استعاد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين صورة البطل ممثلة بجوزيف ستالين القائد الشيوعي الفولاذي، وذلك بعد التهامه شبه جزيرة القرم، وضمّها إلى الاتحاد الروسي . ولعلّ ذلك ما أعاد إلى الأذهان دور الاتحاد السوفييتي السابق الذي تأسس في العام ،1922 وظلّ يتوسّع بانضمام جمهوريات وكيانات إليه، حتى غدا إمبراطورية اشتراكية بعد الحرب العالمية الثانية . لم يكن بالإمكان تجاهل موسكو خلال التحالف ضد النازية والفاشية، وفيما بعد في الترتيبات الجيوسياسية التي تكرّست في مؤتمر يالطا العام ،1943 استباقاً للنتائج وتوزيعاً لمناطق النفوذ، وتمثّل هذا الدور دبلوماسياً وقانونياً على المستوى الدولي، حين أصبح الاتحاد السوفييتي دولة دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي ولها حق الفيتو بموجب ميثاق الأممالمتحدة الذي أبرم العام 1945 . لكن الاتحاد السوفييتي بعد روسيا القيصرية لم يقيّض له الدخول إلى عالم الحداثة، كما دخلته أوروبا الغربية، بما فيه من عقلانية وعلمانية وديمقراطية، فقد ظلّ بعيداً عن اللعبة الديمقراطية وعن التداول السلمي للسلطة، وقدّمت الثورة البلشفية ما يعرف بالشرعية الثورية على الشرعية الدستورية وحكم القانون، اللذين تطوّرا وتراكما في الغرب، في حين ساد فيه نمط توتاليتاري، قلدته فيه أوروبا الشرقية وبعض دول العالم الثالث، وهو ما أوقعه في شرنقة لم يستطع الفكاك منها، واستمرت الحال على هذا المنوال، رغم محاولات التغيير والاصلاح منذ العام 1956 وما بعده على يد الزعيم الشيوعي نيكيتا خروشوف، لكنها بقيت أقرب إلى نقر في السطح وليست حفراً في العمق، فقد استحكمت البيروقراطية في جميع مفاصل الدولة والحزب والمجتمع، وكانت بدرجة من القوة يمكنها كبح جماح أية محاولة للتغيير . وقد سعت قيادة غورباتشوف الذي وصل إلى الحكم في العام 1985 إلى إطلاق مشروع تغيير شامل وواسع، تحت عنوان البيريسترويكا والغلاسنوست (إعادة البناء والشفافية) لكن تلك المحاولة أدّت إلى زعزعة أركان المنظومة السياسية والفكرية والاجتماعية للنظام السوفييتي، وقادت إلى انهياره . وخلال نحو عقدين من الزمان، ظلّت القيادة الروسية الجديدة، لاسيّما الممثلة بفلاديمير بوتين تتحيّن الفرصة لاستعادة دور روسيا القيصرية أو دور الاتحاد السوفييتي الشيوعي، ووجدت في التمثّل بالقيادة التاريخية الستالينية هوى في النفوس سعت إلى تحريكه على الصعيد السيكولوجي للشعب الروسي، فستالين حكم البلاد نحو ثلاثة عقود من الزمان 1924-،1953 وظلّ الكثيرون مأخوذين بنستولوجيا صورة البطل التاريخي، التي حاول بوتين استحضارها . وهو يدرك بحكم موقعه السابق كمدير ل KGB (جهاز المخابرات السوفييتي) تأثير ذلك نفسياً، سواء باستعراض القوة والزعامة الكاريزمية، وإن اقتضى الأمر استبدال الأيديولوجيا الشيوعية بأيديولوجية غيبية، فهو لا يهمّه أن يأخذ من كل طبق ما يريد حسب حاجته . هكذا عمل بوتين وهو يسعى لاستعادة دور إمبراطوري لروسيا استدراج التاريخ، بتحديد وظيفته على النحو الذي يريده ويخدم مصالحه، وذلك للتمدّد الجغرافي والنفوذ السياسي في مواجهة فترة