المفارقة في القضية التي تشغل العالم حالياً، قضية ما يسمى «الدولة الاسلامية في العراق والشام» («داعش»)، أن الطرف المعني بها مباشرة، أي شعوب المنطقة وأنظمة الحكم فيها، ترى أن لا بيئة حاضنة لهذا التنظيم في أي من بلدان المنطقة، وبالتالي فلا مستقبل له فيها حتى وان تمكن موقتاً، كما هي حاله الآن، من احتلال مساحات واسعة من سورية والعراق وفرض سيطرته عليها بالقوة. في المقابل، فإن طرفاً آخر معنياً بالمنطقة من زاوية مصالحه فيها، وربما حتى بدعوى مسؤوليته عن النظام والسلام العالميين بعد الحرب العالمية الثانية، أي ما يسمى المجتمع الدولي، يرى في هذا التنظيم خطراً كونياً يتجاوز المنطقة الى العالم كله وارهاباً بحتاً من دون سبب أو غاية، وأن الخطر والارهاب هذين سيصلان اليه غداً أو بعد غد. والمفارقة هنا ليست في الطرحين، فهما صحيحان الى حد كبير، انما في طبيعة الحرب التي تشن على هذا التنظيم، فضلاً عن «دولته» التي زرعت بالقوة في غفلة من الزمن و «خلافته» القروسطية المزعومة والارتكابات الهمجية التي تتم تحت رايتهما، كما في نوع الأسلحة العسكرية والسياسية والمعنوية وحتى الايديولوجية المستخدمة فيها. في جانب من هذه الحرب، الجانب الاقليمي تحديداً، لا حاجة لإثبات تهافت المنطق الذي لم يجد ما يرفعه في مواجهة تنظيم «داعش» هذا سوى منطق وخطاب التنظيم نفسه، كما تبين جلياً حتى الآن على الشكل التالي: أولاً، إعادة طرح ما سمي «المسألة الشرقية»، وحتى تحالف الأقليات الطائفية والمذهبية والعرقية في مواجهة الأكثرية في المنطقة، رداً كما يقال على ما يقوم به «داعش» من أعمال ترقى الى مستوى جريمة العصر... ذبحاً وتقتيلاً وتطهيراً طائفياً واثنياً من ناحية، وتخييراً بين اعتناق ما يسميه الدين الاسلامي ثمناً للبقاء أو الهجرة الى الخارج من ناحية ثانية. وأخطر ما في هذا الطرح أن فئات من المذهب الشيعي هذه المرة، هي تحديداً تلك التي ترتبط ب «ولاية الفقيه» الايرانية كما رسمها المرشد الأعلى السابق الامام روح الله الخميني وينفذها المرشد الحالي السيد علي خامنئي، باتت تركب عربة الأقليات هذه وتتحدث لغتها بدعوى أنها هي نفسها احدى الاقليات في المنطقة مقارنة بالأكثرية السنية فيها. منطق «داعش» نفسه وخطابه، حيث لا يظهر فرق كبير بين الخيارات المطروحة في الحالتين: في الأولى، يضع «داعش» الذي لا يعترف بالآخر غيره أمام خيار من ثلاثة: الذبح، أو اعتناق عقيدته، أو الهجرة الى الخارج. كذلك، لا تقول الثانية من جهتها إلا أن خيارها واحد من ثلاثة أيضاً: التقوقع في تحالف أقلوي ضد أكثرية لا علاقة لها ب «داعش» وفكرها، أو الانعزال في كانتونات لا تقدر أن تعيش الا بحماية أجنبية، أو الهجرة بحثاً عن أكثرية مناهضة في الخارج. ثانياً، تصوير ما يفعله «داعش» في الأجزاء التي يسيطر عليها في العراق وسورية وكأنه موجه ضد المسيحيين من دون غيرهم، وأن هدفه تهجيرهم من البلدين على الطريق الى تهجيرهم من بلدان المنطقة الأخرى كلها... استكمالاً للتطهير العنصري الذي