الاستحقاق الثالث لخارطة المستقبل، وهو انتخاب مجلس النواب يمر بحالة ولادة متعثرة رغم عدم انقطاع التصريحات عن أهمية إنجاز هذه المرحلة لاستكمال المنظومة التشريعية، باق حوالى أسبوع على الموعد الدستورى لبدء إجراءات الانتخابات البرلمانية ، ولم يصدر قانون تقسيم الدوائر الانتخابية، ولم تقتنع الأحزاب بطريقة إجراء الانتخابات التى تحرمها من تداول السلطة لتركيزها على النظام الفردى الذى يستحوذ على معظم المقاعد. هناك أحزاب سياسية تسعى للتحالف للتغلب على سلبيات القانون، وهناك محاولات من تيارات أخرى لخطف البرلمان، وهناك ترشيحات لرئاسة المجلس الجديد تتجاهل طريقة انتخاب رئيس المجلس والوكيلين طبقًا للدستور، وهناك باب خلفى مازال مواربًا يسمح بعودة أصحاب الأيادى الملوثة لاستئناف أدوارهم فى العبث والتهليب والعيش من ريع الحصانة. كنت فى زيارة خاطفة إلى مبنى مجلس النواب (الشعب سابقًا) يوم الأربعاء الماضى. أعرف فيه كل سنتيمتر، حيث كنت أقوم بتغطية جلساته هو ومجلس الشورى لمدة 20 عامًا متصلة، حضرت فيها فترة فتحى سرور الذى ضرب رقمًا قياسيًا فى رئاسته للمجلس، ولن تتكرر هذه الفترة لأحد مرة أخرى بعد أن جعل الدستور الجديد انتخاب رئيس المجلس لمدة فصل تشريعى ولا يجوز أن تمتد لأكثر من فصلين تشريعيين متتاليين، يعنى أقصى مدة لرئيس المجلس 10 سنوات، ويجوز إعفاؤه من منصبه فى أى وقت إذا أخل بالتزامات المنصب بطلب موقع عليه من ثلث الأعضاء ويصدر قرار الإعفاء بموافقة الثلثين. يطيب لى الجلوس فى البهو الفرعونى عندما أدخل مبنى البرلمان خاصة عندما تكون الزيارة بعد غياب طويل، هناك عمليات تطوير وتجديد تتم ببطء لبعض المكاتب الرئيسية، البهو الفرعونى صامت مؤقتًا، البهو شاهد على التاريخ فقد شهد مقتل على ماهر رئيس وزراء مصر الأسبق، وبطرس غالى الكبير، وشهد مؤتمرات صحفية ومؤامرات من حزب الأغلبية، وخططًا من الأقلية، كما شهد ولائم أحمد عز التى كان يقيمها نواب الأغلبية على شرفه، البهو الفرعونى خرجت منه روائح الاستجوابات والأسئلة وطلبات الإحاطة، وانبعثت منه زفارة الأسماك والجمبرى، والديوك الرومى، والفطير المشلتت. كان «عز» قد أحكم قبضته الحديدية على البرلمان خاصة فى الدورتين الأخيرتين من الفصل التشريعى (2005) وبعد انتخابات (2010) كان هو الرئيس الفعلى لمجلس الشعب و«سرور» الرئيس التنفيذى. ووصل الأمر به أى عز أن أصدر كروتًا لنواب الحزب الوطنى لضمان حضورهم الجلسات فى الأوقات الضرورية عندما يكون الأمر متعلقًا بتمرير مشروع قانون مهم أو إسقاط عضوية نائب معارض، فيعقد «عز» اجتماعاً لنواب الوطنى فى أحد الفنادق الكبرى بالمبيت ويوزع عليهم الكروت ويلزمهم بتسليمها إلى مجموعة شباب تابعين لمكتبه يقفون على أبواب مجلس الشعب، كل كارت مدون عليه اسم النائب الذى يحمله، ويقوم «عز» بحصر الكروت، والنائب الذى لا يسلم الكارت الخاص به يعتبر غائبًا بالنسبة ل«عز» لكنه حاضرا بالنسبة للبرلمان، ويقبض البدلات والمكافآت، أصعب شىء على النائب أنه يكون غائبًا من وجهة نظر عز، لكنه مش مهم يحضر الجلسات الأخرى أو لا يحضر فى كل الأحوال هو قابض. مررت بعد خروجى من البهو أمام غرفة صغيرة أمام قاعة الجلسات الكبرى كانت فى السابق يطلق عليه مخزن أسرار «عز». هذه الغرفة صغيرة جدًا لا تزيد مساحتها على أمتار قليلة، ولا تتسع إلا لمكتب واحد وكرسيين وجهاز كمبيوتر، وعليها حارس من الخارج، ودائمًا مغلقة، ولا يدخلها إلا عز وشخص آخر، أى شخص يختاره «عز» للتداول فى هذه الغرفة أثناء سير الجلسات، كان عز يضع فى هذه الغرفة خطط السيطرة على المناقشات فى القاعة، وطريقة الرد على الاستجوابات التى يقدمها نواب المعارضة إلى الحكومة، حيث ابتدع عز طريقة جديدة اطلق عليها التداخل أى دخول نواب الحزب الوطنى فى مناقشة الاستجوابات بتقديم اسئلة تدعم موقف الحكومة، كما كان عز يضع فى هذه الغرفة تعديلات القوانين المطروحة للمناقشة من وجهة نظر الحزب الوطنى، أو من وجهة نظره الشخصية، وكان يحاسب فيها نواب الحزب الوطنى الذين يخرجون عن خطة الكوتش. قاعة الجلسات الرئيسية فى حيرة، هل المبانى تشعر بالحيرة مثل البنى آدمين؟ نعم إذا أردت أن تحشر الفيل فى المنديل، فالفيل يشعر بالحيرة وقاعة الجلسات لن تسع لنواب المجلس الجديد بعد زيادة العدد، وتصميمها لا يسمح بإجراء توسعات فيها، وهناك خطة للاستيلاء على شرفة الصحافة، وتخصيصها للنواب الذين لا يجدون أماكن لهم فى القاعة، الحيرة التى قد تواجه قاعة الجلسات حاليًا سوف تتحول إلى أزمة، لأن النواب الجدد لن يكونوا من المزوغين، مثل نواب الحزب الوطنى المنحل الذين كانوا نواب سريحة لا يستقرون فى مكان، هم وجدوا للبحث عن لقمة عيشهم وليس للتشريع والرقابة، القاعة كانت تبدو شبه خالية أثناء عقد الجلسات، لم يعقد مجلس الشعب جلسة واحدة قانونية، كانت كل جلساته باطلة، مخالفة للدستور الذى ينص على «لا يكون انعقاد المجلس صحيحًا، ولا تتخذ قراراته إلا بحضور أغلبية الأعضاء». لم يطبق هذا النص فى السابق إلا عند حضور رئيس الجمهورية لأداء القسم بعد إعادة الاستفتاء على استمراره أو عند افتتاحه الدورة البرلمانية، وعند قيام رئيس الوزراء بإلقاء بيان الحكومة، ما عدا ذلك فكان المجلس يعقد جلساته بحوالى 50 نائبًا فى معظم الأحيان ويوافق على مشروعات القوانين فى غياب باقى النواب. وأنا أدير ظهرى للقاعة وجدت مكتبًا يقوم العمال بترميمه ويجرى فيه العمل علي قدم وساق، توقفت عنده ودعوت الله أن يفك ضيقة الذى كان ساكنه!!