الانكماش والتراجع التي شهدتها موسكو خلال السنوات الثلاثين الماضية . وإذا كان انهيار الاتحاد السوفييتي أمراً غير مفاجئ، لكن شكل تدحرج النظام وتفككه كان أقرب إلى المفاجأة، فقد ظل طوال 70 عاماً يبدو أقرب إلى الجبروت والعظمة، حتى وإن كان يتآكل من الداخل ولكن على نحو غير منظور، فقد بلغت أزمته الصامتة قمتها منذ تمترس ستالين في الحكم، وأخذه بتطبيقات مشوّهة وتطور اقتصادي مرتبك واستيلاء على أراضي الفلاحين وإجبارهم على الانخراط في التعاونيات . وإن تحقق نموٌّ وتطورٌ في مجالات عديدة، ومنها الصناعة العسكرية، لكنه قياساً بما حققه الغرب يعتبر متدنّياً، ناهيكم عن الأزمات التي تركت تأثيراتها على رفاهية المجتمع وتلبية حاجاته الأساسية، تلك التي كانت في البداية بفعل تدخّل عسكري من جانب 14 دولة للاطاحة بثورة اكتوبر، ومروراً بأخطاء رأسمالية الدولة، وفيما بعد بتكريس عبادة الفرد والقضاء على أي شكل من أشكال الرأي الآخر ناهيكم عن الخسائر الفادحة في الحرب العالمية الثانية وما تركته من نتائج على عموم البلاد، على الرغم من تضحيات الجيش والشعب السوفييتي، التي قادت لا إلى انتصارهما فحسب، بل إلى الانتصار العالمي على الفاشية والنازية . لكنه من جهة أخرى كرّس الاستبداد الذي اتخذ في البداية شكل استبداد سلطوي، أي وجود نظام شمولي يريد صهر الجميع في بوتقته، وعلى حد تعبير لينين دكتاتورية البروليتاريا التي تشمل ال 9 بالعشرة ضد ال1 بالعشرة، وهو الأمر الذي برّر المجازر التي ارتكبت في العام ،1918 بزعم أن الدماء يمكن إزالتها لمجرد تحقيق منجزات لاحقة . أما الشكل الثاني للاستبداد فقد كان الاستبداد التعبوي فلا بدّ من الانخراط في أتون الثورة ضد الأعداء الداخليين والخارجيين، وحيث الاتهامات كانت تكال جزافاً ودون حساب فقد أُرسل الملايين إلى معسكرات الاعتقال وإلى الموت، لأسباب تتعلق بالتآمر أو التقاعس أو خدمة لأهداف البرجوازية والعمل لحساب جهات خارجية . ولعلّ ما أظهره بوتين اليوم سواءً في أوكرانيا أو عموم منطقة النفوذ الروسي السابقة بما فيها الأزمة في سوريا أو بالمحور الجديد مع الصين، حنين إلى الصورة الستالينية المعهودة، بما فيها على مستوى الداخل أيضاً، وهو يعتقد أن الذاكرة الروسية أو الدولية، كفيلة بأن تستعيد تأثيرات الماضي حيثما أحسن استخدامها . بوتين يدرك أن روسيا في الألفية الثالثة (عشريتها الثانية) تحتاج إلى استعادة دورها التاريخي، حتى وإن كانت لا تزال منهكة، وواشنطن ليست بأحسن حال منها لكن وخصوصاً بعد احتلال العراق العام 2003 والخسائر المادية والمعنوية التي تعرّضت لها، فضلاً عن الأزمة الاقتصادية والمالية الطاحنة التي ضربتها بالصميم، ولذلك فهو يسعى لإصلاحات اقتصادية واسعة باستخدام النفط والغاز ومحاولة القضاء على الفقر وإنعاش طبقة وسطى، وهي أهداف معقولة يسعى للترويج لها مضيفاً بذلك نستولوجيا التاريخ والدور الروسي المنشود، وإذا كان بوتين يعرف أن التاريخ لا يعيد نفسه، فإنه يمارس ذلك بنوع من المكر والدهاء والمراوغة، وربما هو ما قصده الفيلسوف الألماني هيغل بقوله: إن التاريخ مراوغ . نقلا عن صحيفة الخليج