أن تكون إرادة تغيير نظام ظالم ديكتاتوري بنظام آخر أكثر عدلاً وأماناً. ومن هذا التعريف يمكن أن نقول إن الثورة لها آمال والثوار لهم واقع.. والمواءمة بين الأمل والواقع فيه نجاح الثورة وفيه اغتيالها علي السواء.. ومن أجل ذلك رأينا في تاريخ الإسلام أن النبي صلي الله عليه وسلم كان حريصاً ولايزال تاريخه شاهداً علي هذا الحرص ألا تغتال الرغبة في التغيير.. فالنبي في المدينة وجد الحال في غاية السوء من الناحية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأمن العام. يؤكد د.حبيشي أن النبي لجأ في معالجة ذلك كله إلي تأسيس فكري يتجاوز مرحلة السقوط في الهوة بين الآمال والواقع فجمع طوائف المجتمع المتباينة وأدخلهم في نسيج واحد آخي فيه بين المسلمين علي اختلاف طوائفهم فلما أبي اليهود أن يدخلوا في هذا النسيج أدخلهم في المجتمع علي أساس من قاعدة المواطنة.. ونجح المجتمع في المدنية وتغير في هدوء ولم يلجأ إلي الثورة الدموية.. فإن شئنا قلنا إن هذه ثورة بيضاء تقصد إلي تغيير الواقع فعلها النبي صلي الله عليه وسلم علي أساس من الفكر والحوار وإقامة دولة علي أساس من نسيج متماسك تلتقي فيه الآمال بالواقع من غير هوة يسقط فيها الأفراد. وفي مكة حين فتحت مكة للنبي لم يقم ثورة دموية وإنما أعلن منذ الخطوة الأولي لإقدامه علي مكة أنه يكره الدماء.. رائحتها وشكلها وآثارها.. فجمع الكل وخاطب الجميع في مكة وذكرهم بمساوئهم وهذه المساوئ تثير حفيظة الجنود الذين بلغوا عشرة آلاف جاءوا مع النبي صلي الله عليه وسلم إلي مكة فاتحين.. وكانوا ينتظرون إشارة واحدة لقطع رءوس البرجوازية في مكة ولكن النبي الذي يكره الدماء ويبصر المستقبل ويقدر علي المؤاخاة بين الآمال والواقع سأل هؤلاء الذين قاموا بإيذاء الدعوة والنبي والنظام "ما تظنون أني فاعل بكم؟" وأدرك الجميع أنهم في حرج بالغ وأن العقوبة إذا نزلت بهم فإنها عقوبة شرعية لها ما يبررها.. ولا ملجأ أمامهم إلا الاحتماء بالأخلاق والاستنصار بالغرائز فقالوا للنبي "خيراً أخ كريم وابن أخ كريم" وهنا أرسي النبي قاعدة مؤداها لابد من كسر الحلقة التي تنضم لأخواتها فتشكل دائرة من العداء تطوق أعناق الجميع وهي أن الطائفة التي ستصل إلي الحكم إذا لجأت للانتقام من سابقتها فإن سابقتها إن وصلت إلي الحكم انتهت من الأخري. ونسير في حلقة مفرغة لا يمكن القضاء عليها. أضاف د.حبيشي أن النبي كسر هذه الحلقة حين عفا عن الكل فقال "اذهبوا فأنتم الطلقاء".. هذا لون من إرادة التغيير يتحول علي يد النبي إلي واقع مشهود يتخطي الهوة الكائنة بين آمال الثائر وواقع المجتمع.. وعلينا بعد أن مر هذا العام أن نتأمل في واقعنا وفي آمالنا.. هل نحن نستطيع أن نوائم بين الآمال والواقع أم سنترك هوة بينهما نقع فيها كما وقع غيرنا من قبل؟! قال د. حبيشي : إن الأنظمة الثورية السابقة علي ثورتنا كانت لها تجاربها ونحن نستفيد من هذه التجارب .. إن بعض هذه الأنظمة الثورية كانت لها آمالها فلما أرادت أن تطبقها علي الواقع وجدت الهوة واسعة بينهما "بين الواقع والآمال" وهنا تدخل بعض الديكتاتوريين فاغتالوا الثورة وركبوا أكتافها وتحولت الثورة في ثمارها إلي مأساة. وبعض الأنظمة الثورية حين وجدت نفسها أمام هذه الهوة وجد الشعب الذي خرج منه الثوار في حالة من اليأس والإحباط. ومن هنا وجدنا الثورات في أكثر أحوالها حين عجزت عن المواءمة بين الآمال والواقع أصبحت سيئة السمعة.. ومن حسن الحظ أن مصر قد صنعت ثورة بيضاء ووصلت إلي نقطة التحدي.. آمال عريضة وواقع محدود.. هنا وهنا فقط نجد أنفسنا أمام اللغز الذي لا علاج له إلا من خلال فكر ثاقب يستفيد من تجارب الماضي في مجتمعات معاصرة. قال د.