نفذته اسرائيل ضدهم (هل هو ضدهم فقط، وضدهم كمسيحيين أم ضدهم كعرب؟!) منذ إنشائها قبل أكثر من ستين عاماً. مع أن حقيقة الأمر هي أن «داعش» يستهدف المسلمين، سنة وشيعة واسماعيليين وتركماناً ودروزاً وعلويين وأكراداً، كما يستهدف المسيحيين سواء بسواء. بل أكثر من ذلك، فهو يعتبر المسلمين مجرد «مرتدين» تجب محاربتهم وانزال الحد بهم، ولو أن فتاواه ومحاكمه الشرعية لم تصل الى الحديث عن ذلك جهارا بعد. هل يخفى في ظل ذلك أن هذا المنحى في تصوير الحال لا يخدم الحرب ضد هذا التنظيم و «دولته» و «خلافته»، لا في هذه المرحلة حيث يتمتع بالقوة والسيطرة على الأرض، ولا كذلك حين يضعف وربما تلحق به الهزيمة الكاملة في نهاية المطاف؟!. ثالثاً، اعطاء الحرب على الارهاب الذي يمارسه «داعش» صفة أنها حرب على الارهاب في بلدان المنطقة كلها، وحتى في العالم، وأن على الجميع هنا وهناك أن يشتركوا فيها لينقذوا أنفسهم منه ويعيشوا بأمان... كما لو أن الارهاب لم يكن موجوداً قبل استيلاد هذا التنظيم في العراق أولاً، ثم تمدده الى سورية ولبنان في ما بعد، ولن يبقى بعد زواله. وليس هذا هو الواقع في أي حال. ذلك أن جزءاً كبيراً من ارهاب «داعش» في العراق وسوري هو وليد ارهاب النظامين فيهما، فضلاً عن استبدادهما المزمن وعدم اعترافهما بالآخر، طيلة السنوات الماضية. وليس ارهابهما لشعبي البلدين فحسب، أقله كما تشي ثورات الشعبين المتتالية على حافظ وبشار الأسد وصدام حسين ونوري المالكي، انما كما يؤكد في الواقع العملي تاريخ لبنانوالأردن وشعب فلسطين منذ السبعينات. في الجانب الآخر من هذه الحرب، الجانب الدولي، تبدو المفارقة (عملياً، المفارقات) في ذروتها. اذ لا يقول الحاكم بأمره في المجتمع الدولي، الرئيس الأميركي باراك أوباما، الا أن هدفه من الحرب على «داعش»، ومن اقامة تحالف دولي كبير وجامع لشنها، هو منع تمدد التنظيم وسلطة «دولته» في سورية والعراق فقط لا غير. أين الخطر الكوني والارهاب الذي لا يستثني أحداً في هذه الحرب؟، بل أين النظام العالمي من أعمال القتل والذبح والتطهير العنصري التي يقوم بها «داعش» وزميلتاه «جبهة النصرة» و «القاعدة» في هذه الحال؟. في الوقت ذاته، لا حديث أميركياً أو دولياً جامعاً عن ارهاب النظامين في العراق وسورية، لا في الفترة الراهنة (حوالى أربع سنوات في سورية، وأكثر منها في العراق) ولا في الأعوام والعقود السابقة. ولا كلام عن ارهاب الدولة التاريخي في اسرائيل، ضد الشعب الفلسطيني وحقوقه أساساً وضد كل من يقف الى جانبه من الشعوب العربية سواء في لبنان أو سورية أو مصر أو العراق أو الأردن، وصولاً الى دول الخليج وشمال افريقيا. هذه الحرب، بطبيعتها الحالية وبالأسلحة المستخدمة فيها الآن، قد توجه ضربة عسكرية ل «داعش» وغيرها من التنظيمات التكفيرية في العراق، وربما في سورية أيضاً، الا أنها لن تنفع بالتأكيد في تحقيق ما تحتاجه شعوب المنطقة وتسعى جاهدة اليه: اجتثاث هذا الخطر الوجودي وغير الانساني من جذوره. نقلا عن صحيفة الخياة