«الفلول كلها مشتاقة لك»..نطقت بهذه العبارة في تلقائية غريبة، وأنا أدخل البهو الفرعوني بمجلس الشعب، عندما قررت زيارته بعد أن علمت انه تحول إلي «قشلاق» ينام فيه الجنود المكلفون بحراسة المجلس من محاولات اقتحامه. لم أكن رسول غرام من فلول الحزب الوطني المنحل إلي البهو، ولكن شعوري باتساع مساحة اللوعة والحسرة واللهفة، بالاضافة إلي آلام الفراق التي تعتصر قلب كل «فل» جعلني أقذف بهذه العبارة في وجه كاتم أسرار الفلول.. وشاهد الاثبات الأول علي الصفقات المريبة التي عقدوها فيه، بدءا من خطط تقسيم وتوزيع أراضي الدولة عليهم.. إلي تزوير الانتخابات وحيل الالتفاف علي تنفيذ أحكام القضاء.. إلي صفقات الاستيلاء علي أموال البنوك.. إلي الاتفاق علي سلق القوانين والاتجار في التأشيرات والعلاج علي نفقة الدولة، وتهريب المخدرات والآثار والعملة.. إلي تلفيق الاتهامات للمعارضة.. حتي الأعراض لم تسلم من الأذي في جلسات النميمة التي كان يعقدها الفلول في البهو من أمثال نواب سميحة ونواب السيديهات الفاضحة ونواب المنشطات وقصص الفحولة. لو قررنا ترتيب الأسباب التي أدت إلي قيام ثورة 25 يناير لاحتل الفساد السياسي «رقم واحد».. ولو قررنا عمل احصائية بأسماء الشخصيات التي أفسدت الحياة السياسية في مصر لجاء اسم «أحمد عز» في المقدمة. هذا القصير المكير هو صاحب حق الملكية الفكرية في تحويل البهو الفرعوني من ناد سياسي يلتقي فيه النواب لتبادل الآراء والأفكار حول الموضوعات المطروحة علي المجلس، وتشكيل جبهات المواجهة مع الحكومة حول مشروعات القوانين المحالة إلي المجلس إلي مطعم أشبه بالمطاعم الشعبية المنتشرة في حيي السيدة زينب والحسين والمتخصصة في الفتة والكوارع.. وبتشجيع من «عز» تباري فلول الوطني في اقامة الولائم داخل البهو الفرعوني التي كان يدعي إليها بعض الوزراء، وأحيانا الدكتور سرور، كما تباري النواب في الاعلان عن الأكلات التي تتميز بها محافظاتهم مثل الفطير المشلتت الذي كان يأتي من المنوفية.. والأسماك من بورسعيد والاسكندرية.. والجبن القديم الأحمر والخبز الصعيدي من الصعيد. كان «عز» يهدف من وراء تحويل البهو إلي مطعم فتة وكوارع إلي إهانة مجلس الشعب وكسر شوكته، وفرض نفوذه علي كل شبر فيه، والتشويش علي الاجتماعات التي كان يعقدها نواب المعارضة والمستقلين لوضع خطط مواجهة الحكومة أثناء مناقشة الاستجوابات ومشروعات القوانين. البهو الفرعوني هو المكان الوحيد الذي لم تلمسه النيران التي اندلعت في مجلس الشوري في حريق أغسطس الشهير، الذي أتي علي مجلس الشوري بالكامل وأجزاء كبيرة من مجلس الشعب.. ولم تمتد النيران إلي البهو والذي كان سببا في نجاة قاعة الجلسات الرئيسية بالشعب من الدمار.. بالمناسبة: الحريق بدأ من مجلس الشعب وقام سرور ب «بتلبيس» الموضوع برمته ل «صفوت الشريف». وتم اغلاق الملف، ولم تعلن الأسباب الحقيقية وراء الحريق! والبهو الفرعوني شاهد علي أحداث سياسية كبيرة وقعت في مصر خلال عشرات السنين منذ بدء الحياة النيابية الا ان هناك حادثاً طريفاً نلطف به الأحداث السياسية المكلكعة ألا وهو ضياع حذاء الدكتور عاطف صدقي رئيس الوزراء الأسبق رحمه الله. كان الدكتور صدقي قد حضر إلي مجلس الشعب لإلقاء بيان وبينما هو يتحدث مع وكيل المجلس، تسلل ماسح الأحذية المرخص له بالدخول إلي مجلس الشعب إلي قدمه، وسحب حذاءه بالراحة.. وكان صدقي واخد راحته علي الآخر في الحديث وهو جالس فوق مقعد وثير. وهرول ماسح الأحذية إلي البهو لتلميع حذاء رئيس الوزراء، وغاب ماسح الأحذية، ربما قد انشغل في تلميع حذاء نائب مهم! ودخل الدكتور سرور القاعة، وفتح الجلسة ونادي علي الدكتور صدقي لإلقاء بيان الحكومة، وقف صدقي، ولم يجد الحذاء في قدميه، وصاح: الحذاء ضاع، واضطر إلي دخول القاعة حافيا.. وانتشر الحرس داخل المجلس للبحث عن ماسح الأحذية. وعاد «رفعت» بالحذاء وأصر علي الاعتذار للدكتور صدقي، وقال له: أنا عارف يا سيادة الرئيس انك ستلقي بيانا مهما أمام المجلس، وكان واجبا عليّ أن أمسح حذاءك. وعفا عنه صدقي! أما أهم حادث سياسي شهده البهو الفرعوني فهو مصرع الدكتور علي ماهر رئيس وزراء مصر الأسبق يوم 24 فبراير عام 1954. كان «ماهر» قد توجه إلي مجلس النواب (مجلس الشعب حاليا) لإلقاء خطاب بتقرير إعلان الحرب علي دول المحور، ووقوف مصر إلي جانب الحلفاء، وبعد انتهائه من خطابه مر من البهو الفرعوني قاصدا مجلس الشيوخ (مجلس الشوري حاليا) فاعترضه في البهو محمود عيسوي المحامي وأطلق عليه أربع رصاصات من مسدسه أردته قتيلا في الحال. وكشفت التحقيقات أن «عيسوي» كان يؤمن بالتحالف مع دول المحور ضد الحلفاء. أعتقد أن أشواق الفلول إلي البهو الفرعوني سوف تطول كثيراً جداً. ولن يلدغ الشعب الذي قام بثورة 25 يناير من أجل القضاء علي الفساد بكافة ألوانه من جحر الحزب الوطني المنحل مرتين.. ولن يمنح ناخب واحد أي فل شرف تمثيله تحت قبة برلمان الثورة. وسوف يخرج لهم البهو الفرعوني لسانه قائلا لهم: باي.. باي! وسوف يعود البهو مع إشراقة شمس برلمان الثورة إلي منتدي سياسي لتبادل الآراء ووجهات النظر والتعاون بين النواب الحقيقيين حول القضايا التي تهم الشعب وتهم كل بيت مصري وسوف يتعاون نواب برلمان الثورة لبناء مصر الجديدة.. وسيتم اغلاق مطعم أحمد كفتة إلي الأبد.