استمرار «الإمبراطورية الأمريكية» في قيادة المجتمع الدولي لقرن كامل مبادئ تحدد استراتيجية أمريكا وتتراوح بين الدبلوماسية والعقوبات والحل العسكري لم يكن خطاب الرئيس الأمريكي باراك أوباما الأسبوع الماضي مجرد عرض يعلن فيه رؤيته أو السياسات الأمريكية الخارجية التي يعتزمها خلال الفترة المتبقية من رئاسته - حتي العام 2016 – بل كان أخطر وأعمق مما أظهرته وسائل الإعلام أمريكية كانت او دولية . فما بين سطور هذا الخطاب والذي ألقاه أمام خريجي دفعة هذا العام بأكاديمية ويست اند العسكرية وهي الدفعة الاولي منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر التي لن يتم إرسالها إلي أفغانستان أو العراق نجد أوباما يعلن رؤية الدولة أو ان صح التعبير «الامبراطورية الأمريكية» للقرن الجديد، لقد خرج الرئيس الأمريكي ليعلن عزم أمريكا للاستمرار في زعامة العالم لقرن قادم، وبين سطور خطابه كانت الرسائل الموجهة للمجتمع الدولي حلفاء وفرقاء علي السواء، ومن المؤكد أن هؤلاء فهموا الرسالة واستلموها حتي دون ان يخوض الرئيس الأمريكي في تفاصيل آليات هذه الاستراتيجيات الجديدة والمرتكزة علي قوي تكنولوجية وسياسية واقتصادية وعسكرية ثلاثية الأبعاد أبدعها تخطيط هائل احتفظت أمريكا بمعظمه طي الكتمان. وإن كان أوباما حدد أطر هذه الاستراتيجيات بأربعة مبادئ تحسب الاولي منها له والاخري هي نتاج تخطيط مستمر منذ سنوات عكف عليه حماه المصالح الأمريكية و هؤلاء لا يحسبون علي حزب أو ادارة بعينها بل وظيفتهم التخطيط للحفاظ علي استمرار أمريكا في قيادة العالم لأجل غير مسمي! هذه المبادئ كالتالي: - ان الولاياتالمتحدة قررت التخلي عن تحمل عبء وتكلفة قيامها بدور الحارس لتجارة وأمن العالم وان علي المجتمع الدولي تحمل تكلفة هذه المهمة والمشاركة فيها مع استمرار واشنطن في القيادة . وأن واشنطن قد تتدخل بشكل منفرد وباستخدام القوة العسكرية إذا لزم الأمر وعند الضرورة وهنا نجد أوباما يحدد هذه الضرورة بتعرض الأمريكيين أو مصالحهم أو اقتصادهم أو حلفائهم للتهديد. وغير ذلك فإن الولاياتالمتحدة ستستخدم اساليب تتراوح ما بين الدبلوماسية والعزل والعقوبات وحتي الحل العسكري متعدد الأطراف وأن أوروبا ستكون مسئولة بالإنابة عن حماية المصالح الغربية في أوروبا الشرقية وبقاع أخري من العالم تتشارك فيها مصالحها مع الولاياتالمتحدة بينما تطور الولاياتالمتحدة شركاتها مع دول اخري في بقية دول العالم لخلق قوي تدخل سريع تتولي التعامل مع ما يهدد المصالح الأمريكية لاسيما في المنطقة الممتدة من جنوب آسيا وحتي الساحل - ويقصد بذلك عالمنا العربي والإسلامي الممتد من باكستان ومرورا بالجزيرة العربية و شمال و شرق افريقيا وحتي ساحل الأطلسي. - أن الإرهاب مازال يشكل الهاجس الأمريكي الأول وانه حتي مع مطاردة وإضعاف القاعدة إلا أن المتعاطفين معهم ومن يوصفون بالراديكاليين الاسلاميين يظل هؤلاء يشكلون التهديد والخطر الأساسي بالنسبة لواشنطن، لذا فإن مجلس الأمن القومي الأمريكي بناء علي طلب من الرئيس اوباما اعد خطة تتضمن اقامة شبكة من الشراكات مع دول و جهات بهذه المنطقة وحيث