كنا حتى وقت قريب جداً بمجرد أن تقع عين أحدنا على لص تورط في سرقة أو شرع في ارتكابها يصرخ بأعلى صوته بالمحيطين به من المارة: «امسك حراميييي، امسك حراميييي» وفي لحظات يجيبه أهل النخوة والمروءة وما أكثرهم، ويتحول الشارع إلى ساحة للجري يحاول فيها كل شخص الوصول إلى هذا الحرامي قبل غيره وعند الإمساك بالمجرم يقام على قلة شرفه حفل من اللطم واللكم والصفع والركل والسباب وكل مفردات الإهانة. كان المجتمع وقتها يكره اللصوصية ومستعد لمواجهتها بأي ثمن، وبالتالي كان الحرامي هو الآخر يفكر ألف مرة قبل أن يرتكب جريمته ويتحول فريسة لها، علما بأن لصوص هذا العصر كانوا من الغلابة، فلا يسرقون أراضي الدولة ولا يهربون الدقيق ولا يحتكرون السلع ولا يأخذون القروض بضمانات وهمية لتنتفخ جيوبهم بالمال الحرام، بل كان كل ما يعنيهم أن يجدوا لأنفسهم لقمة عيش يأكلونها أو يمنحونها لأهلهم وذويهم، لذلك لم يزد لصوص الأمس على كونهم: «حرامية غسيل» أو حرامية بيض وفراخ وبط أو نشالين في أتوبيس من أتوبيسات النقل العام. أذكر جيداً وأنا في المرحلة الإعدادية عندما كنت عائدا من مدرستي راكباً أتوبيس رقم 104 المعروف بزحامه الدائم إذا بضجيج وزعيق حولي وإذا بمجموعات تقفز من الأتوبيس خلف نشال قيل إنه هبش محفظة أحد الركاب، ورغم أنه لم يكن بالمحفظة سوى البطاقة الشخصية وورقة بخمسة قروش تناوب الركاب على التنكيل بالرجل الذي كادت قدماه تعجز عن حمله من شدة الجوع، ومن استغاثاته التي أجبرتني على التعاطف معه ولا يمكنني نسيانها متى حييت: «اعطوني لقمة آكلها أولا، حرام عليكم، لم يدخل إلى فمي شيء منذ الصباح «فجاءه الرد: «خذ، خذ، خذ» –طبعا لكمات وروسيات– حتى أشرف الرجل على الموت. وفي يوم من الأيام تغيرت مصر لأسباب كثيرة، إذ لم تعد القيم هي القيم ولا الأولويات نفس الأوليات وكأننا ذات ليلة نمنا في مصر التي كنا نعرفها ثم استيقظنا على مصر أخرى غريبة عنا تماما محملة بالخوف والتردد والشك وممزقة الأوصال ومتفرقة الشمل، الأخ يبيع أخاه لمصلحته والأب يغتصب ابنته والزوجة تخون زوجها والجار يعتدي على عرض جاره والدين تجارة لبلوغ مكاسب رخيصة والحرامي الذي كان يخافنا بالأمس أصبح يُخَوفنا ويجرينا أمامه بعد أن كنا نجري خلفه، إذا بالحرامي صاحب نفوذ وسطوة، يسرقنا جهارا نهارا دون أن يعمل حسابا لأحد. خذ عندك واحد من أدلة قبولنا الخضوع للحرامية مهما كانت جرأتهم على أموال الناس وعلى أرغفتهم التي قد تكفي بالكاد سد رمقهم: هنا في قلب القاهرة بحي ميت عقبة عند تقاطع شارع وادي النيل مع المحور حيث توجد الشركة العامة لمخابز القاهرة الكبرى التي تقوم باستهلاك حوالي 700 جوال دقيق يوميا لإنتاج رغيف العيش المدعوم والمفترض وصوله إلى مستحقيه والحقيقة أن الشركة تعمل بكامل طاقتها منذ الصباح وتقدم رغيفا مميزا وفاخرا، لكن: هل يصل هذا الرغيف فعلا إلى المواطن؟ بالطبع لا، فحسب شهادة الشهود أن المخبز يبدأ إنتاج الرغيف منذ الساعة الثامنة صباحا إلا أنه بمجرد خروج المنتج وفي منتصف الطريق بين المخبز وكشك التوزيع يقف اثنان من البلطجية ليستوليا على نصف كمية العيش المخبوز بمنتهى الوقاحة وعلى عينك يا تاجر ثم يضعان العيش المستولى عليه في عدد من الباكيات «مراكز التوزيع بالنسبة لهما» ثم يقومان بنقل بعض ما نهبوه إلى قرى: «كرداسة وكفر حكيم والمعتمدية» ليباع هناك الرغيف بسعر 20 قرشا بينما تصرف بقية الكمية كعلف للبهائم ورغم تكرار هذه العملية غير الأخلاقية وغير القانونية كل يوم تقريبا، يتردد الناس هناك في الإبلاغ عن عمليات السطو هذه خوفا من أن يتعرضوا لعقاب من البلطجية وعندما تجرأ أحدهم بتقديم بلاغ لأحد القيادات الأمنية اعتراضا على ما يحدث فوجئ بأحد البلطجية يتصل به ويعاتبه على ما فعل من الهاتف النقال لهذه القيادة الأمنية وغير بعيد عن هذا المكان وفي وسط الشارع قام شخص آخر ببناء حجرة لاستغلالها في غسيل السيارات، أما كيف حصل على الكهرباء؟ بالسرقة طبعا، كيف وفر المياه اللازمة لهذا النشاط؟ بالسرقة طبعا كيف يُترك هؤلاء وأولئك دون رادع؟ لأننا في زمن يعمل فيه حساب المجرم قبل الضحية، الظالم قبل المظلوم، لأننا في زمن لا يصح فيه إلا الخطأ ويخطأ فيه الصحيح لأننا في زمن اعتياد القبح والقبول بغياب القانون وتحكيم اللامنطق. أريد من أي عاقل أن يقدم لي تبريرا لتمسك الدولة بالدعم وهي تعلم يقينا أنه لا يذهب لمستحقيه، أريد من أي عاقل أن يبرر لي سببا لخوفنا من اللصوص وغض الطرف عنهم وتركهم يعيثون في جيوبنا تجريفا ونهبا، ما يدهشني أنهم إذا كانوا أقوى بالباطل فنحن أقوى بالحق إذا كانوا مسلحين بالبلطجة فنحن خير أجناد الأرض، لا ينبغي أن نخشى في الحق لومة لائم ولا جشع ظالم ولا تهديد مجرم، علينا أن ندرك أنه لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا وأن الساكت عن الحق شيطان أخرس، وأننا لهؤلاء اللصوص بالمرصاد وأن أياً منا لن يتردد أبدا إذا ما وجد أحدهم متورطا في سرقة أو نهب أن يصرخ بأعلى صوته: «امسك حرامي، امسك حرامي».