حبيشي: لقد أنبأتنا التجارب أن الهوة بين الآمال والواقع لا تحل بقطع الطرق ولا حرق المؤسسات ولا القضاء علي منجزات الأمة لأن مثل هذه الأمور تعوق ولا تؤدي إلي التقدم. الحل الوحيد هو أن يجلس علماء الأمة ومخلصوها ليأخذوا وقتهم في تدبر ما حولنا ومن حولنا من الناس ومن التجارب.. ننحي عنا ما لا يليق بنا ونستفيد بكل ما يصلح لنا ونحدد مكان الشرعية والمبادئ التي تنطلق منها الشرعية.. فالميادين والشوارع والهتافات لها دورها ولها زمانها.. فإذا ما أدت مهمتها انتقلت وسلمت الراية إلي اليد التي ستكون أمينة عليها وتعمل بمقتضاها.. أما أن تستمر الشرعية في الميادين وأسبابها في الشوارع ووسائلها قطع الطرق وتعطيل الحركة وشل النظام فإنها ستكون منذرة بحالة من الإحباط تشعر بها الجماهير ويتمنون أن لو استمر بهم الماضي الأليم. نذكر حياة النبي ونذكر أقواله وأفعاله سنجده لم يسمح أبداً أن يكون التغيير بالدم ولا بقطع الطرق ولا بتعطيل الأعمال وإنما كان التغيير عنده حركة واعية قضت علي هذه الهوة المحتملة بين الآمال والواقع. نذكر ذلك كله في عيد الثورة وعيد ميلاد رسول الله اجتمعا في وقت واحد جمعهما القدر ليرسل لأمة مصر في هذه الأيام رسالة وعليها أن تعيها. يقول د.عبدالفتاح إدريس أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر في ذكري الثورة المجيدة التي وضعت حداً للظلم والبغي والطغيان ونهب الثروات.. هذه الثورة أراد القائمون بها أن يغيروا الفساد الذي ضرب بأطنابه في المجتمع ولكن لم يفلحوا إلا في إجبار رمز الظلم علي التنحي عن حكم الدولة ولكن هذه الثورة لم تفلح حتي يومنا هذا في تغيير كثير من المفاسد التي مازالت تمثل عقبة كئودا في تغيير الأنظمة التي سادت في هذا المجتمع فذلك لأن مؤسسات الدولة بلا استثناء ظلت محتفظة برموز الفساد حتي يومنا هذا.. وذلك لأن هؤلاء الرموز الذين كان لهم ضلع كبير في إفساد الحياة العامة مازالوا يمارسون مهام وظائفهم في هذه المؤسسات حتي يومنا هذا. فإذا ما أضيف إلي هذا أن هؤلاء المفسدين ليس لديهم أدني وازع من الدين أو القيم الإنسانية فإنه لا يرجي منهم صلاح لا في الحال ولا في المآل وقد قال الله سبحانه وتعالي "إن الله لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم" ومن ثم فلا يتصور أن يتغير نظام المجتمع إلا بعد تغيير هذه القيادات الفاسدة المفسدة وتغيير فلسفة المجتمع الذي ظل ردحاً كبيراً من الزمن يطبل ويزمر للعلمانية والليبرالية والبعد عن دين الله تعالي وقيم الإنسان في أي مجتمع سوي. ولهذا فحتي تؤتي هذه الثورة أكلها كما يري د.إدريس ينبغي أن تكون هناك ثورة في داخل كل مؤسسة من مؤسسات هذه الدولة وذلك لإقصاء المفسدين من هذه المؤسسات حتي يتغير نظام المجتمع ويتحول إلي النهج الذي يريده صانعو هذه الثورة. أشار د.إدريس إلي أن رسول الله صلي الله عليه وسلم لما أراد إقامة دولة إسلامية قويمة تقوم علي نهج سوي وضع دستوراً ينظم علاقة المسلمين ببعضهم وبغيرهم من ذوي الديانات الأخري.. وآخي بين المسلمين المهاجرين والأنصار وجذب اليهود والنصاري والوثنيين ليكونوا عوناً للمسلمين لإقامة هذه الدولة.. فجعل من هذه الهجرة ثورة عارمة علي كل الأنظمة الفاسدة التي سادت يثرب قبل هجرته إليها. ولهذا قد قضي الرسول علي العنصرية وعلي الارتكان إلي النظام القبلي.. كما دعا إلي الحب والتآلف بين الناس ببعضهم وبعض فكان بين أفراد هذا المجتمع علي اختلاف نسبتهم ودياناتهم وتوجهاتهم تآلف وتعاون وتآزر حتي وجدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم يطلب معونة اليهود وهؤلاء اليهود ينشدون أمنهم ويمارسون أنشطتهم التجارية والزراعية والاقتصادية