ستقدم الولاياتالمتحدة المساعدة والتدريب والتسليح اللازم لكي تتولي هذه الدول والجهات مهام احتواء و محاربة الارهاب، ولذا طالب اوباما من الكونجرس الأمريكي ميزانية قدرها 5 مليارات دولار لتمويل هذه الخطة. أي ان الولاياتالمتحدة ستتوسع في نهج الحرب بالإنابة – توفيرا للأرواح والنفقات بينما تضمن الحفاظ علي مصالحها. وقد اوضح أوباما مثالا علي تفعيل هذا المبدأ بمجهود إدارته لمساعدةالشعب السوري عن طريق دعم ماوصفه بالمعارضة السورية المعتدلة ودعم الشراكة مع كل من تركيا والأردن ولبنان والعراق لمواجهة الإرهابيين الراديكاليين عبر الحدود مع سوريا وديكتاتورية النظام السوري (حسب وصف الرئيس اوباما) وأن دول المنطقة مع ذلك تحمل تكلفة الحرب علي الارهاب ! - ان الولاياتالمتحدة والتي كانت وراء انشاء الأممالمتحدة وحلف شمال الأطلسي وصندوق النقد والبنك الدوليين في أعقاب الحرب العالمية الثانية تري الان ان العالم قد تغير وأن الأداء التقليدي لهذه المنظمات والقوي غير مناسب للوقت الراهن و للمتغيرات التي حلّت بالعالم! وانه لابد من إحداث تغييرات تتناسب والعصر لاسيما في الأممالمتحدة والناتو وحيث سيتوجب توسيع دور قوات حفظ السلام الدولي عبر قوات من دول مجاورة وهو الأمر الذي ستقوم الولاياتالمتحدة بالتأكد من تعضيده عبر دعم الدول التي ستقوم بهذه المهمه وبذلك لن تكون الولاياتالمتحدة بحاجة لإرسال قوات الِي تلك المناطق . - ان الولاياتالمتحدة ستستمر في الدفاع عن الديموقراطية وحقوق الانسان حول العالم واعتبارها قضية أمن قومي بالنسبة لامريكا التي تريد حماية تجارتها وأمن مواطنيها حول العالم وان اوباما سيسعي لإغلاق معتقل جوانتانمو سيء السمعة، ولكن لن تستمر أمريكا طويلا في التغاضي عن أنظمة حليفة تمارس القمع علي مجتمعاتها المدنية! انتهت المباديء الأربعة التي دشنت بها أمريكا سياساتها للقرن الجديد بالفعل وبصمت و منذ سنوات، وجاء أوباما فقط الآن ليعلنها، فالولاياتالمتحدة بعد مغامرة الحرب في العراق والتي خدم فيها مع أفغانستان حوالي مليونان ونصف جندي أمريكي، دخلت في عهد أوباما مرحلة تنفيذ الهيمنة التكنولوجية والحرب عن بعد والطائرات والغواصات بدون طيار أو قائد ويمكنها الآن استهداف أي هدف عن بعد دون التضحية بجنودها بل وفي طور الاستعداد لتجربة المقاتلين الاليين، نجدها تدع كل هذا حيز الردع مفضلة توزيع أدوار الحرب بالإنابة بينما تريد التفرغ لمواجهة المارد الأصفر الصاعد وتطويقه اقتصادياً فلا بريكس تفزعها ولا حديث عن ضرب الدولار يخيفها لأن واشنطن متأكدة تماما من ان نهاية الدولار تعني نهاية العالم. ولكن ماذا بشأن عالمنا نحن؟ من الواضح ان الولاياتالمتحدة وهي تفرض زعامتها علي العالم وتستعد كما أسلفنا لحقبة جديدة تتخلي فيها عن أسلحة الردع التقليدية وتضاعف قدراتها التكنولوجية والعسكرية دون ان تضحي بجندي أمريكي أو بدولاراتها، ومع احتفاظها لإسرائيل بدور مدير الأمن والوكيل الاستخباراتي من الواضح انها أيقنت بأن منطقتنا مقدور عليها عبر حروب الإنابة ومخافرها في المنطقة، التي ستستمر مشغولة بمكافحة الإرهاب الذي تم استقطابه علي أراضيها بعيداً عن مناطق المصالح الأمريكية في القرن الجديد، فأمريكا لن تكون بحاجة للتكسب من الاتجار بنفط العرب بعد سنوات قليلة بل ستكون علي قمة مصدريه في العالم وفي نفس الوقت لن تتقبل ان يحسب من حلفائها من يمارس القمع علي أرضه – طبعا هذا كان مقبولاً في السابق وفق المصالح الأمريكية – لذا قد لا تمانع في تغيرات جديدة علي الأرض في منطقتنا حتي لو طالت حلفاء قدامي! ولن تتردد في ضرب منفرد كما تفعل باليمن أو اللجوء لتدريب موالاة كما يحدث بالصومال أو انتظار تسليم نظام الأسد لآخر كمية من الأسلحة الكيماوية لديه حتي توكل بالانابة من يطيح بحكمه وفي نفس الوقت تقوم بالبحث عن حلفاء يتولون المهام الخطرة في ليبيا التي تبدو مرشحة لاولي تلك المهام. أما فيما يخصنا فإن حديث أوباما عن مصر خلال هذا الخطاب لم يفت علي كثيرين، حين حرص الرئيس الأمريكي علي القول بان واشنطن «تقر» بان علاقتها مع مصر مبنية علي المصالح الأمنية من معاهدة السلام مع إسرائيل الِي مجهودات مشتركة لمكافحة التطرف، لذا فهم في واشنطن لم يوقفوا هذا التعاون مع الحكومة الجديدة، لكنه مع ذلك أضاف بأنهم سيستمرون في الإلحاح والضغط من اجل الإصلاحات التي طالب بها الشعب المصري. بالطبع كلام أوباما والذي يحمل في طياته الكثير من ملامح الموقف الأمريكي تجاه مصر يحمل ايضا تلميحا برغبة أمريكية في ان تكون مصر قوة إقليمية يعتمد عليها في مهام الإنابة الأمريكية المزمعة تلك، لاسيما في الشمال الافريقي!! ولكن واشنطن التي تركت العنان لتلويحات موجهة بدت كجزرة من جهات بعينها بالولاياتالمتحدة لتشجع دور اثيوبي مزعوم في منطقة الشرق الافريقي بينما يترك لأديس أبابا اللعب بتهور استعراضي بشأن ملف المياه، نجدها تتمهل في قياس احتمالات الاعتماد علي مصر بالنسبة لمنطقة القرن الافريقي رغم ثقتها بأن اثيوبيا أضعف من ان تقوم بهذا الدور!! و يبدو أيضاً كما فهمت من مراقبين هنا ان واشنطن وبعد ان تابعت انتخابات الرئاسة في مصر عن كثب، متمهلة بانتظار نتائج الانتخابات التشريعية وفي نفس الوقت مستمرة في انتظار رد مصري واضح بشأن طلبها بالمصالحة مع الإخوان وحيث سيكون للبرلمان صلاحيات أكبر من صلاحيات الرئيس حسب الدستور، وخلال ذلك فإن واشنطن ستسارع بإرسال سفيرها الجديد الِي مصر مع توصية بأن يكون جادا في مسألة قياس سيطرة المؤسسة العسكرية علي صنع القرار والتحكم في العملية السياسية في مصر. والضغط مجددا لضمان وجود إخواني ضمن أي منظومة سياسية في مصر بحيث يمكن ضمان آلية لمشاركتهم في الحياة السياسية مع رصد واقعي لدرجة التأييد والنفور الشعبي تجاه الاخوان لدي الرأي العام فهاجس واشنطن الان هو احتمال عدم حصول أي من التيارات السياسية في مصر علي اغلبية برلمانية مما سيضع مصير العملية السياسية علي مفترق طرق يهدد حدوث استقرار داخلي لاسيما ان حدثت أزمة اقتصادية طاحنة مرتقبة بالتزامن مع عدم سيطرة رئيس الجمهورية الكاملة بموجب صلاحيات الدستور الجديد! وفي كل الأحوال ستكون الانتخابات البرلمانية هي المحك بالنسبة لواشنطن لتوضيح شكل العلاقة وسياستها المرتقبة مع حكومة مصر «الجديدة».