في ربوع هذه الدولة الوليدة.. مما يدلل علي أن أي دولة لا تقوم لها قائمة ولا يستتب الأمن بها إلا إذا كان فيها نظام يقضي علي الفساد الذي يقوض بنية المجتمع ونشاطه وأمنه. ومن هنا فإن المتغيي من هذه الثورة إذا أراد القائمون بها أن تحقق ما يؤمل منها أن ينهجوا نهج باني أول دولة إسلامية علي الأرض وذلك بتغيير أنماط الحياة الاجتماعية والسلوكية داخل مؤسسات هذه الدولة ليتحقق الأمن والرخاء والحرية التي يتحقق بها البناء ولا تفضي إلي أي هدم من ثوابت هذا المجتمع. ولن يتحقق هذا إلا بقطع دابر هؤلاء المفسدين الذين مازالت دواوين مؤسسات الدولة تعج بهم وتسير وفق رؤاهم وتوجهاتهم. الشيخ منصور الرفاعي عبيد وكيل وزارة الأوقاف الأسبق يؤكد أنه لم تقم الدنيا وينتظم أمرها وينصلح حالها إلا بعد ثورة علي الفساد والظلم والطغيان.. والذي يقرأ سير الأنبياء والمرسلين يجد أن دعوتهم كانت ثورة علي ما يحيط بالبيئة من فساد واستبداد ونهب للأموال.. ولذلك عندما نقرأ تاريخ أي ثورة لابد أن نرجع إلي تاريخ الأنبياء فنقرأ لنري أن الثورات لم تقم من فراغ خاصة إذا كانت ثورة علي الظلم والفساد والاستبداد ونهب الأموال وإنما أساسها هدي الأنبياء. ولذلك يقولون إن القرآن الكريم وهو المعجزة الكبري لسيدنا محمد صلي الله عليه وسلم فجر ثورة.. وفجر الطاقات البشرية.. وفتح العقول.. وهذب النفوس.. وبين معالم الحق ودعا الناس علي ذلك لتستقيم حياتهم ويستقر مجتمعهم وتهدأ نفوسهم علي أن يطبقوا العدل والإحسان والحب والمساواة والتآلف. أضاف الشيخ عبيد أنه لعل من كرامات الشيخ الشعراوي رضي الله عنه قوله "الثائر يثور ليهدم الظلم والفساد.. ثم يهدأ ليبني الأمجاد" ولعلنا عندما نقرأ سيرة سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم وأنه يوم أن فتح مكة وأهلها عذبوه وتطاولوا عليه ونهبوا أموال أصحابه وأخذوا منه كل شيء حتي ملابسه وعندما فتح النبي مكة أخذهم بين أذرعه الكريمة وأظلهم بمظلة الحب والتسامح وعفا عنهم وقال قولته المشهورة "اذهبوا فأنتم الطلقاء". ولعل أبناءنا الشباب عندما قاموا بثورتهم في 25 يناير فكرونا بكل ذلك وجعلونا دائماً نلتف حولهم ونقف معهم وننادي بإسقاط الظلم وإبعاد الظالمين ولكن الذي حز في نفوسنا أعمال هذه الفئة المأجورة التي قامت فكسرت وحطمت وأحرقت ودمرت وقتلت في الظلام ومن الخلف وخلسة لتشوه هذه الثورة ولكن شاء الله أن يفضح الظالمين الذين يرتدون ملابس الثوار وأن يهتك سترهم لتكون ثورة الشباب عظيمة كما ترجم عنها 25 يناير 2012 في ذكري الثورة الأولي فهذه الجموع المؤمنة بحقها في الحياة والمطالبة باستقرار المجتمع وإعطاء الحق للقيادات الطبيعية ليقوموا بواجبهم في تدعيم الثروة الزراعية والصناعية والتجارية لتنهض مصر وهي الرائدة في كل شيء وبلد الأمن كما قال عنها ربنا "ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين" والتاريخ الآن يطل علينا بعينيه ليسجل في ذاكرته ماذا نحن صانعون؟ يقول الشيخ عبيد إن بدل الاعتصام ننادي بالتوجه إلي المصانع والمزارع والمعامل ومن كان بلا مهنة فهنا محو الأمية وتعليم الكبار وتنظيم النسل وهي كلها قضايا قومية.. فهيا بنا نتجه إليها لنبني مجتمعاً فاضلاً يقول عنه التاريخ لقد كان هنا شباب فجر ثورة 2011 ثم قاد مسيرة البناء ورفع علم الحرية ونشر المساواة وتركوا فرصة للقيادات لتعمل وتخطط وتحارب الفقر في كل مكان وكان الشباب هم الجنود والذراع الطولي التي ساعدت وعملت وابتكرت وفجرت ينابيع الإبداع وقادت مصر حتي رفعتها إلي عنان السماء.. وها هو المجتمع الدولي يشهد لشباب مصر بأنهم إن أرادوا فعلوا وإن هموا نفذوا وبذلوا أرواحهم رخيصة فداء للوطن.